بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم

هذه نماذج لطرائف كتبها بعض طلاب الكويت عندما كانوا يتلقون العلم في القاهرة. وكان ذلك في السنة الدراسية 1948-1949م، وقد نشرت لهم هذه الطرائف مجلة البعثة التي أصدرها بيت الكويت هناك حتى تكون رابطا بين الأبناء وأسرهم في الكويت. وحتى يطلع قراؤها من غير أبناء الكويت على معلومات كافية عن بلادنا.

واستمرت هذه المجلة في صدورها منذ شهر أبريل لسنة 1947م حتى توقفت في سنة 1954م. وقد تطورت كثيرا خلال السنوات الأخيرة من صدورها، فصارت صورة واضحة للكويت، وحركة الحياة فيها، كما صارت مقروءة في عدة بلدان عربية.

وصار ينشر فيها هذه الفترة – إلى جانب طلاب البعثة الكويتية – عدد من الأدباء والشعراء المعروفين، وغدت ذات شهرة كبيرة. كانت أول بعثة طلابية كويتية قد أرسلت إلى مصر في سنة 1939م، وكانت تضم كلا من الأساتذة: عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني ويوسف مشاري الحسن البدر، ويوسف العمر.

ثم تتالت البعثات بعد ذلك حتى صار عدد الدارسين هناك كبيرا، يضاف إليهم عدد آخر من صغار التلاميذ الذين أرسلهم أهلهم للغرض ذاته على حسابهم الخاص من أجل الدراسة في مدارس داخلية منها ما هو في القاهرة، ومنها ما هو في الإسكندرية.

وقد لمست دائرة معارف الكويت الحاجة إلى ضرورة إسكان مبعوثيها في سكن ملائم يجمعهم، وفيه ما يكفل راحتهم، ويسهل عليه مهمتهم في طلب العلم ومذاكرته، فقررت افتتاح سكن يشملهم أطلقت عليه اسم: بيت الكويت في القاهرة. وكان ذلك في شهر اكتوبر لسنة 1945م، وقد جرى افتتاحه رسميا بحضور موفد من وزارة المعارف المصرية.

وبعد أن استقرت الأمور في هذا البيت الذي عُيّن له – مشرفا آنذاك – الأستاذ عبدالعزيز حسين بعد أن تخرج، وصار الاهتمام كبيرا بالأنشطة المختلفة التي تفيد الطلاب بفوائد إضافية بعد انتهائهم من مذاكرة دروسهم، فكان هناك نشاط ثقافي، وآخر رياضي، ونشاط في مجال الرحلات والاستطلاعات. وكان من ضمن النشاط الثقافي صدور مجلة البعثة كما مر بنا آنفا.

ولقد وجد أولئك الطلاب النجباء في مجلتهم هذه مجالا للتعبير، وللمران عليه، حتى لقد وصل مستوى ما يقومون بكتابته إلى درجة عالية من الإجادة.

وصار من المهم لنا أن نعود إلى ما كتبوه في ذلك الوقت المبكر لكي ننظر إلى تلك الجهود التي بذلها أبناء وطننا في سبيل الوصول إلى نيل المقدرة التي تدفع بهم وتعينهم على خدمة وطنهم في وقت كان في أشد الحاجة إلى جهود أبنائه. ولن نذكر – بصورة عامة – المقالات والبحوث التي نشرها هؤلاء الأبناء في مجلتهم التي استمر صدورها مدة وصلت إلى سبع سنوات فذلك يحتاج إلى وقت طويل.

ولكننا سوف نعنى هنا بذكر ما كتبوه في مجال الطرائف، وأكثر ما وجدناه لهم منها تلك التي حدثت أحداثها أثناء وجودهم هناك فعبروا عنها في مجلتهم، وهي طرائف لا تزال تلفت الأنظار، وتمنح الانطباع الصحيح عن أحوال هؤلاء الأبناء في ذلك الوقت البعيد. ومن هنا نبدأ:

كان أول فصل من الفصول التي اتصفت بالطرافة، تحت عنوان: «أطرف ما حدث لي» في الصفحة الخامسة والثلاثين من المجلد الأول بحسب طباعة مركز البحوث والدراسات الكويتية. ويضم هذا الفصل أربع فقرات هي كما يلي:

1- كتب هذه الفقرة محمود توفيق، وكان من طلاب البعثة القدماء وله مشاركة كبيرة في الأنشطة الثقافية. وقد توفي شابا. يقول:

«لم أكن أفهم في بادئ مجيئنا إلى القاهرة اللهجة المصرية الدارجة وجلست أتحدث يوما مع أحد المدرسين المصريين فأخذ يوجه إلي أسئلة كثيرة وكانت كلها تحتمل الرد بالإيجاب فكنت أرد عليه: بلى…! بلى…! فرأيته يتضايق مني ولم أعرف السر في ذلك، ثم تشجع وقال بحماسة: ماتختشي ياجدع.. أنت عمال بتقول بلى.. بلى.. بلى… جاك البلا، ولم أعرف إن كان جادا أم هازلا.. ومنذ ذلك اليوم حرمت على نفسي لفظة بلى أمام المصريين..».

2- وكتب الشيخ جابر العبدالله الجابر الصباح هذه الفقرة.

والشيخ جابر غني عن التعريف، فقد كان في سنة 1949م نائبا لوالده الشيخ عبدالله الجابر الصباح في رئاسة دائرة المحاكم. وبعد الاستقلال اختير محافظا للأحمدي، ثم وزيرا للشؤون الاجتماعية والعمل. وهو رجل واسع الثقافة له صلات قوية بكثير من أصحاب الفكر. ويستقبل في ديوانه كثيرا من المحبين له.

وكان نص هذه الفقرة كما يلي:

«دخلت أحد المطاعم يوما فلمحت في إحدى زواياه رجلا فرنسيا قد تجاوز السبعين وقد أطلق شعر رأسه ولحيته، ووضع أمامه أدوات الرسم وفي يده لوحات يرسم عليها.. فجلست قريبا منه لأرى. أو كما يقول المثل الكويتي (لأبلغ شفى) وإذا به ينظر إلي من طرف عينيه.. فظننت أنه لا يريد أن أنظر في صوره وصرفت بصري إلى الشارع أتأمل الغادين والرائحين وبعد نصف ساعة تقريبا أحسست بمن يلمس كتفي والتفت وإذا بالرسام قد وضع اللوحة أمامي وقال لي: مارأيك فيها؟ فقلت – وقد خرجت مني هذه الكلمة سهوا (زينة). فرفع الرجل إلي رأسه وهو يقول: أتسمح بإعادة ما قلت؟ فقلت له: متأسف إنني أقصد أن أقول (كويسه).. فسحب أحد الكراسي وجلس بجانبي وأخذ يسألني عن موطني فلما قلت له إنني كويتي.. ذكر لي أنه يعرف الكويت. وقد زارها سنة 38 قبيل نشوب الحرب.. وذكر لي بعض أسماء التجار وأنه قابل سمو الأمير… كما ذكر لي أنه يحب الرسم كهواية فقط. وقد سر كثيرا لما علم أنني لا أفضل على الرسم هواية أخرى».

3- وكاتب الفقرة الثالثة هو المرحوم جاسم المشاري، وكانت مجلة البعثة تكتب اسمه هكذا: قاسم مشاري، وهو جاسم المشاري الحسن البدر تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وتدرج في الوظائف الحكومية حتى صار وكيلا لوزارة العدل قبل أن يتقاعد ويعمل في المحاماة. اختير عضوا في المجلس البلدي في إحدى دورات انعقاده. وكان دمث الأخلاق، محبوبا من الجميع مرتبطا بأصحابه الأوائل أشد ارتباط. وكان نص ما كتبه:

«كان ذلك عندما كنا نعيش في القسم الداخلي بالمدرسة السعيدية أول مجيئنا إلى مصر.. ففي ليلة من ليالي الشتاء الباردة عندما أوبنا إلى مخادعنا وسرى الدفء في أجسامنا رحنا في نوم عميق زاد من لذته التعب الذي قاسيناه طول النهار.. ولعبت في رأس أحدنا الأحلام فرأى في منامه أن ثعبانا طوله يزيد على المترين ضخما أسود اللون يلاحقه بسرعة في أحد شوارع الكويت وقد فغر فاه وأدلى لسانه.. وصاحبنا هذا يجري مسرعا ولكن دون جدوى.. وإذا بالثعبان يهجم عليه ويطبق على قفاه، فيصرخ ويقفز قفزة شديدة. كل هذا وهو نائم، فلما أفاق على أثر ذلك وجد نفسه تحت سرير زميله المجاور له!.. ولشدة صرخته أحس بها أحد الزملاء فتقلب في فراشه وهو يتذمر من هذه الأسود التي تزأر في حديقة الحيوان المجاورة للمدرسة؟. معتقدا أن هذه الصرخة صادرة منها.

.. ثم أيقظ صاحبنا الذي حلم هذا الحلم المزعج أحد زملائه ليبلغه خوفه الشديد.. فقال له: اقرأ سورة الحمد تطمئن نفسك فأخذ يتلوها ويرددها حتى أيقظنا جميعا من نومنا اللذيذ!».

4- وكتب الفقرة الأخيرة في الصفحة المشار إليها الطالب – آنذاك – يعقوب الحميضي. الذي تخرج في إحدى كليات جامعة القاهرة، وقام بأعمال كثيرة بعد تخرجه، منها ما هو خاص به ومنها ما هو عام، رأس تحرير جريدة (الفجر) في سنة 1953م، وكان عضوا في المجلس التأسيسي، ثم في مجلس الأمة. في الدورة التي بدأت في سنة 1963م. وكان نص الفقرة التي كتبها:

«ارتديت في أحد الأيام بيجامة جديدة وأخذت أتمشى في حديقة البيت مزهوا بها.. وإذا بسكرتير البيت يدعوني من بعيد. فلما اقتربت منه سألني عن ثمن البيجامة فقلت له (اخرص) فانبهت وسكت فجأة وقد تغير لون وجهه ثم قال وهو يحملق في وجهي: أشكرك على هذه الأخلاق النبيلة!. فاستغربت وأعدت القول مرة أخرى مداعبا (ماتخرص؟) فصاح في وجهي: (اسكت.. يا..) وقبل أن يتم كلمته فهمت أن فهمه مني كان في منتهي الغلط إذا أنه ظن أن كلمة (أخرص) الكويتية بمعنى كلمة (اخرس) المصرية وتعاونت مع بعض الزملاء على إفهامه أن كلمة (اخرص) معناها خمن ثمنها وكفى الله شر ما كاد يحدث..».

٭٭٭

ويبدو أن طلبة بيت الكويت قد وجدوا في صدور هذه المجلة فرصة للتعبير عن ملاحظاتهم وتجاربهم التي حصلوا عليها نظرا لانتقالهم إلى موقع بعيد عن بلادهم ومن أجل ذلك فإنها قد قدمت للفصل الذي نشر في ص 54 من المجلد الأول بما يلي:

«عندما جاء الطلبة الكويتيون إلى مصر كان المحيط جديدا عليهم، والأنظمة مختلفة عما عهدوها في الكويت، والحياة على العموم غريبة عنهم. مما نتج عنه حدوث بعض الطرائف والمفارقات المضحكة لبعضهم، وسنوالي في هذا الباب نشر ما وصلنا من الطلبة من هذه الطرائف والمفارقات».

وفي هذا الفصل أربع فقرات هي كما يلي:

1- الفقرة التي كتبها الأستاذ حمد يوسف العيسى، وهو ابن الشيخ يوسف بن عيسى القناعي. كان آخر عمل تولاه هو رئاسة ديوان الموظفين. وكان له دور مهم في بداية تنظيم الوظائف الحكومية في البلاد، وشارك في عدد من اللجان التي كونتها الحكومة لهذا الغرض، ثم تقاعد وافتتح مكتبا للمحاماة، فهو خريج كلية الحقوق بجامعة القاهرة، أما ما كتبه فكما يلي:

«في إحدى الصحف وجدت إعلانا جذابا عن شيء يسمى براندي، وصف بأنه مفيد ومقو للجسم، فما كدت أخرج من المدرسة حتى بادرت بالذهاب إلى المحل الذي ذكرت المجلة أنه يباع فيه وطلبت منه زجاجة براندي. فنظر إلي الرجل لحظة ثم قال: حضرتك تلميذ وعاوز تسكر؟!.. وقبل أن يتم جملته كنت أتلمس لرجلي موضعا من الشارع العريض».

2- وهذه الفقرة من كتابة المرحوم يوسف محمد الشايجي، الذي عمل في إحدى الوظائف الحكومية بعد تخرجه، ثم تولى إدارة بنك التسليف والادخار، وسار به إلى أداء الغرض من إنشائه.

كان والده الشيخ محمد الشايجي مدرسا، وقد أسعدني الحظ أن تلقيت بعض دروسي عليه في المدرسة الأحمدية خلال سنة 1948م.

وقد قال في فقرته:

«في أول يوم من مجيئنا إلى مصر اتفق أن ركبت الترام مع ثلة من جنود الحلفاء وكنت معهم في المظهر سويا مرتديا بذلة خاكية وهي البدلة الوحيدة التي كنت أملكها، وبعد قليل أقبل الكمساري قائلا تكتس، فكان كل جندي يقول له، هومج؟، فيطلب منه ثلاثة مليمات ولما وصلني قلت له بدوري «هومج؟» لأنني أجهل نظام الترام وتعاليمه فأخذ مني ثلاثة مليمات أيضا وهكذا كنت أمثل هذا الدور المضحك كجندي حليف ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع لبست بذلتي الجديدة وركبت الترام مختارا مكانا لائقا بمظهري الجديد وجاء الكمساري قائلا «تذكرة يا أفندم»، فأعطيته ثلاثة مليمات كالعادة، فسألني عن وجهتي، ولما أخبرته طلب مني ثلاثين مليما، وحاولت أن أفهمه أنني تعودت الركوب كل يوم بثلاثة مليمات لا ثلاثين.. بيد أن محاولاتي ذهبت عبثا، وكاد يمسك بتلابيبي بعد ما نفد صبره لولا أن تدخل أحد الركاب أفهمني أن المدنيين يدفعون ثلاثين مليما في الدرجة الأولى للمسافة التي أريدها..

ومازلت منذ ذلك اليوم أضحك من بذلتي الخاكية التي وفرت علي ستين مليما في ثلاثة أيام خسرت نصفها في أقل من لمح البصر…».

3- وكتب المهندس حامد عبدالسلام هذه الفقرة، واسمه حامد عبدالسلام شعيب، كان مهندسا ماهرا، تلقى مزيدا من العلم بهذا الفن بعد تخرجه في كلية الهندسة بمصر، ثم التحق بعدة دورات في بريطانيا. وكان عمله في دائرة بلدية الكويت، وقد تدرج في وظائفها حتى صار رئيسا للمهندسين.

أما نص الفقرة التي كتبها فكما يلي: «ذهبت إلى المدرسة في اليوم التالي لوصولنا إلى القاهرة، فنزلت من الترام في محطة بقربها مدرسة، فلما وصلت بابها وهممت بالدخول أوقفني البواب وكلمني كلاما لم أفهمه. وحانت مني التفاتة إلى لافتة المدرسة فإذا هي روضة أطفال!.. حينئذ يممت شطر الشرق ولم أزل أسير حتى اصطدمت بجبل المقطم!.. وهناك سألت عن الزمالك، وركبت الترام إليه. ولما نزلت أخذت أطوف الشوارع التي حول البيت باحثا عنه، وبعد عدة دورات حوله وجدني بعض التلاميذ الذين أرسلهم المشرف للبحث عني، فنادوني، ولما سمعت النداء التفت وبهذه اللفتة تمت تلك الجولة المشؤومة وقد كانت الساعة إذ ذاك الخامسة مساء».

4- وكتب آخر فقرة ضمن هذه المجموعة الأستاذ محمد الفهد، وكان رجلا طيبا محبوبا من كثير من الناس، ومن ألصق أصدقائه به الأستاذ أحمد البشر الرومي والأستاذ حمد الرجيب، تدرج بعد تخرجه في عدة وظائف.

وكان آخر عمل له هو شغله لمنصب وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وقد كتب ما يلي: «دعانا صديق مصري إلى الغداء يوم العيد، وكان الوقت متأخرا جدا، مما جعل مصاريننا تتراقص من الجوع، ولحسن الحظ – أو لسوئه – أنه لما دعينا إلى المائدة كان الطعام يقدم إلينا على دفعات، الأمر الذي لم نألفه في الكويت فكنا كلما قدم إلينا توع أتينا عليه في طرفة عين.

ولم نتنبه إلى أن الداعين لم يشاركونا في الطعام إلا بعد أن حضرت الفاكهة… وشعر أحدنا بعملتنا هذه، فقال «ياجماعة… أنتم نايمين وإلا صاحيين فشلتونا» ولكن بعد فوات الأوان!.. والأدهى من ذلك أنه في صبيحة اليوم التالي حدثت مشادة بين أحدنا وبين الداعي في المدرسة لسبب تافه جعلت زميلنا الكويتي يأخذ بتلابيبه لولا أن بادره أحدنا قائلا «عيب يا أخي!… ألاكل ما نزل من البلعوم!… عيب… فانفجرنا ضاحكين…».

٭٭٭

ثم ننتقل إلى الفصل المنشور في الصفحة السابعة والخمسين من المجلد الأول حيث نقرأ معا فصلا ثالثا من الفصول التي تنشرها مجلة البعثة تحت عنوان:«أطرف ما حدث لي»، وكان هذا هو الفصل الذي كتبه الأستاذ عبدالله حسين والأستاذ أحمد العامر، في ص75 من المجلد الأول.

كاتب الفقرة الأولى هو الأستاذ عبدالله أحمد حسين، الذي صار بعد ذلك الوقت مدرسا وديبلوماسيا، وهو إلى جانب ذلك أديب وشاعر له قصائد منشورة ومشهورة. لقيته في دمشق عندما كان سفيرا هناك وسعدت بالاتصال به ومعرفته، وقد انتقل بعد ذلك إلى المغرب فصار سفير الكويت بها.

نشرت له مجلة البعثة في الصفحة التي أشرنا إليها فقرة عن مشاهداته في القاهرة خلال مظاهرة جرت هناك فقال:«كانت القاهرة تهتز تحت أقدام شبابها المتوثب وكانت المظاهرات في كل مكان وكان الأمر بمنع السير الجمعي قد صدر عندما كنا نحن النفر من بعثة الكويت نتجه نحو بيتنا اتقاء لخطر داهم أو تيار من سيل الطلبة الجارف. وما كدنا نصل إلى جسر «أبي العلاء» – وكان عددنا يبعث على الريبة – حتى سد طريقنا شاب طويل الجسم مفتول العضلات يرتدي الملابس البلدية، وقال: هنا يافندي. وأشار إلى ناحية في جانب الطريق. فما انحرفنا قليلا إلا وعدد من رجال البوليس يكبسنا على شكل دائرة ليمنع أيا منا من الإفلات.

وكان الزميل الفاضل قاسم المشاري أول من اقتيد وكان يصيح بصوت متشنج قائلا «إحنا مش مصريين يا أفندية» ولكن هذا لم يفده شيئا فمسكه اثنان كل منهما في عضد ودفعاه إلى الأمام، فارتفع عن الأرض ذراعا ولكنه أبى إلا أن يتحداهما فأخذ يحرك رجليه ماشيا في الهواء!..

وبالقرب منه مشي الزميل المحبوب إبراهيم الملا يسير في ركابه شرطيان أمسكه أحدهما عند كتفه فغاص عنقه ووجهه في المعطف ولم يبق إلا زر طربوشه الأسود يلاعب الجو!…

أما الزميل المحترم سليمان الخالد فلا أستطيع وصف حالته لأني لم أره أثناء حدوث هذا الأمر. وكل ما رأيته غبار ثائر وعجاجة قاتمة تخب أمامنا مسرعة، يبرز خلالها أحيانا حذاءان أسودان غليظان وبينهما حذاء عادي يرتفع بضع سنتيمترات عن الأرض..

هذا ما حدث وما رأيته من الإخوان، أما أنا فبعد نهاية الشدة شعرت بألم في الكتف الأيمن وحرارة في قفاي..».

وقد ذكر أبو حسام في كلمته ثلاثة أسماء لزملاء له في الدراسة اقتضى سياق حديثه ذكرهم، وهم:

1- قاسم مشاري وهو جاسم مشاري الحسن البدر وقد مضى الحديث عنه قبل قليل.

2- إبراهيم الملا، ولم يرد في المجلة اسمه كاملا، ولكن نشاطه كان ملحوظا تشهد به صفحاتها، إذ كان مشاركا في كل ما تطلب منه المشاركة فيه من أعمال تتعلق بالحياة الاجتماعية الخاصة بزملائه. وكان يتلقى دروسه في كلية التجارة بجامعة القاهرة.

3- السيد سليمان حمود الزيد الخالد، من خيرة شباب الكويت العاملين في المجالات التي تهم البلاد وأهلها، تخرج في كلية التجارة بجامعة القاهرة سنة 1958م، وكان وكيلا لوزارة المالية والنفط لشؤون الجمارك والمواني، وتم اختياره وزيرا للمواصلات في سنة 1975م. ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى في سنة 1990م.

وكتب الأستاذ أحمد العامر الفقرة الثانية في هذا الفصل، وكانت فقرة ذات صفة فكاهية، ونصها:

«كان ذلك في العام الماضي عندما حضرت إحدى حفلات الآنسة أم كلثوم وقد غنت فيها وصلة جديدة أبدعت فيها. وما كادت تنتهي من غنائها حتى وقف من خلفي رجل سمين وألقى – مرتجلا – خمسة أبيات من الشعر في مدح أم كلثوم وإطراء غنائها، وقد استعاد الجمهور أبياته وصفق له استحسانا. وقد أعجبت بشعره كغيري من المعجبين مما دفعني إلى أن أذهب إليه وأطلب منه أن يملي علي قصيدته. وما كدت أقترب منه وورقتي وقلمي في يدي وأنا نوعا ما (كاشخ) وجمهور المعجبين محيطون به حتى صاح أحدهم وهو يشير إلي بإصبعه: الصحفي أهوه!. فاشرأبت الأعناق إلي، ومن ثم فتح الشاعر يديه وقلبه لتحيتي والترحيب بي. كيف لا وأنا سأنشر قصيدته واسمه في صحيفتي كما يعتقد. هذا والجمهور يراقب حركاتي وسكناتي. وسألني عدد كبير من الواقفين عن الصحيفة التي أمثلها ولكنني تجاهلت سماع هذا السؤال..

هذا والشاعر يملي علي قصيدته وهو يترنم بإلقائها وابتسامة الغبطة لا تفارق شفتيه.. أما أنا فقد أخذت ابحث لنفسي عن مخرج قبل أن يجيء صحفي حقيقي. وقبل أن أكمل القصيدة جاء أحدهم يطلب الشاعر لمقابلة أم كلثوم لتشكره على قصيدته، فما كان منه إلا أن التفت إلي وقال: اتفضل معايا يا أستاذ للست، فسرت في أثره ناسيا موقفي والورطة التي تورطت فيها، ولم يذكرني ذلك إلا منظر اثنين من رجال البوليس الواقفين على غرفتها، فتأخرت قليلا في اللحظة التي دلف فيها الشاعر، ومن ثم أطلقت ساقيّ تسابقان الريح..».

هذا وكان الأستاذ أحمد العامر رجلا من ألطف الرجال، له قلب فنان، وعقل كاتب، ويد رسام. كان من طلاب البعثة الكويتية في مصر حين كتب هذه الفقرة. وكان صديقا للجميع محبوبا بينهم. يقدم انتاجه لمجلة البعثة باستمرار مكتوبا أو مرسوما. عاد إلى الكويت مشغول البال بالشأن العام، فكان يكتب مقترحات إلى الجهات المعنية دون توقف، أصدر جريدة الوطن، وكان يتولى تحريرها بالكامل.

٭٭٭

هذا هو منتهى ما اخترناه من طرائف مجلة البعثة، وقد وجدنا فيما تقدم فرصة للتعريف بأبناء الكويت الذين درسوا في مصر قديما. ونحن ملزمون بذكرهم، وذلك بسبب مبادرتهم إلى طلب العلم، ثم بسبب ما قدموه لوطنهم الكويت من خدمات جليلة بعد عودتهم من مقر دراستهم. ولا تزال آثار أعمالهم مأثورة يذكرها معاصروهم. رحمهم الله جميعا.

شاركها.
Exit mobile version