بعد 21 عاما من مخاض العراق العسير سياسيا وأمنيا وحتى اجتماعيا، ثمة مشهد جديد يستحق التوقف؛ طاولة حوار مفتوحة أطرافها مسؤولون عراقيون من الرئاسات الثلاث مع نخب سياسية وأكاديمية عراقية ومنظمات مجتمع مدني. أما الحديث فهو عن كيفية تعديل الدستور والاستفادة من التجارب الدستورية العالمية، وكيف يصل العراق إلى ترسيخ مفهوم المواطنة.

مثل هذه النقاشات لم تكن لتحدث قبل سنوات، كانت الجدران عالية بين الأجهزة الحكومية العراقية وبين منظمات المجتمع المدني، ولعل مثل هذه النقاشات أهم ملامح العراق الجديد الذي يبدو أنه يعتمد مبدأ الحوار والتشاركية بين كل العراقيين على أساس مصلحة العراق، والعراق أولا.

وعلى هذه الطاولة بحضور مسؤولين عراقيين يجري الحديث عن النظام السياسي بكل شفافية وماهي سلبيات هذا النظام وكيفية تجاوزها؟.

يصارح العراق نفسه اليوم بكل جرأة على أنه بحاجة إلى تعديلات دستورية، المصارحة جاءت من أعلى المستويات السياسية بدءا من رئاسة الجمهورية، مرورا برئاسة الحكومة وصولا إلى البرلمان، بل إن منظمات المجتمع المدني مع النخب الفكرية والسياسية تصارح نفسها أيضا بهذه الحاجة، ما يعكس نضج التجربة العراقية القاسية التي استمرت 21 سنة بعد سقوط نظام البعث ودخول البلاد في حروب طويلة انتهت إلى غير رجعة.

على مدار يومين، حضرت «عكاظ» نقاشات دستورية وسياسية معمقة بمشاركة سياسية على أعلى المستويات حول أهمية وحاجة التعديلات الدستورية والعلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وتضمن الحديث أيضا التداخل بين السلطة التشريعية والتنفيذية، الأمر الذي يؤدي إلى تكبيل مجلس النواب، وأهمية التوازن بين السلطة التشريعية والتنفيذية وانعكاس ذلك على النظام السياسي، فيما جرت نقاشات أكاديمية عراقية أوروبية من ألمانيا والنمسا والبرتغال وإسبانيا وسويسرا، حول التجارب الدستورية العالمية خصوصا الأوروبية وكيفية الاستفادة من هذه التجارب في الحالة العراقية من أجل سد كل الثغرات الدستورية الحالية بما يضمن الاستقرار السياسي.

مسار التعديل الدستوري ومن قبله الحوار الوطني العراقي، الذي ترعاه المؤسسة الأوروبية للحوار والتنمية كان مسارا طويلا من العام 2019، لكنه اليوم يصل إلى الأبواب الأخيرة لإتمام المشروع بخلاصة تعديلات دستورية تتوافق مع التجربة العراقية.

وفي هذا السياق، قال المدير التنفيذي للمؤسسة الأوروبية للحوار والتنمية علاء البهادلي لـ «عكاظ»: «هذه جولتنا السابعة في مشروع التعديلات الدستورية 2024-2025، الذي ترعاه المؤسسة، الجولتان الأولى والثانية كانتا في بغداد، والثالثة في النجف، والرابعة في أربيل، والخامسة في بغداد، والسادسة في البصرة».

ولفت إلى أن مشروع التعديلات الدستورية يمثل امتدادا لمشروع الحوار الوطني العراقي الذي انطلق في 2019-2020 وكان من بين المؤسسين لهذا المشروع المستشرق الألماني دانييل جيرلاخ، حيث استمر عملياً من خلال جلسات في عدة مدن في العراق من بغداد إلى كربلاء والنجف الأشرف والفلوجة والموصل حتى انتخابات مجلس النواب في أكتوبر 2021.

وأفاد البهادلي بأن هذه الحوارات تأتي نظرا لحاجة العراق إلى عملية تعديل دستور توافقية قائمة على قواعد علمية وخبرات عالمية في هذا المجال، لافتا إلى أن مسألة التعدلات الدستورية المقترحة تأتي بدعم من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بالتعاون مع الخبرات والمعارف الدستورية الأوروبية.

فيما أوضح الخبير في القانون الدستوري الدكتور ناصيف نعيم، أن العمل في مشروع التعديلات الدستورية ينطلق من أن القانون الدستوري وعمليات إعداد أو تعديل الدساتير عموما أصبحت تغلب عليها الصبغة المقارنة، أي أن اقتباس وتبادل المبادئ الدستورية هما الأساس في عمل اللجان الدستورية أينما كانت، ومن هذا المنطلق تدار جلسات الحوار في هذا المشروع على أساس سماع المشكلة واقتراح حلها من الخبراء وأصحاب القرار العراقيين، يتبعه التعليق وإعطاء أمثلة من تجارب دول أخرى على إشكالات شبيهة وحلولها من قبل الخبراء الأوروبيين.

وبين أن جلسات الحوار التي جرت في بغداد الأسبوع الماضي، عالجت العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدستور العراقي وتطبيقاتها العملية في ظل الواقع السياسي العراقي، بالإضافة إلى البحث في مفهوم المواطنة ودور مؤسسات الدولة العراقية في تعزيزها، وهو موضوع يتجاوز حدود الدستور أو القانون ويصب في إطار الثقافة السياسية والاجتماعية والتاريخية.

اللافت في كل هذه الجلسات هي المشاركة الحكومية سواء من رئاسة الوزراء أو البرلمان، إذ شارك في جلسات الحوار جنبا إلى جنب مستشارين من الرئاسات الثلاث (الرئاسة والحكومة والبرلمان)، إلى جانب منظمات المجتمع المدني، وسط نقاشات شفافة ومفتوحة حول كل القضايا الدستورية وكيفية وصول العراق بعد 21 عاما من الحرب والتشظي الاجتماعي إلى مفهوم المواطنة.

المؤسسة الأوروبية للحوار والتنمية، التي بدأت هذا المسار، حققت الكثير من الإنجازات على مستوى تقريب وجهات النظر العراقية، فيما عملت طوال السنوات الماضية على تلخيص ونقل التجارب الدستورية العالمية إلى العراق بما يتناسب مع ظروفه، على أن تكون هذه التعديلات نابعة من احتياجات العراق ومتطلباته، وهو أمر يحظى باهتمام واسع من معظم القيادات العراقية السياسية والدينية.

شاركها.
Exit mobile version