نشرت في

اعلان

لأشهر طويلة، بدت مفاوضات التهدئة في غزة وكأنها تدور في حلقة مفرغة، محكومة بسقوف متعارضة وحدود لا يملك أحد تجاوزها. لكن شيئًا ما تغيّر مؤخرًا. خرائط جديدة بدأت تظهر على طاولات الوسطاء، تتحدث بلغة مختلفة، وتتسلل منها إشارات إلى ما يمكن وصفه بالتحوّل النوعي في مسار الحرب.

هذه المرة، لم تعد المسألة تتعلق فقط بوقف مؤقت لإطلاق النار أو بتسهيلات إنسانية مشروطة، بل باتت المفاوضات تتناول للمرة الأولى، بهدوء وحذر، مسألة إنهاء الحرب نفسها.

في العاصمة القطرية، وفي جلسات مغلقة بعيدة عن الأضواء، يجري التداول بخطط ميدانية تُرسم بدقة. خرائط انسحاب، محاور إعادة انتشار، وآليات تبادل أسرى، تتقاطع كلها في لحظة حرجة، بين إرهاق المعركة وغموض اليوم التالي.

ما الذي تغيّر؟

التحوّل لم يكن وليد مفاجأة، بل تراكم ضغوط وانسداد سياسي. على الجانب الإسرائيلي، بات واضحًا أن العمليات المستمرة لم تُفضِ إلى تحقيق الهدف المُعلن منذ اليوم الأول، وأن الكلفة ترتفع يومًا بعد يوم دون مكاسب ملموسة. وفي المقابل، تدرك الفصائل الفلسطينية أن الوضع الإنساني في القطاع بلغ حدًا يصعب تجاهله، وأن استمرار المعارك على هذا النحو بات يهدد البنية المجتمعية بكاملها.

من هنا، اكتسبت الخرائط الجديدة زخمًا غير مسبوق. فكل طرف يدرك أن قبول هذه الخرائط، بكل ما فيها من تفاصيل ميدانية، سيكون بمثابة خطوة حاسمة نحو تهدئة طويلة الأمد، وربما نهاية حقيقية للجولة الحالية من الصراع.

لغة الخرائط.. ولغة التبادل

بحسب معلومات تداولها الوسطاء، تتضمّن الخطط الجديدة انسحابًا تدريجيًا من مناطق محددة في القطاع، بعضها استُحدث خلال العمليات الأخيرة، مثل محور موراغ جنوب غزة. وفي موازاة ذلك، طُرحت آلية تبادل أسرى تبدأ بإطلاق سراح عشرة محتجزين في أول يومين من الهدنة، وتستكمل على مراحل متتالية.

المثير أن هذه المقاربة وجدت صدى لدى الجانبين، ولو بتحفظات متفاوتة. إذ تمثل، ولو ضمنيًا، اعترافًا متبادلاً بأن الحرب لن تُحسم عسكريًا، وأن المخرج السياسي قد يكون الخيار الوحيد المتاح في هذه المرحلة.

صمت تكتيكي وتفاوض غير مباشر

اللافت أن هذا التقدم لم يُعلن رسميًا من أي طرف. لا تصريحات، لا مؤتمرات، لا صور أمام الكاميرات. كل ما يجري يُدار بلغة الصمت، وتحت سقف وساطات تتحرك بهدوء بين الأطراف، تنقل ردودًا وتُدوّن ملاحظات وتبحث عن مساحات التقاطع.

ربما لهذا السبب تبدو المحادثات الحالية مختلفة. فهي لا تعتمد فقط على ما يُقال، بل على ما لا يُقال أيضًا: الصمت عن التصعيد، التريّث في العمليات، وتصريحات سياسية أكثر مرونة مما كان عليه الحال قبل أسابيع.

الأثمان والرهانات

لكن لا أحد يتقدّم في هذه المسارات من دون حسابات دقيقة. الجانب الإسرائيلي يعي تمامًا أن أي هدنة مشروطة بتنازلات ستُقرأ داخليًا كإخفاق سياسي، في وقت تتزايد فيه الضغوط من الشارع ومن عائلات الأسرى ومن المؤسسة الأمنية.

وفي المقابل، لا يمكن للفصائل المسلحة أن تُبدي مرونة غير محسوبة، خاصة أن القرار الميداني موزّع بين أجنحة مختلفة، وبعضها يخوض المعركة على الأرض. ومع ذلك، برزت إشارات من داخل القطاع تفيد بأن المصلحة الإنسانية قد تكون دافعًا قويًا لتقديم “تنازلات مؤلمة”، بشرط الحفاظ على الحد الأدنى من المكتسبات السياسية.

من يحكم غزة؟

الجزء الأكثر تعقيدًا لا يتعلق بالخريطة العسكرية، بل بالخريطة السياسية. ما الذي سيحدث بعد الهدنة؟ من الجهة التي ستدير غزة؟ من يتولى الإشراف على إعادة الإعمار؟ وكيف ستُضمن ألا تتحول المساعدات إلى أدوات نفوذ؟

هذا السؤال لا تزال الإجابات عنه ضبابية. لا إسرائيل ولا الأطراف الغربية ترغب في أن تعود حركة حماس لتقود المرحلة المقبلة، لكن في الوقت ذاته لا يوجد بديل واضح يمكن فرضه دون تفجير التفاهمات الهشّة التي يجري بناؤها الآن.

ما بعد استراتيجية الحافة

في هذا السياق، تصبح الهدنة أقرب إلى توازن دقيق بين ما يمكن تمريره وما لا يمكن التراجع عنه. كل طرف يتقدّم خطوة ويجسّ النبض. وكل بند في الاتفاق المحتمل يجري تفكيكه إلى تفاصيل دقيقة: كيف تُفتح المعابر؟ من يراقب المساعدات؟ هل يُسمح للنازحين بالعودة؟ وهل تكون العودة إلى مناطق مدمّرة أم إلى مساكن مؤقتة؟.

ورغم هذه التعقيدات، تبقى المؤشرات العامة أقرب إلى التقدّم منها إلى التعطيل. المفاوضات لم تعد نظرية، ولا مجرّد تبادل أوراق، بل باتت تدخل عمق الواقع الميداني، وتحاول التمهيد لفترة جديدة عنوانها: وقف القتال.

ماذا بعد؟

المرحلة المقبلة ستكون اختبارًا حقيقيًا لنوايا الأطراف، وقدرتها على الخروج من منطق المواجهة إلى منطق التسوية. الخرائط وملف الأسرى لا يكفيان وحدهما، لكنهما يشكلان بداية محتملة لحل أكبر.

ربما لا يزال الطريق طويلًا نحو اتفاق نهائي، وربما تظهر عقبات في اللحظة الأخيرة، لكن ما يجري الآن في الغرف المغلقة يبدو أقرب ما يكون إلى فرصة حقيقية، ولو محدودة، لإنهاء إحدى أعقد جولات الصراع في غزة.

والسؤال المفتوح الآن: هل ستُترجم هذه المؤشرات إلى اتفاق، أم تُضاف إلى سجل الفرص الضائعة في تاريخ الصراع؟ الوقت كفيل بالإجابة.

شاركها.
Exit mobile version