في عام 1954، أقيمت مبارة كرة قدم أمريكية بين فريقي جامعة برينستون وجامعة دارتموث. كانت المباراة عنيفة إلى حدٍ كبير، مما أدى إلى إصابة العديد من اللاعبين، وإثارة جدل كبير بين مشجعي الفريقين. بعد عقود من هذه المبارة، أراد الباحثان Hastorf و Cantril عمل تجربة علمية لمعرفة رأي الناس حول تلك المبارة. فعرضوا فيلمًا سينمائيًا للمباراة على مشجعي كل فريق. وتفاجأ الباحثان من الآراء المتعارضة للمشجعين. فمشجعو جامعة برينستون رأوا أن فريق جامعة دارتموث لعبوا بعدوانية شديدة وارتكبوا مخالفات لقواعد اللعبة تتجاوز ضعف مخالفات فريقهم. في حين أن مشجعي جامعة دارتموث رأوا أن المباراة مرت بشكل طبيعي، ولم يرتكب فريقهم أي مخالفات كبيرة، وأن كلا الفريقين لعبا بنفس المستوى من العدوانية تقريبًا. وبعد استفسار الباحثين من مشجعي الفريقين، توصلوا إلى نتيجة أن المشجعين وقعوا في حالة من الخلل تحيزي الإدراكي يسميه علماء الإدارة ومتخصصو السلوك التنظيمي بالإدراك الانتقائي، فما هو؟

الإدراك الانتقائي (Selective perception) هو عملية يقوم بها العقل اللاواعي بتصفية المعلومات الواردة من موقف، واختيار منه جوانب محددة تتوافق مع معتقدات أو اهتمامات أو خبرات الشخص الحالية، مع تجاهل الجوانب الأخرى التي تتعارض مع تلك التوجهات. بعبارة أخرى، هي عملية اختزال معلومات من موقف بشكل انتقائي بحسب توجهات الشخص الحالية، والبحث عن معلومات أخرى تؤكد توجه، عدم ملاحظة ما يعارضه. وتختصر Anaïs Nin – مؤلفة وناقدة وكاتبة الأمريكية – هذا التحيّز بقولها «We don’t see things as they are, we see them as we are» نحن لا نرى الأشياء كما هي، بل نراها كما نحن أو كما نريد. فما تأثير الإدراك الانتقائي؟

الأشخاص الذين يمارسون الإدراك الانتقائي يُؤثرون سلبًا على الموظفين وعلى المجتمع ككل، فيما يلي أبرز آثارهم على المجتمع: 1. زيادة التحيزات وتعميق الانقسامات بين أفراد المجتمع، حيث يؤدي الإدراك الانتقائي إلى بناء صورة مشوهة عن الآخرين، مما يُعزز التحيزات والتمييز بين أفراد المجتمع.

2. صعوبة حل المشكلات الاجتماعية، فيؤدي تجاهل المعلومات التي تتعارض مع أفكارهم المسبقة إلى صعوبة فهم المشكلات الاجتماعية بشكل كامل وصحيح، مما يُعرقل إيجاد حلول فعّالة لها ويزيد من الصراعات بين الأشخاص.

3. انتشار الشائعات والمعلومات المضللة، فالإدراك الانتقائي يؤدي إلى قبول المعلومات التي تتناسب مع أفكارهم المسبقة حتى لو كانت خاطئة، وهذا يُساهم في انتشار الشائعات التي تُسبب في تضليل المجتمع. أما في ما يخص العمل، فنذكر: 4. عدم الحكم الموضوعي، حيث يقومون بتفسير الموقف والمعلومات الواردة منه بناءً على تحيزهم الشخصي، وبالتالي إلى عدم العدالة في الحكم على الآخرين. فتخيّل أن شخصًا ما يعمل في القطاع القانوني ويمارس الإدراك الانتقائي دون وعي منه، ويتحيّز إلى فكرة معينة ضد طرف آخر، وقد بنى هذه الفكرة ظنًا منه أنها صحيحة بناءً على سماعه لموقف دون التعمق في معرفة الأحداث السابقة لهذا الموقف والاستماع للطرف الآخر. فهذا الشخص سيبذل جهده لدعم الفكرة التي يعتقدها ويتجاهل أي معلومات تتعارض معها. في مثل هذه الحالة، نتوقع أن يكون حكمه متحيزًا وغير عادل.

إيجازًا لما سبق، الإدراك الانتقائي يُشوّه رؤية البعض منا للأحداث، حيث يجعلهم يختارون المعلومات المُؤكدة لتوجهاتهم ويتجاهلون ما يخالفهم، وبالتالي يُشكّل تحديًا لمجتمعاتنا، فهو يُعمّق الانقسامات ويُعزّز التحيّزات ويُعرقل حل المشكلات، مما يؤدي إلى انتشار المعلومات المضللة ورسم صورة مشوهة عن الآخرين. أما في مجال العمل، فالإدراكي الانتقائي يهدد التفكير الموضوعي في اتخاذ القرارات والعدالة في التعامل مع الآخرين. أخيرًا، لتحقيق رؤية المملكة 2030 بفاعلية أكثر، يتحتّم علينا جميعًا أن نكون واعين لتجنّب الوقوع في الإدراك الانتقائي، لبناء مجتمع أكثر ازدهارًا وتماسكًا وعدلًا ولتطوير بيئات عمل أفضل تفهمًا وإنصافًا وفعالية، لنحقق رؤية 2030 بعقول منفتحة وقلوب متحدة.

شاركها.
Exit mobile version