شهدت المملكة المتحدة العام الجاري، تصاعدا غير مسبوق في حدة التوترات السياسية، مع تحول قضية الهجرة إلى أداة مركزية في صراع الأحزاب الشعبوية واليمينية لفرض أجندتها.

وباتت الحملات المناهضة للمهاجرين، والتي تستهدف تحديدا الفئات من خلفيات مسلمة وذات بشرة سمراء، تتغذى على خطاب تحريضي ممنهج، يستغل الإخفاقات الحكومية ويضخم من ادعاءات لا أساس لها من الصحة.

اقرأ أيضا

list of 2 itemsend of list

وفي خضم هذه البيئة، يتعرض الرأي العام لوابل من الادعاءات غير الدقيقة، والتي يتم تضخيمها بهدف شيطنة المهاجرين وتبرير سياسات أكثر صرامة.

يهدف هذا التقرير، بالاستناد إلى بيانات رسمية ومعلومات موثقة من مصادر محايدة إلى تفكيك أربعة من أبرز هذه الادعاءات المضللة التي يتم تداولها بكثرة، ويسعى هذا التحليل المنهجي إلى تقديم رؤية قائمة على الأدلة، تميز بين الحقائق والروايات السياسية، وتكشف عن الأهداف الكامنة وراء الحملات الممنهجة على المهاجرين.

تحيز الشرطة للمهاجرين

يتخذ خطاب اليمين المتطرف في المملكة المتحدة منحى مثيرا للقلق، حيث يروج لرواية مفادها أن الشرطة البريطانية منحازة إلى المهاجرين والأقليات، وتتعمد قمع الناشطين “الوطنيين”.

وقد استغلت هذه الجماعات أحداثا فردية ومقاطع فيديو مجتزأة لتأجيج مشاعر الكراهية، مدعية أن هناك “تحالفا” سريا بين الشرطة ومؤيدي الإسلاموفوبيا أو مؤيدي فلسطين.

لكن الأحداث الأخيرة والبيانات الرسمية تقدم صورة مختلفة تماما، إذ شهدت المملكة المتحدة في الفترة الأخيرة تصاعدا في عدد الاحتجاجات المناهضة للمهاجرين، خاصة خارج الفنادق التي تستخدم لإيواء طالبي اللجوء في مناطق مثل إيبينغ، وكانوك، ومانشستر.

 

وقد واجهت الشرطة هذه المظاهرات، التي شارك فيها أفراد من أحزاب يمينية متطرفة مثل حزب “هوملاند بارتي” وحركة “بريطانيا أولا”، بل واستخدمت قوات مكافحة الشغب في بعض الحالات.

وروجت حسابات يمينية لقطات زعمت أن الشرطة البريطانية منحازة إلى المسلمين والمهاجرين، مستشهدة بمشاهد من احتجاجات قمعتها قوات الأمن.

لكن مراجعة البيانات الرسمية وبيانات شرطة لندن أوضحت أن الاعتقالات جاءت ردا على سلوك عدواني من المحتجين وليس بدافع الانحياز.

 

وتسابقت جماعات يمينية عبر حسابات متعددة على منصة “إكس” لنشر مقاطع مصورة تروج لروايات مضللة، كان أبرزها فيديو يظهر شرطية تعانق ناشطة مؤيدة لفلسطين وتشاركها الهتاف: “فلسطين حرة”، زاعمين أنه حديث ويعود للتظاهرات الحالية.

 

وبالتحقق تبين أن هذه الحادثة تعود إلى عام 2021، أي قبل الحرب الحالية، حين أفادت وسائل إعلام بريطانية بأن الشرطية خضعت لتحقيق داخلي، بينما أكدت شرطة لندن في بيانها آنذاك أن على عناصرها الالتزام بالحياد خلال الاحتجاجات ذات الطابع السياسي.

في المقابل، فإن الشرطة البريطانية لا تتردد في استخدام القوة ضد الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، ففي سبتمبر/أيلول الجاري اعتقلت أكثر من 400 شخص في لندن لدعمهم منظمة “فلسطين أكشن”.

وأظهرت مشاهد أن الشرطة قمعت الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين بقوة أكبر بكثير مما واجهت به مظاهرات اليمين المتطرف، وهو ما يضعف بشكل كبير أي ادعاءات بالتحيز.

رفاهية اللاجئين في الفنادق

تعد الادعاءات التي تزعم أن اللاجئين في المملكة المتحدة يعيشون حياة مترفة داخل فنادق فاخرة بتمويل من دافعي الضرائب من أكثر الروايات انتشارا في خطاب الكراهية ضد المهاجرين، لكن مراجعة الوقائع والبيانات الرسمية تكشف واقعا مختلفا تماما.

 

ولكن على عكس روايات “الرفاهية”، تكشف شهادات ومصادر رسمية عن ظروف مأساوية لا تمت بصلة لصورة الفنادق الفاخرة التي يُسوق لها.

ففي يناير/كانون الثاني الماضي، أغلقت منصة بيبي ستوكهولم العائمة التي استخدمت لإيواء طالبي اللجوء، ليس لأنها وفرت رفاهية، بل بسبب مخاوف السلامة بعد حادثة انتحار مأساوية، وفي منتصف العام ذاته أظهرت الإحصاءات أن أكثر من 32 ألف طالب لجوء ما زالوا يقيمون في فنادق مؤقتة، بينما تسعى الحكومة لاستخدام مواقع عسكرية بديلة لخفض التكاليف لا لتحسين ظروفهم.

 

 

وبعيدا عن الفنادق، يعيش آلاف طالبي اللجوء في مراكز احتجاز مكتظة تفوق طاقتها الاستيعابية، ويمكث بعضهم فترات قد تمتد إلى سنوات بانتظار البت في طلباتهم، منهم أطفال يعانون ظروفا صحية ومعيشية قاسية، وقد حذر مجلس اللاجئين البريطاني سابقا، من تفشي الأمراض والجوع، واصفا نظام اللجوء بأنه “فوضوي ومقلق”.

ولم تتوقف الأزمة عند هذا الحد، إذ لجأت حكومة المحافظين السابقة إلى إيواء مئات اللاجئين في منصة بيبي ستوكهولم العائمة، التي وصفتها منظمات حقوقية بـ”السجن العائم”، بموجب قانون “الهجرة غير النظامية” الذي يتيح احتجاز المهاجرين في منشآت بحرية أو قواعد عسكرية مهجورة.

وهكذا يتضح أن ظروف طالبي اللجوء في بريطانيا بعيدة كل البعد عن صورة الرفاهية التي يروج لها اليمين المتطرف، وبينما يقدّم خطاب “الفنادق الفاخرة” كذريعة للتحريض، يعيش آلاف المهاجرين واقعا مثقلا بالاكتظاظ وسوء الخدمات، في مشهد يناقض تماما صورة الترف التي تصدرت المنصات.

المهاجرون عصابات إجرامية

وتعد المزاعم التي تصور المهاجرين، خصوصا الشباب والمسلمين، كعصابات إجرامية أو مرتكبي جرائم جنسية، من أكثر الروايات إثارة للرعب في بريطانيا، وكثيرا ما تبنى هذه السردية على حوادث فردية تضخم بعيدا عن أي سياق إحصائي.

وساهمت تصريحات سياسيين بارزين في ترسيخ هذه السردية. فقد اشتهرت النائبة المحافظة سويلا برافرمان، التي تولت منصبي رئيسة الوزراء ووزيرة الداخلية في آخر عهد لحكومة المحافظين، بخطاباتها التي وصفت اللاجئين بأنهم مدعومون من “عصابات إجرامية”، بل ذهبت إلى القول عام 2022: “بعضهم أعضاء فعليون في عصابات إجرامية ولنتوقف عن التظاهر بأن جميعهم لاجئون. البلاد بأكملها تعرف أن هذا غير صحيح”.

كما أنها من أوائل من ربطت المهاجرين، وتحديدا البريطانيين من أصول باكستانية، بجرائم ملاحقة واغتصاب فتيات قاصرات في دور الرعاية، ووجدت تصريحاتها صدى واسعا في المنصات اليمينية.

 

ويُضخم هذه المزاعم أحزاب يمينية متطرفة مثل حزب “ريفروم يو كيه” (Reform UK)، إلى حد اتهام الشرطة البريطانية بـ”التغطية” على الوضع القانوني للمهاجرين المتورطين في الجرائم.

لكن أحدث البيانات الرسمية للجريمة في إنجلترا وويلز، الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني (ONS) للسنة المنتهية في مارس 2025، تفند هذه الادعاءات بشكل قاطع، فقد أظهرت الإحصاءات انخفاضا عاما في معدلات الجرائم العنيفة، وعلى سبيل المثال، انخفض عدد جرائم القتل بنسبة 6%، وتقلصت جرائم السكاكين بنسبة 1%، والسطو بنسبة 3%.

وقد حذر تقرير صادر عن جامعة أكسفورد في سبتمبر/أيلول الجاري من أن “التغطية الإعلامية المضللة” تساهم في الترويج لروايات كاذبة عن الهجرة وحقوق الإنسان.

وأشار التقرير إلى أن 75% من الأخبار المتعلقة بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) كانت تركز على قضايا الهجرة والترحيل، وغالبا ما كانت تحرف الحقائق لتصوير أن النظام القانوني يستخدم لصالح المجرمين الأجانب.

 

المهاجرون أزمات اقتصادية

لطالما استخدم المهاجرون في بريطانيا كبش فداء لتفسير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، من أزمة السكن وضغط الخدمات الصحية، إلى ارتفاع معدلات البطالة، ويبرر الساسة القيود المشددة على الهجرة باعتبارها ضرورية لـ”تخفيف الضغط على الخدمات العامة”.

وفي مايو/أيار الماضي، أصدرت الحكومة الجديدة “الورقة البيضاء عن الهجرة” (Immigration White Paper) التي وعدت بـ”استعادة السيطرة”، ودخلت التغييرات حيز التنفيذ في 22 يوليو/تموز الماضي، وشملت وقف استقدام عمال الرعاية من الخارج، ورفع الحد الأدنى لرواتب عمال “المهارات العالية” إلى 41 ألفا و700 جنيه إسترليني، بجانب مقترح يطيل فترة الحصول على الإقامة الدائمة من خمس إلى عشر سنوات.

 

 

ورغم أن الخطاب الرسمي يقدّم هذه الإجراءات كوسيلة لحماية الاقتصاد، إلا أن تقارير رسمية وأكاديمية أظهرت آثارا عكسية، فقد حذر مكتب المسؤولية عن الميزانية (OBR) من أن تراجع معدلات الهجرة سيكلف الخزانة البريطانية نحو 14 مليار جنيه إسترليني سنويا بحلول 2028-2029، وهو عبء مالي كبير.

أما تقرير جامعة أوكسفورد فأوضح أن المهاجرين في سن العمل غالبا ما يدفعون ضرائب أكثر مما يحصلون عليه من خدمات، خصوصا أصحاب المهارات العالية ومتوسطي الدخل، ما يخفف الضغط عن الخزانة وهيئة الصحة الوطنية (NHS) والتعليم.

يذكر أن ملف الهجرة يشكل إحدى أكثر القضايا حساسية وتعقيدا أمام حكومة رئيس الوزراء العمالي كير ستارمر، التي تواجه انتقادات من المعارضة المحافظة ومن قطاعات شعبية ترى أن استمرار تدفق المهاجرين يقوض الثقة في وعود الحكومة بضبط الحدود وإدارة النظام الجديد للهجرة.

شاركها.
Exit mobile version