وأوضح البابا فرنسيس أن سلفه البابا بنديكتوس سلّمه الصندوق شخصيًا في كاستل غاندولفو، المقر الصيفي للباباوات جنوب روما، وذلك بعد وقت قصير من انتخابه بابا للكنيسة الكاثوليكية. وأشار إلى أن أحدًا من الطرفين لم يكن يعرف على وجه التحديد كل ما يتضمنه الصندوق في تلك اللحظة.
وكتب فرنسيس في مذكراته: “أعطاني صندوقًا أبيض كبيرًا، وقال لي: كل شيء هنا (…) وثائق تتعلق بأصعب القضايا وأكثرها إيلامًا. قضايا تتعلق بسوء المعاملة، والفساد، والمصالح الخفية، والمخالفات”.
وفي كتابه “الأمل”، كتب البابا فرنسيس أنه شعر بأنه “مدعو لتحمّل مسؤولية كل الشرور التي ارتكبها بعض الكهنة”. وروى أن البابا بنديكتوس السادس عشر قال له حينها: “لقد وصلت إلى هذا الحد، اتخذت ما يلزم من إجراءات، وأقصيت الأشخاص المعنيين. والآن، جاء دورك”.
وأكد البابا فرنسيس في الكتاب أنه اختار مواصلة المسار نفسه الذي بدأه سلفه، في مواجهة ملفات شائكة داخل الكنيسة.
ويُعدّ العام الأخير للبابا بنديكتوس السادس عشر في الكرسي الرسولي من أكثر السنوات صعوبةً في حبريته، خاصة مع تدهور حالته الصحية التي دفعته إلى اتخاذ القرار التاريخي بالتنحي في عام 2013. غير أن التحدي الأبرز خلال فترة ولايته كان التصدي لأزمة الاستغلال الجنسي للأطفال داخل الكنيسة.
وتعرّض بنديكتوس السادس عشر، على مدار سنوات حبريته، لانتقادات حادة واتهامات بعدم اتخاذ خطوات حاسمة لمكافحة الانتهاكات الجنسية. إلا أن البابا فرنسيس دافع عن سلفه، مشيرًا في مقابلة مع صحيفة “لا ناسيون” الأرجنتينية في عام 2023، إلى أن بنديكتوس “كان أول من واجه هذه المشكلة بشجاعة”.
وقد تفجّرت هذه الأزمة بفعل تقرير صادم صدر في عام 2022 بشأن الاعتداء الجنسي على الأطفال داخل الكنيسة، أدان فيه المحققون البابا بنديكتوس السادس عشر على خلفية أدائه عندما كان رئيسًا لأساقفة ميونيخ.
وبحسب ما ورد في التقرير، فقد أهمل الكاردينال جوزيف راتزينغر، الذي أصبح لاحقًا البابا بنديكتوس، أربع قضايا تتعلق برجال دين اتُّهموا بارتكاب انتهاكات جنسية ضد الأطفال، خلال فترة خدمته في أبرشية ميونيخ. وهو ما نفاه البابا السابق بشكلٍ قاطع.
أعدّت التقرير شركة محاماة ألمانية مستقلة، وكشف عن نحو 500 ضحية للاعتداء الجنسي، على مدار نحو 75 عامًا من الانتهاكات داخل الأبرشية ذاتها.
وفي ردّه على هذا التقرير، كتب بنديكتوس السادس عشر رسالة مؤثرة جاء فيها: “في كل لقاءاتي مع ضحايا الاعتداءات الجنسية من قبل الكهنة، نظرتُ في أعينهم ورأيتُ عواقب ذنب عظيم. وتعلّمت أن أفهم أننا نحن أنفسنا ننجرف إلى هذا الذنب عندما نتجاهله”.
وفي سياق تعليقه على التقرير، كتب بنديكتوس السادس عشر: “إنني أتحمل مسؤولية كبيرة في الكنيسة الكاثوليكية. وأشعر بألم عميق بسبب التجاوزات والأخطاء التي وقعت خلال خدمتي في أماكن محددة”.
وفي بيان نُشر في ذلك الوقت، أعرب بنديكتوس عن امتنانه للدعم الذي تلقّاه من البابا فرنسيس، قائلاً: “أنا ممتن بشكلٍ خاص للثقة والدعم والصلوات التي عبّر عنها لي البابا فرنسيس شخصيًا”.
ثم أضاف في ما بدا أنه تأمّل روحاني عميق مع اقتراب نهاية حياته: “سأواجه قريبًا الحكم النهائي على حياتي. وعلى الرغم من أنني، بالنظر إلى حياتي الطويلة، قد أملك أسبابًا كثيرة للشعور بالخوف أو القلق، إلا أنني أشعر بفرح في روحي، لأنني أؤمن إيمانًا راسخًا بأن الرب ليس فقط قاضيًا عادلًا، بل صديقًا وأخًا أيضًا”.
وفي موازاة هذه الرسالة، أصدر الفاتيكان تحليلًا قانونيًا مستقلًا أعدّه أربعة محامين، شككوا فيه في بعض المزاعم الواردة في التقرير الألماني، مؤكدين أن المحققين أساؤوا توصيف الأحداث وتجاهلوا بعض الوقائع الأساسية.
وفي هذا السياق، أشار عدد من الشخصيات الكنسية، من بينهم الأب تاديوش إيزاكوفيتش-زاليسكي، إلى أن البابا بنديكتوس كان قد اتخذ خطوات جادة لمكافحة الاعتداء الجنسي على الأطفال، وذلك خلال السنوات الأخيرة من حبرية البابا يوحنا بولس الثاني، ولاحقًا بعد توليه منصبه البابوي.
وفي سياق الإجراءات المؤسسية التي اتُّخذت خلال حبريته، أشارت وكالة الأنباء الكاثوليكية إلى أن الكرسي الرسولي غيّر في 15 يوليو/تموز 2010 معايير التعامل مع أخطر الجرائم، وفي مقدمتها الاعتداء الجنسي على القاصرين من قبل رجال الدين، إضافة إلى جرائم تتعلّق بالإيمان وسر القربان المقدس، والتكفير عن الذنوب، والرسامات الكهنوتية.
وجاءت هذه التعديلات ضمن رسالة نشرها مجمع عقيدة الإيمان، ووجّهها إلى أساقفة الكنيسة الكاثوليكية والرؤساء الكهنة، لتوضيح التغييرات التي طالت الرسالة الرسولية Motu Proprio الصادرة عام 2001 بعنوان “سرّ القداسة المقدس”.
وفي مقدمة الوثيقة، أوضح الكاردينال ويليام ليفادا، محافظ المجمع آنذاك، أن التعديلات جاءت لتحديث بعض البنود وجعل النص أكثر فاعلية في مواجهة الجرائم الأكثر خطورة. وقد وافق عليها البابا بنديكتوس السادس عشر رسميًا في 21 مايو/أيار 2010.
وشملت التعديلات أحكامًا تسرّع الإجراءات القانونية الكنسية في القضايا العاجلة، وتتيح مشاركة العلمانيين في المحاكم الكنسية، كما مدّدت فترة التقادم الزمني للقضايا من 10 إلى 20 عامًا بعد بلوغ الضحية سن الثامنة عشرة.
ولأول مرة، نصّت التعديلات على معاملة الجرائم المرتكبة ضد الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية بالطريقة نفسها التي تُعامل بها الجرائم ضد القاصرين، كما أُدرِجت جريمة استغلال الأطفال في المواد الإباحية ضمن الجرائم التي يشملها هذا النظام التأديبي المشدد.
في خطاب ألقاه أمام الأساقفة في أيرلندا في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2006، أدان البابا بنديكتوس السادس عشر بشدة الانتهاكات التي ارتكبها بعض رجال الدين بحق القاصرين، واصفًا الجراح التي خلّفها الكهنة المعتدون بأنها “عميقة”، وأضاف: “المهمة العاجلة هي إعادة بناء الثقة حيثما تضررت”. وقد اعتُبر الخطاب حينها انتقادًا صارمًا للاعتداءات الجنسية داخل الكنيسة، ورسالة واضحة إلى ضرورة تحمل المسؤولية ومعالجة هذه الآفة.
ويشير محللون إيطاليون في الفاتيكان إلى أن بنديكتوس، خلال فترة بابويته، اتخذ خطوات عملية لمكافحة هذه الظاهرة، كان أبرزها إجبار الأب المكسيكي مارسيال ماسيال ديغولادو، مؤسس جماعة “فيلق المسيح” المتهم بارتكاب انتهاكات جنسية ضد القاصرين منذ ستينيات القرن الماضي، على الانسحاب من الحياة العامة والتكفير عن ذنوبه.
من جهته، واصل البابا فرنسيس السير في النهج نفسه، إذ التقى خلال سنوات حبريته عددًا من ضحايا الاعتداءات الجنسية، من بينهم مجموعة استقبلها في بروكسل عام 2024. وأفاد بيان صادر عن الفاتيكان حينها أن البابا عبّر عن “شكره لشجاعتهم وخجله العميق مما عانوه وهم أطفال على أيدي الكهنة الذين أُوكلت إليهم رعايتهم”.
وفي خطاب ألقاه خلال زيارته إلى قلعة لايكن، قال البابا فرنسيس: “هذه آفة تحاربها الكنيسة بعزم وحزم، مرافقةً ومستمعَةً إلى من تأذّوا، ومُنفّذةً برنامجًا وقائيًّا واسع النطاق في جميع أنحاء العالم”.
منذ توليه منصب الحبر الأعظم، انخرط البابا فرنسيس بجدية في محاربة الفساد داخل أروقة الفاتيكان، حيث أصدر في عام 2021 تشريعًا تاريخيًا يتيح محاكمة الكرادلة والأساقفة المشتبه بارتكابهم جرائم أمام محاكم الفاتيكان المدنية، في خطوة وُصفت حينها بأنها سابقة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.
ولم يكن هو وسلفه، البابا بنديكتوس السادس عشر، بمنأى عن مواجهة الفضائح التي عصفت ببنك الفاتيكان، المعروف رسميًا بـ”معهد الأعمال الدينية”. فبعد انتخابه مباشرة، درس البابا فرنسيس خيار إغلاق البنك بالكامل، في ظل ما تردد عن تورطه في عمليات غسل أموال وتهرب ضريبي، لكنه اختار المضي في استكمال الإصلاحات الهيكلية التي كان بنديكتوس قد بدأها.
وقد شرع البابا فرنسيس في عملية إصلاح شاملة لبنك الفاتيكان، سعيًا لفرض الشفافية والمساءلة، ومواءمته مع المعايير الدولية بعد سنوات من الفضائح المالية، التي طالت كبار رجال الدين، بمن فيهم بعض الكرادلة، وأثارت تساؤلات حول الصورة الأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها المالية.
ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، أطلق البابا يوحنا بولس الثاني دعوات لإجراء عمليات تدقيق داخلية في مؤسسات الفاتيكان المالية، في محاولة مبكرة لتقويم ما بدا لاحقًا أنه تركة معقدة من الفساد.
فعلى مدى عقود سبقت الإصلاحات الحديثة، تورّط بنك الفاتيكان، في عدد من الفضائح المالية، تمثلت في فتح حسابات لأشخاص غير مصرح لهم، واستخدامها في عمليات مشبوهة، وسط تواطؤ من موظفين ومسؤولين فاسدين.
وفي قلب هذه العاصفة، برز اسم الخبير المصرفي الإيطالي إيتوري جوتي تيديشي، الذي تولى رئاسة البنك بين عامي 2009 و2012، وهي فترة شهدت إجراء تحقيقات واسعة في شبهات غسيل الأموال طالت مالية الكرسي الرسولي برمتها، والتي كانت حينها تعمل وسط قدر كبير من الغموض وعدم الشفافية.
وقد أُقيل تيديشي لاحقًا بتهمة “الإهمال في أداء الواجب”، رغم ادعائه بأنه كان يسعى إلى تعزيز الشفافية وإجراء إصلاحات داخل المؤسسة. وقال في تصريح سابق لشبكة “يورونيوز” عام 2016: “لقد تبيّنت الحقائق لاحقًا بصورة مختلفة، لكن القضية أحيلت إلى المدعي العام، وفضّلت عدم الإدلاء بأي تفاصيل إضافية.”
حتى اليوم، لا تزال طبيعة الوثائق والملفات الموجودة داخل “الصندوق الأبيض” الذي سلّمه البابا بنديكتوس السادس عشر لخلفه البابا فرنسيس مجهولة، ولا يُعرف ما إذا كان سيتم تسليمه إلى البابا القادم في المستقبل، أم سيبقى طيّ الكتمان داخل أرشيف الفاتيكان.