كما أن للطائرة صندوقاً أسود، يُعاد إليه لمعرفة تفاصيل الرحلة، وكما للجدات صناديقهن التي يحتفظن فيها بكل أثيرٍ على قلوبهن، وكما للعاشقين صناديق لا يفتحونها لأي أحد وخزائن أسرار، وكما للساسة والدهاة والفنانين، ومثلما يرى جميعهم حصانة صناديقهم، فإن الأدباء والمبدعين يعدون طفولتهم «صناديقهم»، وإن رفض البعض وصف صندوق الطفولة بالأسود لما تمثله من بياض المراحل ونقاوة المنبع، وفي هذه المساحة التي نشرعها لنخبة عبّر بعضهم بإسهاب وآخرون باقتضاب، نقرأ علاقة كُتّاب مع الطفولة وما طبعته على تجاربهم.

القاص المخضرم عبدالرحمن الدرعان يرى أن الطفولة هي مرحلة التأسيس الأولى التي تشكّل شخصية المرء وفي الوقت نفسه هي ينابيع الخيال والإبداع، وقال صاحب (رائحة الطفولة): «أعتقد، ويتفق معي معظم علماء نفس الطفولة، أنها ذاكرة العمر، فالإبداع مصدره الخيال الخصب الذي هو ذخيرة الطفل، ألا ترى معي أن عدداً كبيراً من الشعراء ينضب مخزونهم الشعري بالذات في الشيخوخة؛ لأن الكبار يمتلكون ذكريات وليس خيالاً، والخيال أهم من المعرفة».

فيما قال الروائي عبده خال: «نعم الطفولة صندوق أسود للكاتب»، وأضاف: «كما قال ماركيز، الطفولة المخزن السري لكل إبداع».

فيما ذهب الشاعر عبدالله ثابت إلى أن الطفولة تضم كل الصناديق، وأجمل الصناديق، التي لم تلوّث حينها بعد بالأفكار والآراء والمواقف والاحتمالات، الصناديق اللبنية!

فيما عدّ المسرحي محمد ربيع الغامدي طفولته وسائر مراحل عمره ورؤاه وأحلامه منعكسة على كتابته، كون كل ما يعبر حواسه يتراصف كالصفحات في مكتبته الذهنية، وقال: «أظنّ هذا يحدث مع الكل، إلا أنّ استرجاع تلك الصفحات يختلف بين باحث في جيولوجية العمر وبين مشغول بهمّ ما». وأضاف: لربما أسترجع من الصفحة سطرين، وربما أكثر وربما كامل الصفحة، وربما كان محمد بن ربيع الطفل بطلاً في قصة الثوب الحنبصي، لافتاً إلى أن تجارب مرحلة الطفولة هي الأبرز، فالذهن عندما اختزنها كان صافياً، وتلقفها مندهشاً، فجاءت أكثر عمقاً، وإن كانت بقية المراحل حاضرة. وزاد: لعلي أتفق معك أن الطفولة صندوق أسود، لكن في مسار جيولوجية العمر، أما في مسارات الإلهام فهي جزء من المكتبة الذهنية للكاتب.

وترى القاصة غنوة فضة أن السؤال عن أثر الطفولة في الكتابة يقود إلى السؤال عن مدى موضوعيتها، وإمكانية أن تكون فعلاً غير شخصيّ ومحايد. وقالت: أعتقد أن بعض الآثار تبقى عالقة، يحملها الكاتب ليسبغ نصوصه بما بقي معه من أعوامه الأولى. واستدعت أمثلة لكتاب عدة منهم (كافكا) الذي عدّته مثالاً جليّاً في علاقته مع أبيه، و(دوكينز) وطفولتهُ البائسة، و(شوبنهاور) في علاقته المؤلمة مع والدته، فجميعهم طبعوا إبداعهم بالمعاناة التي عاشوها في صغرهم. وتؤكد أن هذا الاعتقاد لم يعد واقعياً، إذ لم يعد الإبداع تلك الموهبة التي كانت تشتعل في عيون أطفال ما بعد الثامنة، كون الأمر تغيّر اليوم، واختفت براءة الإنسان القديم وصار بالإمكان ابتداع عشرات الأدوار ونسبِها إلى طفولة كاتبٍ ما، كون هناك من يكتب بشكل طارئ، أو ليملأ فراغاً في ملف إنجازاته الشخصي. وتتفق مع السؤال بأن الطفولة تؤثر، ربما كان ذلك في زمن مضى، زمنٍ دفع فيه الإبداع طفلاً ما ليقبض على ذلك السحر الذي يمنحه الأدب، سحر سمح له بالتواطؤ مع الأبرياء وتجريم الحمقى قبل أن يلوثه عالمٌ يتوق إلى المنافسة وتبهره الفوضى.

فيما يذهب الشاعر شوقي بزيع، إلى أن في تعبير الصندوق الأسود الكثير من الصواب لولا اللون، بالفعل الطفولة صندوق يحفظ نواة الحياة وذخيرتها الأهم، إثر الانتقال للكهولة والشيخوخة، ونعود بحاجة لما يلهمنا عناصر الإبداع، إلا أنه يقبل أي لون عدا اللون الأسود، كون الطفولة «ربيع أوّلي»، ولا يمكن لأي مبدع أن يبدع دون نبض طفولته المتجدد، وعدّ الطفولة نافذة على الريف، تهب منها أعذب تعبيرات وذكريات الأعوام، والماضي الجميل، ويرى أن الشِّعر ريفيٌّ بامتياز بل هو ريف اللغة، والطفولة ليست شيئاً يمضي، بل جسد في الجسد كما قال (باشلار)، وذهب إلى أن الشعراء يسبقون لكل مكان بما في دواخلهم من طفولة ثريّة مشبعة بالحواس، لافتاً إلى أن العلم يتقدم نحو المصب والفن يعود للمنبع.

ويؤكد الشاعر ماجد أبو غوش أن الطفولة فعلاً صندوقنا الأسود، بدءاً من معلمي المدرسة الابتدائية، وحكايات الجدات في الليالي الباردة، ورائحة الحطب الطري، وأساطير الأولين والساحرات والغابات البعيدة، والركض حفاة في حارات ضيقة آمنة، وروائح الأطعمة البسيطة والشهية، عودة الآباء من العمل بجيوب ممتلئة بالحلوى، رائحة الأمهات. كل هذا رصيد غني للكتابة، كل هذا الحنين يتم توظيفه في الكتابة الإبداعية الحقيقية.

ويروي القاص سمير الفيل جانباً من قصته مع الطفولة، موضحاً أنه وُلِد في شتاء عام 1951، ولما مات أبوه مبكراً خرج إلى العمل، في حوالي الخامسة من عمره، قبل عام واحد من الالتحاق بالمدرسة الابتدائية النظامية. مشيراً إلى أن والدته علمته الكتابة بالطباشير على بلاط حجرة الصالة، فيما علمه الأستاذ رفعت قطارية (الأبجدية) بتشكيل الطين بأصابعه الضعيفة، كما علمه في الوقت نفسه كيف يزرع البصل والبطاطا والفول في الحديقة الخلفية للفصل. ودربه على غناء (ذهب الليل طلع الفجر) لمحمد فوزي، وكانوا يبدؤون اليوم بها، مؤكداً أنه ظهر أثر الطفولة في مجموعات قصصية عدة، منها (مكابدات الطفولة والصبا)، وفيها رصد لأحوال طفل يعمل صبياً في مهنة الأثاث، التي عملت بها لبضعة أعوام، والأطفال في النصوص يتحركون بحب وبهجة، ولديهم ألعابهم الصغيرة التي يخفونها عن (المعلم) في الورشة. مضيفاً أن في مجموعته (صندل أحمر) رصداً دقيقاً لعالم الطفولة في السوق التجارية، ومهنة بيع الأحذية، التي عمل بها أكثر من عشرة أعوام، وفتحت عينيه على أسرار البيوت في مصر الخمسينيات والستينيات، مشيراً إلى أنه حين تقدم خطوات في عالم القص وجد أجواء الطفولة حاضرة، في أمكنة تخص الطفولة، وهو ما تحقق في (الأستاذ مراد) 2015، أيضاً في (فك الضفيرة) 2020، وتردد صداه في مجموعاتي الأخيرة، من أهمها (دمى حزينة) 2023، الحائزة على جائزة الملتقى بالكويت. تبدو الطفولة حاضرة في كل نص، ويدور شريط ذكريات في عقول الأبطال التراجيديين الباحثين على خيط نور رغم حلك الظلمة.

وأضاف: صندوق الطفولة كان إلى جواري طيلة الوقت، به شذرات من حكايات، وطرف بسيطة، ومزح مبهجة إضافة إلى ما تمثله الطفولة من براءة وإعادة اكتشاف العالم.

فيما يؤكد الشاعر بلال المصري أن «في أعماق كل شاعر طفلاً يهرول لاهثاً يسابق ظله، ويلمس كل مرة شعلة الكلمات ليحترق، دون أن يُشفى من تكرار المحاولة، ويتسلق شجر الأيام ليعانق النجوم لكنه يسقط دائما وكفيه فارغتان، وهذا ما يشعره أنه يمتلك العالم بأسره».

إبراهيم زولي: الطفولة.. الذاكرة المشاغبة

عدّ الشاعر إبراهيم زولي (الطفولة)، ذاكرة مشاغبة تسترق الكلمات المخبّأة في ذمّة البحر، ثم ترشقها بالضوء الكريم.

الطفولة كنز كامن بالشعرية، لم نستنفد التعبير عنها حتى هذه اللحظة، الطفولة ثروة من الألوان الحميمة يتأجّج ألقها بالكتابة.

ويراها واحدة من أدوات إضرام النيران في جسد القصيدة، وينفخون روح الحياة فيها تارة أخرى، كونها غالباً ما توصف بأنها سنوات التكوين، وتلعب دوراً محوريّاً في تشكيل شخصية الفرد ورؤيته للعالم وتعبيره الإبداعي، إذ غالباً ما تكون التجارب والعواطف والتصورات المكتسبة خلال مرحلة الطفولة بمثابة المنبع الذي تتدفق منه قصصهم وقصائدهم ورواياتهم.

وكذلك يمكن للتجارب العاطفية في مرحلة الطفولة أن تترك وشماً على عمل الكاتب لا يُمحى، وتؤدي الأحداث المؤلمة، مثل الخسارة أو سوء المعاملة أو اليتم، إلى موضوعات سوداوية. وعلى العكس من ذلك، ربما تلهم الطفولة السعيدة والآمنة قصصاً مليئة بالتفاؤل والفرح والبهجة.

فيما يوفر النطاق العاطفي الذي يعيشه الأطفال في مرحلة الطفولة لوحة بانورامية غنية من المشاعر للاستفادة منها.

الطفولة هي نبع الخيال غير المحدود. يخلق الأطفال عوالم خرافية، ويخترعون قصصاً ذات عوالم سحرية (فانتازية)، وهذه التجارب الخيالية تغذي إبداع الكاتب، وتسمح له بصياغة روايات حية ومبتكرة. إن القدرة على رؤية العالم من خلال عيون الطفل يمكن أن تمنح المبدع منظوراً فريداً يميز عمله.

ملاعب الطفولة والصبا التي ينمو فيها الكاتب ذات صدى كبير على عمله. قد تلهم البيئات الريفية قصصاً عن الطبيعة، والناس، والبساطة، بينما يمكن أن تؤدي البيئات الحضرية إلى روايات تتمحور حول القضايا الاجتماعية الكبرى، والاغتراب، والحالة الإنسانية.

وذاكرة الطفولة تترك ندبة أزلية في النفس البشرية. بالنسبة للكتاب من شعراء وكتاب سرد، هي أداة قوية للكتاب، ويمكن أن تكون تلك الذكريات مدماكاً أساسياً لأعمال السير الذاتية، أو رافعةَ إلهامٍ للروايات الخيالية.

شاركها.
Exit mobile version