في مدينة الحرب تُقرع طبول الحب، تولَد حكايات نابضة من بقعة الموت، ومن بين الركام وتحت الأنقاض تنبت بذرة الحياة.

بينما ينهمك الصحفيان محمد وهلا في الركض وراء الأحداث الدامية في غزة والتغطية الصحفية التي جمعتهما في الميدان عاما كاملا، كانت خفقة الحب الأولى في قلب هلا التي لم تتوقع يوما أن تجد الشخص الذي يشبهها في ظروف كل ما فيها يدعو إلى اليأس، لتعقد قرانها وسط الدمار كصرخة في وجه الظلم بأن الإبادة لم تتمكن من مسح الشعور ومحو الأمل كما تقول.

“لماذا علينا انتظار الظروف الأفضل التي لا يُعرف متى ستأتي؟” تجيب هلا على سؤال الجزيرة نت عن دافع الموافقة على الارتباط وسط الحرب، وتتابع “نحن نعيش في زمن يُعدّ فيه الحب مقاومة، فجاء قراري كنوع من القوة والتحدي”.

يبدو الارتباط في الحرب أشبه بمغامرة فريدة، لا رفاهية فيها لاختيار بيت واسع ولا لحفل كبير ولا لاستقرار دائم، تصف هلا شكل مرحلة الخطوبة بقولها “نحاول إيجاد وقت نتناقش فيه حول أحلامنا، نتحدث كثيرا على الهاتف لصعوبة التنقل، ونتقاسم وجبة بسيطة كأنها وليمة”. ورغم كل الصعوبات إلا أنها ترى أن وجوده بجانبها يخفف من وطأة الظروف القاسية، “حبنا هو البيت والأمان الذي لا نجده إلا حين نكون معًا”.

ليلة العمر

وفي حين جمع الميدان بين هلا ومحمد، فقد كان لمكان النزوح الفضل في لقاء هدى ومحمود، بعد تعارف العائلتين وقبول الارتباط.

تحدت هدى الظروف التي يمكن أن تحد من استمتاعها بليلة العمر، وتقول للجزيرة نت “ارتديت فستانا أبيض، ذهبت لصالون تجميل، قمت بدعوة الأقرباء واحتفلت”. كما أنها تحدت النزوح أيضا حيث قالت “رفضت تكديس جهازي في مكان واحد وزّعته بين بيت أهلي وبيت أختي والبيت الذي أعيش فيه”.

تنفي هدى ندمها على الإقدام على خطوة الزواج بالحرب، فقد أكرمها الله برجل تشاركه خوفها وتتكئ عليه حين تفتر أو تضعف كما تقول.

أما ساهر عياد، فقد عقد قرانه قبل بدء الحرب بـ5 أيام، وفي ذلك الحين كان قد جهز شقته وافتتح مشروعه الخاص وقد حوّلتهما إسرائيل ركاما.

قضى ساهر خطوبته نازحًا بين أحياء مدينة غزة، نائيًا عن خطيبته وقلقا عليها، خاصة مع انقطاع الاتصالات في أوقات كثيرة من الحرب، يقول ساهر للجزيرة نت “خلال فترة الخطوبة لم أخرج مع العروس سوى مرتين إلى البحر، فإسرائيل لم تبق مكانًا إلا دمرته”.

خطوبة ساهر لم ينل منها سوى اسمها، ليفكر في الزواج رغم التأجيل المتكرر، “مع كل خبر مسرّب عن وقف إطلاق النار كنا نبدأ بالتخطيط للفرح، الذي سرعان ما يتلاشى مع نفي الشائعات”، ويقول ساهر الذي قرر بعد خطوبة استمرت 9 شهور أن يتزوج.

بدأ ساهر بترتيب احتفال العرس بالحد الأدنى لكن اجتياحًا مباغتًا لشرق المدينة، بعثر كل ترتيباته، وفُرض طوقٌ على المنطقة حرَمه من أداء طقوس الفرح على بساطتها، فأُغلق صالون التجميل والمحال التي كان قد اتفق معها، ليبحث عن بدائل ممن حوله ويتمم الفرح “غصبا عن المحتل” كما يقول.

الشاب عبد اللطيف صاحب متجر للورود والزينة يعود لعمله في تجهيز حفلات الأفراح في مدينة غزة بما تبقى من معداته بسبب تدمير الاحتلال متجره الجزيرة

العروس النازحة

وأمام سطوة الحصار المفروض على شمال قطاع غزة، اضطرت العروس إيمان أن توافق على أقسى قرار يمكن أن يمرّ على قلب امرأة زُفت لحبها أخيرا قبل 40 يوما فقط، “علينا الافتراق، اخرجي من المخيم وأنا سأبقى” قال لها عريسها بعد محاولات منها لإقناعه برغبتها بالبقاء معه، لكن خوفه عليها وعلى والدته جعل رفضه قاطعا.

سلكت إيمان طريق النزوح تاركة وراءها جهاز عروس كاملا لم تملأ منه سوى حقيبة صغيرة لتستطيع دفع والدة زوجها المقعدة في طريق رملي، وبعد وصولها بيومين عرفت بحملها الذي لم تستطع أن تُبشّر به زوجها الذي فقدت به الاتصال في جباليا قبل أيام، منتظرة بُشرى أكبر مفادها أن عريسها ليس في عداد الشهداء أو الأسرى وأن الاجتماع به قاب قوسين أو أدنى كما تقول.

وبحسب إفادة هيئة الأحوال المدنية للجزيرة نت فإن أكثر من 2500 شخص عقدوا قرانهم في مدينة غزة وشمالها فقط خلال الشهور العشرة الأخيرة.

وفي المقابل، فإن هناك عشرات حالات الانفصال التي يعد التقسيم المكاني للمدينة هو سببها الرئيس، حيث قابلت الجزيرة نت الشاب خميس الموجود في شمال الوادي الذي قرر الانفصال عن خطيبته النازحة إلى جنوبه، يقول “صار عليّ ضغط من العائلة للتوجه جنوبا لإتمام الفرح، لكني رفضت، فشقتي ومشاريعي ومستقبلي كله في مدينتي التي لا أقبل الابتعاد عنها”.

يرى خميس أن قرار انفصاله “عقلاني”، فهو يرفض مبدأ الزواج بالحرب والحرمان من تفاصيل فرحة العمر في ظل اجتماع الأهل والعيش في رُعب أن يفقد أحدهما الآخر خاصة أن الموت يحيطهم من كل جانب كما يقول.

أعراس ملغاة

في شوارع المدينة البائسة وعلى الرصيف حيث لا مكان لعرض الفساتين البيضاء إلا عليه، بعدما جرّف الاحتلال مدخل المحل المخصص لتأجير بِدل الزفاف، عُلّق اسم بلافتة على واجهة المحل المدمر مكتوبٌ عليها “الجمال”.

من الداخل، وعلى المساحة الضيقة السليمة من المحل الوحيد المتبقي من سلسلة معارض ومخازن دمرها الاحتلال بالجملة بخسائر لأصاحبها تقدر بمئات آلاف الدولارات، خلال عرض التاجر الفساتين للزبائن، تلقّى اتصالا مفاده “نريد إلغاء حجز الفستان لأن العريس استشهد”. هذه ليست المرة الأولى التي يتلقى فيها عبد المجيد اتصالات من هذا النوع، فلا يمر أسبوع من دون إلغاء حجوزات بدافع “الموت”.

“جبرا لخواطر العرائس” يقول عبد المجيد للجزيرة نت إن هذا هو سبب إعادة فتح المحل أبوابه قبل 4 شهور، حين بدأ الناس التعايش مع الواقع المفروض عليهم.

يتحدث عبد المجيد عن تحديات جمة تواجههم حيث ارتفاع سعر الوقود اللازم لتشغيل المولد لغسل وكي الفساتين والإضاءة، فضلًا عن اضطرارهم للبيع بدون أرباح تُذكر، “فواجبنا الوقوف مع أبناء شعبنا في أحلك الظروف وأن نعينه على صناعة الحياة والانبعاث من جديد كما يقول.

كوافير الحرب

أمّا ريم، فقد فتحت أبواب صالون التجميل الخاص بها قبل 4 أشهر، نزولًا عند رغبة العرائس اللواتي يزداد إقبالهن يوما بعد يوم. تقول ريم للجزيرة نت “من اللافت اليوم أن العرائس اللواتي أتعامل معهن بسن صغيرة ووجودهن في مراكز الإيواء يعد دافعا للأهالي للموافقة على تزويجهن”.

تعد “الطاقة الشمسية” المعيار الذي تُحدد من خلاله ريم ساعات عملها خلال النهار، فتكتفي بعدد معين من الزبائن تبعًا لنظام الكهرباء، كما أنها خفضت أسعار ما تتقاضاه إزاء مكياج وتسريحات العرائس بدافع الرحمة وللتيسير على الناس الذين يبحثون عن فتات فرح كما تقول.

على عربة يجرها حيوان، يُحمّل عبد اللطيف معدات الزينة والورد والسمّاعات وكراسي العرسان وينقلهم حيث مكان الفرح المقرر، الذي يكون إمّا مركزا للإيواء أو مخزنا صغيرا.

كان لدى عبد اللطيف متجر لبيع الورود وسط المدينة لكن الاحتلال دمّره لينتشل ما سلم منه ويعيد ترميمه ويبدأ العمل بما تبقى لديه، محاولة منه لتوفير قوت يومه بعد انقطاع دام شهورا، ومنذ اليوم الأول لإعلانه العودة لعمله “لم يمر يوم واحد من دون حجوزات، فالإقبال جيد والسعر في متناول الجميع” كما يقول.

 

شاركها.
Exit mobile version