“كانت ولادتهم معجزة في حد ذاتها، فأمهاتهم لم يحبلن بهم إلا بعد سنوات طويلة من التلقيح الصناعي وها هن يبكينهم الآن بعدما قتلوا في العدوان على غزة، لكنهن ربما أفضل حالا من أخريات توقف علاجهن بسبب الحرب ولم يلدن على الأقل طفلا يثكلنه”، بهذه الكلمات افتتحت صحيفة هآراتس الإسرائيلية تحقيقا عن مأساة عشرات الأمهات في قطاع غزة.
كان على أمل أن تخضع لجراحة وتلقيح صناعي سمح لها أخيرا بأن تحمل للمرة الأولى والأخيرة، وبعد نحو 5 سنوات هي تقريبا السنوات التي قضاها طفلها خالد على هذه الأرض، عصفت قنبلة إسرائيلية بيت العائلة في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتهوي أمل إلى قاع الحزن، حزن يطفح عاصفا كلما تذكرت الكفاح الذي خاضته لتصبح أما.
“الموت حق.. لكنه أهون علي من العيش من دون خالد. كان أفضل حدث في حياتي”، تقول الأم الثكلى للصحيفة الإسرائيلية.
عرف سكان غزة كل أنواع الفقد، لكن مأساة من خضعوا للتلقيح الصناعي فريدة من نوعها، في مجتمع يقوم على العائلة الممتدة ويصنع فيه الأطفال فرحة الأيام العادية، كما تقول هآرتس.
رانيا أبو عنزة مثلا حُبلت بوسام ونعيم بعد علاج 10 سنوت، لكنهما لم يعيشا إلا 5 أشهر، قبل أن تحصدهما غارة إسرائيلية في رفح.
أخريات فقدن الأمل الوحيد في الأمومة، فقد قطعت الحرب علاجهن المعقد، بسبب الحصار الذي أوقف تدفق الإمدادات الطبية، والقصف الذي دمر آلاف الأجنة المجمدة.
4 آلاف جنين
وفي أول أيام الحرب لوحده 7 أكتوبر/تشرين الأول كانت نحو 50 امرأة غزية في منتصف عملية حقن الهرمون تحضيرا لاستئصال الجنين في “مركز البسمة للإخصاب وأطفال الأنابيب”، في حين كانت 10 أخريات على بعد أيام فقط من تسلم أجنتها، حسب بهاء العيني مدير المركز وأحد رواد التلقيح الصناعي في غزة.
يقول العيني لهآرتس إن 4 آلاف جنين مجمد كان في العيادة، نصفها يعود إلى أزواج لم يكونوا قادرين على الخضوع لعلاجات إضافية.
وفي بداية الحرب كان شغل العيني الشاغل توفير النتروجين السائل، الذي صعّب نقصه الحفاظ على خزانات الأجنة في درجة حرارة تقدر بـ 180 تحت الصفر، لكن في الشهر الموالي بات هذا الإشكال ثانويا بعدما هوت قذيفة على مختبر المركز، دمرت الخزانات ومعها الأمل الوحيد لأزواج كثيرين في الحصول على طفل.
و”يستثمر الأزواج كثيرا من مالهم ومشاعرهم لتجسيد حلم الأبوة.. لقد قضى الهجوم على أحلامهم” يضيف العيني الذي درس في بريطانيا وأسس في 1997 أول عيادة إخصاب صناعي في غزة.
ودمرت الغارات والقتال بِنية وعتادا متطورا يقدر بمئات آلاف الدولارات، لكن ما يقلق العيني هو مرضاه، ففي بداية الحرب كانت 250 مريضة قد حملت بفضل التلقيح الصناعي، وهن الآن في حاجة إلى متابعة علاجية، خاصة أن حمل كثير منهن عُدَّ خطيرا للغاية، أو قُدّر أن وضعهن سيكون صعبا.
كان على أغلبهن تدبر أمرهن كيفما اتفق بعد اندلاع الحرب بسبب الهجمات الإسرائيلية وأوامر الإخلاء التي تسببت في إغلاق أغلب المستشفيات، أما ما تبقى من المستشفيات فلم يعد يقوى على الضغط.
وبحسب الأمم المتحدة، لا تتلقى آلاف النسوة في غزة رعاية ما قبل الولادة، ومن يضعن يبقين دون مساعدة طبية، وهو ما يعني ارتفاع الوفيات المرتبطة بالأمومة والولادات الحديثة.
ابن أمل مثلا الذي رأى النور في 2015، ما كان يمكنه البقاء على قيد الحياة لولا هذه الرعاية، فقد ولد قبل الأوان بشهرين. أخوه التوأم آدم مات بعد 3 أيام، أما خالد فنقل إلى وحدة متخصصة في القدس المحتلة، وبسبب مشاكل في جهازه المناعي كان عليه متابعة علاج مختص حتى الرابعة.
لم تعد أمه أمل إلى حياتها اليومية في بيتهم في حي تل الهوى غربي مدينة غزة، إلا بعد تحسن صحته.
الأشياء العادية
تقول إنها تحن إلى الأشياء العادية التي كانت تملؤها سعادة غامرة مثل ترتيب أدواته المدرسية أو اصطحابه إلى دروس السباحة أو حصص ركوب الخيل في ناد مختص في الحي، حيث تعلق الابن بحصان اسمه “شمس”.
ثم جاء العدوان وبات النادي أثرا بعد عين، وقُتل الحصان أيضا.
بعد بدء العدوان في أعقاب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لاذت عائلة أمل ببيت أبيها جنوبا في رفح التي كانت إسرائيل أعلنتها آمنة، لكن بعد 10 أيام من وصول العائلة، سيُقتل خالد مع جده وعمه وعمته وأبناء عمه و11 من أقاربه.
“كنت أصلي وكان إلى جانبي عندما دمرت الغارة البيت القريب وألحقت أضرارا كبيرة ببيتنا” تقول أمل لهآرتس.
نقلت أمل جريحةً إلى المستشفى، وعندما بحثت عن ابنها بين الضحايا لم تجده.
“فجأة أدركت أنه ربما ما زال تحت أنقاض البيت. هُرعت كالمجنونة عائدة إلى خراب البيت وناديت على اسم ابني العزيز. كنت آمل أن يبرز سالما من تحت الأنقاض”.
رغم جروحها رفضت المغادرة، وظلت فرق الإنقاذ تعمل بلا هوادة طوال الليل لإزالة الركام، لكن عتادها لم يكن كافيا.. ولم يخرج خالد من بين الركام.
“صليت لله بحرارة لأضمه للمرة الأخيرة، وأراه قبل دفنه”.
لن يتمكن الأب هو الآخر من العودة لدفن ابنه الوحيد، فقد كان في تركيا لحظة الغارة.
على إحدى عينيها، تحمل آمال ندبة صغيرة تذكارا لتلك الليلة المشؤومة حين فقدت الابن الذي كافحت أيما كفاح ليأتي إلى هذا العالم.
“هذه الندبة سأحملها طول العمر تذكارا للظلم الذي لحق بي”، تقول أمل.