في سابقة سياسية تعيد رسم معادلة السلاح والشرعية، خرج مجلس الوزراء اللبناني بقرار يمكن وصفه بأنه «الأكثر جرأة» منذ اتفاق الطائف.
قرار واضح ومباشر: الدولة قررت أن تبدأ مسار «حصر السلاح»، وطلبت من الجيش إعداد خطة تنفيذية قبل نهاية أغسطس الجاري، بما يمهّد لمرحلة جديدة من استعادة القرار السيادي.
القرار لم يكن عادياً، ولا ظرفياً، بل يشكّل في مضمونه وتوقيته نقطة تحول في تعاطي الدولة مع واقع ظلت تتجنبه لعقود، لكن البيان التصعيدي الصادر عن حزب الله بعد الجلسة، لم يترك مجالاً للتهدئة.
الحزب لم يكتفِ برفض القرار، بل حسم تموضعه ضده بالكامل، واتهم الحكومة بتنفيذ إملاءات خارجية، واعتبرها مخالفة للميثاق والدستور والبيان الوزاري.
في بيان حزب الله إشارات صريحة إلى أنه لا يرى القرار قابلاً للنقاش أو التعديل، بل يتعامل معه كأمر مرفوض جملة وتفصيلاً، بلغة لا تخلو من الرسائل المبطنة، وكأنه مستعد للذهاب بعيداً إذا اقتضت المواجهة ذلك، مع ما يحمله المشهد من تهديد للاستقرار الداخلي وتوازنات الإقليم.
ما بين القرار الحكومي وموقف الحزب، بات كل لبنان في مواجهة صريحة مع واقع لطالما جرى التحايل عليه بلغة التفاهمات المرحلية، هذه المرة، لا تسويات لغوية ولا عبارات فضفاضة، الحكومة حسمت، والحزب أعلن رفضه، ومعه بدأت مرحلة جديدة من الاشتباك السياسي، وربما أكثر..
منطق الحزب: السلاح في صلب الشرعية
في بيانه، يحاول حزب الله أن يعيد ضبط معادلة الطائف على مقاسه، ويستند إلى الفقرة الخامسة من البيان الوزاري ليقول إن «سلاحه جزء من الإجراءات اللازمة لتحرير الأراضي المحتلة»، وأن الحفاظ عليه يشكل عنصراً من عناصر قوة لبنان.
لكن هذه القراءة الانتقائية تطرح تساؤلات جوهرية: إذا كان الحزب يتمسك بشرعية البيان الوزاري، فهل يجوز له إسقاط قرارات الحكومة التي صدرت تحت سقفه؟ وهل يمكن لجهة حزبية أن تحدد متى تلتزم بالدستور ومتى تتجاوزه؟ الأخطر أن هذا الرفض لا يبدو مجرد موقف دفاعي، بل أقرب إلى إعلان نوايا بعدم الالتزام بأي مسار يحد من موقع الحزب العسكري، حتى لو كان هذا المسار تحت مظلة الدولة.
بهذا المعنى، لا نكون أمام خلاف سياسي تقليدي، بل أمام مشهد يتأسس على صدام محتمل، سياسياً وربما أكثر، خصوصاً إذا قررت الحكومة المُضي فعلياً في تنفيذ القرار، ورفعت الغطاء السياسي عن أي سلاح خارج سلطة الدولة.
مخاطر داخلية.. ومخاض إقليمي
المقبل من الأيام محفوف بالمخاطر، داخلياً ينقسم البلد على خطوط حادة: فريق يعتبر قرار
«حصر السلاح» استعادة للمسار الدستوري، وفريق آخر يراه استهدافاً مباشراً للمقاومة ومقدمة لتسويات دولية على حسابها.
فيما بدأت بعض التحركات في الشارع تأخذ طابعاً فئوياً، والخشية أن يتم استثمار الانقسام السياسي لتغذية الشحن الشعبي والطائفي، وهذا ما قد يجعل من الخطاب السياسي مادة اشتعال إضافية بدل أن يكون مدخلاً لتقليص التوتر.
أمنياً، تتكثف التحذيرات من تفجر الساحات في حال استدرج البلد إلى مواجهات متفرقة على خلفية القرار، وتبدو القوى السياسية عاجزة حتى اللحظة عن بلورة موقف وطني جامع قادر على امتصاص التداعيات.
إقليمياً، الصورة أكثر اضطراباً مما تبدو، وخطوط الاشتباك لم تختفِ، بل تحوّلت إلى تفاهمات هشة فوق أرض ساخنة، فاتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل لا يلغي احتمال الانفجار خصوصاً أن الجبهة الجنوبية لم تدخل بعد في مناخ الهدنة المستقرة.
أما الضغوط الأمريكية فما زالت تصاعدية على لبنان، مركزة على ضرورة نزع السلاح خارج إطار الدولة، وتعزيز سلطة الحكومة في مواجهة أي جهة تحتفظ بقرار أمني مستقل.
في السياق، تتواتر الرسائل الدبلوماسية التي تتلقاها بيروت في الأيام الأخيرة، وتشير إلى دعم سياسي واضح لمسار الحكومة، وإلى رغبة دولية في إرساء مرحلة جديدة من الحكم المؤسساتي، لكن هذه الرغبة تصطدم بواقع لبناني غير جاهز لأي تسوية خارجية أو داخلية لا تراعي ميزان القوى القائم.
وهنا تحديداً، تبدو الأزمة مرشحة للتعقيد أكثر مع انكشاف الساحة الداخلية على كل أشكال الاستقطاب الخارجي.
ساعة الحقيقة دقّت
في هذا المفترق، لم يعد هناك متسع للمناورات، قرار الحكومة يعبّر عن لحظة تحوّل في نظرة الدولة إلى مسألة السلاح، لكن بيان حزب الله ينبئ بأن الحزب لن يسمح بمرور القرار، وأن البلاد مقبلة على اختبار هو الأخطر منذ عام 2005م. والسؤال لم يعد: هل نذهب إلى مواجهة؟ بل: كيف يمكن تفاديها؟ وهل لا يزال لبنان يملك القدرة على إنتاج تسوية تحفظ الاستقرار من دون التنازل عن السيادة؟ المعادلة تغيرت، والغموض انتهى، والقطار تحرّك، والمسار بدأ يتضح. لكن الوجهة النهائية لا تزال غير مضمونة، والخيارات تضيق.. إما الدولة بكل ما تعنيه من مؤسسات وشرعية وقرار مركزي، أو واقع مستمر من ازدواجية السلطة، ولا قرار يحسم ولا سيادة تصان، ولا «استقرار يصمد»..
أخبار ذات صلة