اعتبر فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق أن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبدالله، المبرمة في 29 أبريل 2012 بين جمهورية العراق والكويت، هي «معالجة فنية وإدارية لآثار جريمة غزو «المقبور» صدام حسين للكويت عام 1990 وما ترتب عليها من ترسيم الحدود بموجب قرار مجلس الأمن رقم 833 لسنة 1993، إذ أكدت مادتها السادسة أن الاتفاقية «لا تؤثر على الحدود بين الطرفين في خور عبدالله».

ورأى زيدان ان المحكمة الاتحادية العراقية أحدثت فراغا تشريعيا واضطرابا ديبلوماسيا، في نقضها الحكم القطعي الصادر في 18 ديسمبر 2014 بشأن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبدالله، وحذر من أن إلغاء الاتفاقية يعني عمليا نسف 400 اتفاقية أبرمها العراق خلال عقدين.

وفي مقال نشر أمس في صحيفة «الشرق الأوسط» تحت عنوان «أمواج خور عبدالله بين قرارين متناقضين»، قال زيدان ان مجلس الوزراء العراقي صادق «على مشروع قانون التصديق في 12 نوفمبر 2012، وأقره مجلس النواب بالأغلبية البسيطة بموجب القانون رقم 42 لسنة 2013، ثم نشر في جريدة (الوقائع) العراقية بالعدد 4299 بتاريخ 25 نوفمبر 2013. وقد أودعت وثائق التصديق لدى الأمم المتحدة، وأرسلت نسخة منها إلى المنظمة البحرية الدولية، فدخلت الاتفاقية حيز التنفيذ وأصبحت ملزمة استنادا إلى قاعدة (pacta sunt Servando)، وهي من المبادئ الأساسية في القانون الدولي، وتعني حرفيا (يجب احترام المعاهدات) أو (يجب الوفاء بالالتزامات). وفي الوقت ذاته، استكملت إجراءات التصديق في مجلس الأمة الكويتي».

وأشار إلى انه «عندما طعن بعدم دستورية قانون التصديق، أصدرت المحكمة الاتحادية، قرارها المرقم (21/ اتحادية/ 2014) بتاريخ 18 ديسمبر 2014، فميزت بين قانون تنظيم عملية المصادقة على المعاهدات، الذي يتطلب أغلبية الثلثين بموجب المادة (61/ رابعا) من الدستور، وبين قانون التصديق على اتفاقية معينة، الذي يقر بالأغلبية البسيطة وفقا للمادة (59/ ثانيا).

وقررت المحكمة رد الدعوى لعدم استنادها إلى أساس دستوري أو قانوني، وبذلك ثبتت شرعية الاتفاقية داخليا، وحمتها من أي طعن لاحق، مانحة الحكم قوة الأمر المقضي بمقتضى المادة 105 من قانون الإثبات، التي تضفي على الأحكام الباتة حجية فيما فصلت فيه من حقوق، ما دام الخصوم والموضوع والسبب لم يتغيروا.

وأردف رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق أن هذا الموقف بقي «مستقرا إلى أن نظرت المحكمة الاتحادية، في الدعويين الموحدتين المرقمتين (105/ وموحدتها 194/ اتحادية/ 2023) في 4 سبتمبر 2023، قضت المحكمة بعدم دستورية القانون رقم 42 لسنة 2013 وعدلت عن قرارها السابق (21/ اتحادية/ 2014)، مستندة إلى وجوب التصويت بأغلبية الثلثين، وإلى المادة 45 من نظامها الداخلي التي تجيز لها العدول كلما اقتضت المصلحة الدستورية والعامة».

وبين زيدان أنه «إذا ما اعتمد شرط (أغلبية الثلثين) الذي تبناه القرار الثاني في سنة 2023، فإن ذلك ينسحب تلقائيا على أكثر من 400 اتفاقية صدق عليها سابقا (بالأغلبية البسيطة)، فتعتبر جميعها باطلة لعدم استيفائها النصاب الجديد. ما يعني عمليا نسف منظومة الاتفاقيات الدولية التي أبرمها العراق خلال العقدين الماضيين. كما ألغى القرار استقرار المراكز القانونية الناشئة عن اتفاق دولي مودع لدى الأمم المتحدة، مما يرتب مسؤولية دولية محتملة على العراق».

ولفت إلى ان العدول في التشريع العراقي يعد: أداة استثنائية تمارس بدقة متناهية، إذ حصرها المشرع في المادة (13/ أولا/ 1) من قانون التنظيم القضائي بالهيئة العامة لمحكمة التمييز الاتحادية وحدها، من دون سائر المحاكم، وبشروط جوهرية، هي «أن يرد العدول على مبدأ قضائي مجرد لا على حكم قطعي، وأن يحال الملف من إحدى الهيئات التمييزية إلى الهيئة العامة، وأن يصدر قرار معلل يبين الحاجة الملحة»، مع عدم المساس بالمراكز القانونية والحقوق المكتسبة. هذا التقييد يحافظ على استقرار التعاملات ويحمي مبدأ حجية الأحكام المنصوص عليه في المادة 105 من قانون الإثبات، ويمنع أي سلطة قضائية من تبديل النتائج النهائية للنزاعات تحت ذريعة الإصلاح أو التطور.

وأضاف: رغم خلو الدستور وقانون المحكمة الاتحادية من أي نص يخول هذه المحكمة صلاحية العدول، أدرجت المحكمة في نظامها الداخلي نصا موضوعيا هو المادة 45، يجيز لها أن «تعدل عن مبدأ سابق.. كلما اقتضت المصلحة الدستورية والعامة»، وهو إدراج يتجاوز الطبيعة الإجرائية للأنظمة الداخلية، ويخالف مبدأ تدرج القواعد القانونية، إذ إن النظام الداخلي أدنى مرتبة من القانون، ولا يصلح لتوسيع الاختصاصات.

ورأى أن الأخطر من ذلك أن المحكمة، في قرارها المؤرخ 4 سبتمبر 2023، لم تتراجع عن مبدأ، بل نقضت حكمها القطعي الصادر في 18 ديسمبر 2014 بشأن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبدالله، ووصفت النقض بالعدول، مع أن المادة 45 نفسها تنص على أن العدول يرد على «المبدأ» لا على «الحكم».

وحذر من أنه «بهذا التصرف، تجاوزت المحكمة حجية الأمر المقضي، وأحدثت فراغا تشريعيا واضطرابا ديبلوماسيا، لأن الحكم الملغى كان يؤسس لالتزام معاهدي مودع لدى الأمم المتحدة».

وعليه، فإن «أي قرار يطلق عليه (عدول) خارج هذه الضوابط، وخصوصا إذا مس حكما نهائيا أو صدر عن جهة لا تملك الاختصاص، يعد لغوا قانونيا لا يعتد به، ويلحق ضررا مباشرا بمبدأ سيادة القانون وبثقة المتقاضين».

وخلص زيدان قائلا: «يتبين من هذا المسار أن القرار الأول في سنة 2014 اتسم بالانسجام مع النصوص الدستورية وقواعد القانون الدولي، فحقق اليقين القانوني داخليا وخارجيا، بينما افتقر القرار الثاني في سنة 2023 إلى الأساس الدستوري والقانوني، وأثار تداعيات قانونيــة ودوليــة لا يستهان بها».

شاركها.
Exit mobile version