“الفصل الأربعون: في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية: فإنّ الرّعايا متكافئون في اليسار.. ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم.. وإذا رافقهم السّلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء”.

ابن خلدون في مقدمة تاريخه

المبعوث الأمريكي: أثق في الرئيس السوري أحمد الشرع وقدرته على القيادة

“كنت سياسيًّا رديئًا، لم أمتلك صبرًا على السياسة” يقول برّاك مقيّمًا تجربته القصيرة في العمل السياسي مع إدارة ريغان، ويشرح سبب امتعاضه منها “السياسة هي عملية توفيقيّة، من شأنها البحث عن القاسم المشترك الأدنى. أجد أن هذا هو الجزء الأكثر إحباطًا. العملية السياسية هي عملية الانخراط في صناعة الرداءة!”. كانت الممارسة السياسية في شكلها التقليديّ ضد غريزته التجاريّة. ولكن التقاليد السياسيّة الأميركية ستتغير تمامًا بوصول أحد أثرياء العالم إلى منصب الرئاسة في 2016.

كنتُ قد ذكرتُ لكَ أن برّاك قد وضع قدمه في نادي الأثرياء مطلع التسعينيات مستفيدًا من الركود الاقتصادي ومغامرًا بشراء الأصول المتعثّرة. ما لم أخبرك به، أن ترامب كان في طريقه للخروج من ذلك النادي، لولا أن امتدّت إليه يد الداخل الجديد.

ففي أواخر الثمانينيات ومع فوضى التسهيلات والقروض، توسّع ترامب بشكل مفرط في الاستثمارات العقارية، وراح يستدين من البنوك ويعلّق اسمه على الأبراج والفنادق والملاهي الليلية، ليفيق على ركود اقتصادي ومجموع ديون تجاوزت 3.4 مليارات.

تعثّر ترامب في السداد، وكان فندق بلازا في نيويورك الذي اشتراه في 1988 بسعر هائل (410 ملايين) عنوانًا لأزمته في تغطية الفوائد السنوية. كان الفندق مملوكًا لعائلة روبرت باس الذي يعمل لديهم برّاك، وقد تولّى الأخير بيع الفندق لترامب. لم تكن هناك جدوى اقتصاديّة صارخة لمثل هذه الصفقة، ولكن برّاك بمواهب مندوب مبيعات لبنانيّ استطاع أن يعزف على عواطف ترامب المشغوفة بالوجاهة والمكانة، ويبيعه الفندق العتيق.

تكالب الدائنون على ترامب، وأحاط به شبح الإفلاس بعد أن عقدت البنوك على عنقه حبلًا من ديون شخصية بلغت 900 مليون دولار. أخذ الملياردير يتخفف من ممتلكاته ليسكت البنوك الجائعة، فباع الملاهي، وطائرته الخاصة، ويخته الضخم. كان لبرّاك دور محوريّ في انتشاله من تلك الورطة، فقد سهل له بعلاقاته الخليجية، تأمين قروض بمئة مليون دولار. ومن دائرة علاقاته سيخرج الفارس العربي الذي ينقذ صديقه المأزوم. في 1991 اشترى الوليد بن طلال يخت ترامب بنحو 20 مليون. ثم عاد بعدها بسنوات ليفكّ الرهن العقاري عن فندق بلازا ويحرر ترامب بصفقة تجاوزت 300 مليون دولار.

نجا ترامب من الإفلاس، حين قررت البنوك إعادة جدولة ديونه حتى لا تخسر كل شيء، واستطاع أن يعود ليقف على قدميه أو قل على ملياراته. وبعد إدمان على الظهور الإعلامي على امتداد عقدين، قرر في 2015 أن يجرّب الترشّح للرئاسة. فوقف صديقه القديم بجانبه مؤيدًا له. في الوقت الذي نظر فيه السياسيون التقليديون إلى ترشّح ترامب كنكتة موسميّة، كان برّاك يؤمن بأن ترامب قادر على تغيير اللعبة السياسيّة بالجملة.

استخدم برّاك شبكة علاقاته مع رجال أعمال ومستثمرين في العقارات والطاقة وأسس صندوق دعم خارجي (Super PAC) باسم “Rebuilding America Now”، جمع عشرات الملايين من الدولارات لصالح حملة ترامب.

أنفق الصندوق أكثر من 20 مليون دولار على الإعلانات لدعم ترامب وتقويض صورة هيلاري كلينتون.

في 2016، أصبح برّاك المسؤول الأول عن جمع التبرعات لحملة دونالد ترامب، جامعًا أكثر من 100 مليون دولار لحفل التنصيب وهو مبلغ يفوق ضعفي ما جمعه التنصيب الأول لأوباما. في الحفل سيقف برّاك الذي تحوّل من مستثمر في الكوارث المالية إلى مستثمر في أعقد الملفات في الإدارة الأميركية؛ الشرق الأوسط، بجانب الرجل الذي من المفترض أن يرسم مشهد المنطقة لأربع سنوات قادمة. كان برّاك قد حفظ درسًا تعلّمه من والده البقّال: أحيانًا، أفضل الصفقات تأتي من أسوأ البضائع.

شرع برّاك في نسج خيوط المال والسياسة منذ بداية الحملة الانتخابية. في رسالة إلكترونية في مايو/أيار 2016 إلى يوسف العتيبة، السفير الإماراتي في واشنطن، قدّم برّاك جاريد كوشنر صهر ترامب ومبعوثه للشرق الأوسط. كانت الرسالة مختصرة “ستحبه، وهو يتفق معنا على أجندتنا” ليلتقي الرجلان في وقت لاحق من الشهر نفسه.

في 26 مايو/أيار 2016، كان من المقرر أن يلقي المرشح دونالد ترامب خطابًا رئيسيًّا حول الطاقة. تُظهر وثائق وزارة العدل الأميركية أن برّاك أرسل المسودة إلى وسيط، وقام الأخير بتوزيعها بين مسؤولين خليجيين ثم عاد بالاقتراحات إلى السيد برّاك.

في عام 2016، حصل توم برّاك ومساعده ماثيو غرايمز على ما وصفته وثائق المحكمة بـ”هاتف محمول مخصص”، لم يكن آيفونًا عاديًّا من متجر آبل، بل جهازًا مزوّدًا بتطبيق مراسلة آمن، مخصص حصريًّا للتواصل مع “الأصدقاء” في الخليج.

لاحقًا في ذلك العام كتب توم برّاك مسوّدة مقال رأي لمجلة محلية. صاغ فيه رؤية متشائمة عن الربيع العربي: انتفاضات اعتبرها برّاك سببًا للفوضى والانهيار بدلًا من أن تكون بوابة للإصلاح والتحرر. لا يكره المستثمر شيئًا كرهه للفوضى، حيث لا سوق رائجة في بلد غير مستقر. في المقال أشاد بالملكيات العربية، معتبرًا أنها تمثّل نموذجًا للاستقرار. ولكنه وصفها بأنها دكتاتوريات، رجع إليه الوسيط بتوصية لحذف الوصف، فاستجاب له. حسب وثائق الوزارة.

تشير الوثائق أيضا إلى أنه في ديسمبر/كانون الأول 2016، حضر برّاك اجتماعًا مع غرايمز ومسؤولين حكوميين من الشرق الأوسط، نصحهم خلاله بإعداد “قائمة أمنيات” تتضمن بنود السياسة الخارجية الأميركية التي ترغب حكومتهم في إنجازها خلال أول 100 يوم، وستة أشهر، وسنة، وأربع سنوات من الإدارة القادمة للرئيس الأميركي المنتخب، قدم برّاك نفسه في ذلك الاجتماع كمارد للمصباح الذي يحقق الأمنيات!.

وفي لفتة كالمباخيّة سعى برّاك سعى في مارس/آذار 2017 لترشيح شخص مفضل لدى الدولة الأجنبية التي تعتزم الإدارة الجديدة إرسال سفير جديد إليها.وفقًا لما تذكره وثائق وزارة العدل.

في ديسمبر/كانون الأول 2016 وصل إلى الرياض وفد من شركة “IP3” التي لم يمض على تأسيسها سوى بضعة أشهر، قدّمت الشركة نفسها على أنها متخصصة في تكنولوجيا الطاقة النووية للسلام العالمي حاملة مقترحًا: لاستثمار سعودي بقيمة 120 مليون دولار مقابل حصة 10% من الشركة.

الوثائق تُظهر أن العرض لم يكن مجرد صفقة تجارية، بل لنقل التكنولوجيا النووية الأميركية إلى السعودية. ولتعزيز الثقة، لجأ مسؤولو “IP3” إلى إبراز قربهم من الجنرال مايكل فلين، مستشار الأمن القومي المرتقب آنذاك.
وبعد أيام فقط من زيارة السعوديين لواشنطن في مارس/آذار 2017، أعلن مسؤولو “IP3” أن الاجتماع “وضع الإطار لفرصتنا الفريدة” مع السعودية.

صار المشروع يُقدَّم بعبارات أوضح: شراكة للاستحواذ على شركة وستنجهاوس الأميركية للطاقة النووية، بتمويل سعودي عبر صندوق الاستثمارات العامة (PIF)، وبترتيبات يجري التفاهم عليها مع البيت الأبيض. كانت شركة وستنجهاوس التي ساهمت في بناء المشاريع النووية الأميركية، تمر بأزمة مالية وتستعد لإعلان إفلاسها.

مشروع متعثر وإعلان إفلاس! “أشتمُّ رائحة برّاك” ستقول عزيزي القارئ. وسأقول لكَ أحسنتَ. برّاك، عبر شركته “Colony Capital”، لم يكن بعيدًا عن مشروع الاستحواذ. فبالتوازي مع تحركات “IP3″، ناقش مع شركائه إمكان الانضمام إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودي، لتقديم عرض مشترك لشراء وستنجهاوس.

حسب وثائق التحقيقات، فإن صناديق خليجية استثمرت 374 مليون دولار في “Colony Capital”، بين 2017 و2018، وقد وصف الادعاء ذلك بأنه مكافأة لجهود برّاك لصالحها.

في 2021، وُجهت إليه تسع تهم فدرالية تشمل التآمر للعمل كعميل أجنبي، وعرقلة العدالة، والكذب على الـ”FBI”. المحاكمة استمرت ستة أسابيع. على منصة الشهود اعترف برّاك بصلته بمسؤولين عرب، ثم استدرك قائلًا “لكنني لم أعمل تحت إشرافهم أو سيطرتهم”.

في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2022 برّأت المحكمة برّاك من جميع التهم. برّاك عانق محاميه وخرج ليقول للصحافة: “أشعر بالتواضع، ولا أحمل حقدًا لأحد. أنا فخور لكوني أميركي فحسب”، وغرّد صديقه ترامب: “نبأ سار لبلدنا وحريتنا وديمقراطيتنا”.

ساسة وتجار عقار

في رئاسة ترامب، أصبح الحد الفاصل بين صناعة السياسة وجمع المال صعب التقدير، حيث أصبح الرئيس نفسه يستفيد من مكانته وظهوره بصفته الرسمية، ليصبح أغنى رئيس أميركي في التاريخ.

الرئيس البالغ من العمر 78 عامًا ظهر لأول مرة ضمن تقرير لقائمة 2025 “Hurun Global Rich List ” التي تستعرض 500 ثري حول العالم، بعد أن تضاعفت ثروته ثلاث مرات بفضل حصته البالغة 53% في منصة “Truth Social”، مما رفع ثروته إلى 7.2 مليارات دولار.

وأضاف التقرير أن ثروة ترامب تقريبًا تضاعفت للنفوذ الذي يملكه مدعوما بقاعدته الجماهيرية ونفوذ منصته الرقمي.

لكن لا شيء يبيّن تغيّر تقاليد الإدارة الأميركية في ممارسة السياسة مثل تعيينات العقاريين الأميركيين مبعوثين للشرق الأوسط، ابتداء من جاريد كوشنر ومرورًا بويتكوف وانتهاء ببرّاك.

تُفكِّر إدارة ترامب في الشرق الأوسط كمساحةٍ بحاجة إلى مدير مشروع أكثر من حاجتها إلى مبعوث سياسي بالمعنى التقليدي.

جاء جاريد كوشنر، بصفقة القرن، التي كانت في جوهرها، فلسفة تطوير عقاري مُسقطة على نزاعٍ وطني استعماري. شعار العقاريين “اشترِ الآن وقسِّط لاحقًا” تُرجم إلى “تنازل عن وطنك، وتمتّع بخدمات التطوير العقاري”.

وبينما كان الموقف العربي يتحدث عن غزة والضفة باعتبارهما موضوعيْن لتسوية سياسية تُعيد تعريف السيادة والحقوق، جاء كوشنر ليصوّرهما كقطعتي أرض لمشاريع مربحة. كان التجلي لهذه الصورة في حوار بجامعة هارفارد عام 2024، فبينما كانت إسرائيل تمارس عملية إبادة في غزة، كان كوشنر يتحدث عنها كخبير عقاري ويصفها بأنها “واجهة بحرية” لا تفوّت! عبارة تحوّلت لاحقًا إلى صدى سياسي حين راجت عبارة “غزة ريفييرا” حسب تعبير ترامب في 2025. لم تكن زلة لسان من الرئيس الأميركي؛ إنها طريقة تفكير تعشش في عقول تجار العقار العابرين للحدود: الأرض أصل قابل للتطوير، بغض النظر عن المآسي الإنسانية الحاصلة عليها.

 توم برّاك.. تاجر الأوهام في سوق دمشق

تتردد أحيانًا في شراء سلعة ما، فيأتيك البائع الحاذق بطريقة يصعب عليك الخلاص منها وهو ما أسميه “محاكاة الزبون” حين يتقمّص البائع موقفك، ويبيعك  سلعته. تمامًا مثل ما حصل معي أنا وصاحبي.

في الشتاء الماضي دخلت مع صديق إلى محل في سوق الحميدية، بحثًا عن معطف يقي صاحبي برد الشام. كانت البضاعة رديئة، بلد خرج لتوه من حرب دامت 14 عامًا ونظام منغلق وعقوبات اقتصادية. أشرت إليه أن تعال نخرج، فلم أرَ شيئًا مناسبا. لكن البائع الشامي كان قد وضع يده على كتف صديقي، فعرفتُ أننا سنخرج بواحد من تلك المعاطف المغبرّة.

جلستُ أراقب براعة التاجر الشامي، باهتمام. حصر له خياراته أولًا حتى لا تشغله الرداءة المنتشرة، وتصرفه. ثم سأله عن بلده وربط بينهما رابطة عاطفية بأنه زار بلده قديمًا وأحبه، بعدها أخرج كيسين يثور منهما الغبار وقال هذان المعطفان من أفضل ما في السوق، ولا نعرضهما للزبائن لأنهما فوق قدرتهم الشرائية. هنا شعر صديقي بالامتياز. ثم أخذ يتنقل بينهما في اللبس دون أن يحسم أيهما أقلهما رداءة. حينها وجه له الرجل السبعيني الخبيث اللكمة القاضية.

“أنا لو كنت مكانك باخذ الزيتي، لأنه بيلبق أكثر على لون بشرتك، البيج بيعذبك بالغسيل، وأنت بدك إشي عملي. لو أنا مكانك باخذ الزيتي، وبعدين أنا مثلك نحيف والبرد بيؤذيني فالزيتي أكثر دفئًا وبيتحمل الوسخ”. دسّ صديقي المسكين يده في جيبه ونقده 60 دولارًا، وهو ما يفوق راتب أستاذ جامعيّ في سوريا في ذلك الوقت. وخرج يشعر بالدفء، وبالامتنان لذلك البائع الذي أقنعه بأنه حلّ مشكلته ونصح له.

يبرع توم برّاك كنموذج فريد للدبلوماسي التاجر، الذي يتقن فن “محاكاة الزبون”، إنه ذات الأسلوب الذي يستخدمه البائع الماهر: “لو كنت مكانك لاشتريت هذا القماش، فهو يناسب ذوقك، ويليق بمقامك، ويخدم أغراضك المتعددة”. هكذا ينجح التاجر في تمرير بضاعته، بأن يتقمص شخصية المشتري، يتحدث بلسانه، يفكر بعقله، حتى يقنعه بأن ما يعرضه عليه ليس سلعة للبيع، بل حاجة ملحّة لا غنى عنها. يخاطب الغرب قائلًا: “أنا رجل من العرب، أتكلم بمنطقهم، أفهم نبض شوارعهم”. يستحضر أصوله اللبنانية، يكرر أنه “ابن زحلة”، ينتمي للمنطقة “فكرًا ولغة وروحًا”.

يتحدث برّاك بلغة لا تخطر على بال دبلوماسي غربي تقليدي؛ يستعرض معرفته باتفاقية سايكس-بيكو، يحلل إرث الإمبراطورية العثمانية، يتحدث عن “الشام الكبير” و”بلاد ما بين النهرين”، يستخدم مصطلحات عربية أصيلة. كل هذا المسرح اللغوي له هدف واحد: تسويق مشاريع التطبيع كأنها نابعة من رحم المنطقة، لا مفروضة عليها من واشنطن. يذمُّ الاستعمار الذي رسم حدودًا بقلم رصاص، وقسّم شعوبًا، ومزّقت أممًا، فيسمعه العربيّ ويقول لنفسه: هذا رجلٌ منّا!.

يحاول أن يحصر برّاك بغريزته التجاريّة الخيارات  أمام حكومة ثورية وصلت إلى حكم البلاد بقوتها العسكرية، موهمًا لها أن طريقها الوحيد للاستقرار في أن يكون سلاحها صديقًا لإسرائيل التي شنت مئات الغارات على التراب السوري منذ وصول الإدارة الجديدة إلى دمشق. كما يصوّر للبنانيين أن مستقبلًا مشرقًا مكتنزًا بالاستثمارات والإعمار والسيّاح، بعد أن يلقي حزب الله سلاحه.

برّاك المنشغل بموضوع حصر السلاح في سوريا، ونزعه في لبنان تحت عناوين الاستقرار والاستثمار، هو شريك لتجار سلاح متورطين في تزويد جيش الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة في حرب إبادة مستمرة على غزة منذ عامين. فشركة بلاك روك من أكبر المساهمين في شركة توم برّاك (ديجتال بريدج)، لها استثمارات هائلة في لوكهيد مارتن (Lockheed Martin) ونورتروب غرومان (Northrop Grumman) أكبر موردي السلاح والتقنية القاتلة لحكومة الاحتلال الإسرائيلي. وقد كان رئيسها لاري فينك المنحدر من أصول يهودية، خرج في تصريح إعلامي أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة يجدد الولاء لإسرائيل.

عندما تشعرُ بالغربة واضطراب في الهويّة وأنت عربيّ تعيش في الغرب، تشتري علمَ بلادك، وتعلقه على شرفةِ بيتك أو تجبر أولادك على التحدث بالعربيّة داخل المنزل، هذه حلول لمحدودي الدخل.

مليونير مثل برّاك الذي عاد قبل سنوات ليستعيد جنسيته اللبنانية، اشترى مزرعة بمساحة 1,300 فدان شمال سانتا باربرا، وبدأ يمارس هواية فينيقية عريقة، وهي صناعة النبيذ الذي نبغت فيه مدينة آبائه زحلة. لا أعرف مذاق النبيذ ولا جيده من رديئه لكني أعرف أن شعراء الجاهلية مع معاقرتهم له صباح مساء، بقيت نبائذ الشام عالقةً في قصائدهم، يشهد بذلك عمرو بن كلثوم على كأسِ شربها في بعلبك، والأعشى والنابغة وحسان.

في تلك المزرعة الضخمة يمارس برّاك لعبة البولو التي كان ينفر منها ويظنها رياضة ناعمة، حيث يطارد فرسان كرة خشبية بعصيّهم من فوق خيولهم. فهو متعوّد على خطورة لعبة الكرة الأميركية التي احترفها أيام دراسته الجامعيّة. حين جرّب البولو عرف أنها ليست بالسهولة التي تصورها، فوقع في غرامها لتعقيدها ومستوى الخطورة فيها، فقد تؤدي الإصابة فيها إلى إعاقة أو وفاة. “اللعبة نفسها أصبحت مكانًا لأمارس فيه المخاطرة… إذا لم تكن مستعدًّا أو أخذك الغرور، فقد تقتلك هذه اللعبة، وإذا لم تخاطر بالقدر الكافي، فسوف تُحرج، لأنك ستخسر”.

يقارب برّاك الملف السوري بعقلية لاعب البولو، حيث يعرف جيدًا أن التردد في الانفتاح على الإدارة الجديدة بسبب خلفيتها قد يفوّت عليه فرصة استثمارية لن تتكرر. تسعى الرؤية الأميركية لإدارة ترامب لإعادة تنظيم الشرق الأوسط، مزاوجةً بين اتفاقيات التطبيع الأبراهامي والشراكات الاقتصادية. ويمثّل السيد برّاك المستثمر بصفة دبلوماسية الشق التجاري من “الاتفاقيات الأبراهامية” ، حيث تبرز شركته الجسر الرقمي Digital Bridge إحدى الشركات العملاقة في السوق الأميركي كذراع مالي لتثبيت هذه المعادلة.

بعد تصدّر القطاع الرقمي قائمة المجالات الاستثمارية في العالم، متقدمًا على الطاقة والعقار، غيّر برّاك اهتماماته التجارية. مركزًا على شركة الجسر الرقمي التي استحوذ عليها وصيرها صندوقًا استثماريا متخصصا في إدارة الأصول والاستثمار في البنية التحتية الرقمية،  الجسر الرقمي ليس شركة تقنية بالمعنى التقليدي، بل صندوق استثماري يركز على الأصول المادية التي تدعم الاقتصاد الرقمي، مثل أبراج الاتصالات التي تعتبر العمود الفقري لشبكات الهاتف المحمول. ومراكز البيانات التي  تخزن وتعالج كميات هائلة من المعلومات. وشبكات الألياف الضوئية، التي تضمن سرعة الإنترنت والاتصال.

مع استثمار صناديق خليجية  بسخاء في الجسر الرقمي تحولت طبيعة علاقات الشركة في المنطقة العربية من مجرد جمع لرأس المال إلى شراكات استراتيجية تركز على بناء وتطوير البنية التحتية المحلية، مما يتماشى مع خطط التنمية الرقمية الطموحة في المنطقة. تبلغ أصول الشركة تحت الإدارة حالياً أكثر من 100 مليار دولار أمريكي، وذلك وفقًا لبيانات الربع الثاني من عام 2025. ولكن المال العربي لا يمكن أن يصنع التقنية بدون خبرة فنيّة،  وهنا تبرز إسرائيل كثاني أهمّ مصدر للتقنية عالميًّا، ما يجعل تأمينها واستقرار محيطها ضرورةً تجارية قبل أن يكون خيارًا سياسيًا

يفيدنا الرجوع إلى جيسون جرينبلات وهو محامٍ أميركي من أصول يهودية عمل في إدارة الرئيس دونالد ترامب الأولى وهندس الاتفاقيات الأبراهامية للتطبيع العربي الإسرائيلي في فهم الإطار الذي يتحرك فيه المبعوث الجديد لسوريا.

في مقالة كتبها جريبنلات المقرّب من نتنياهو والصهيوني المؤمن بـ”إسرائيل الكبرى” احتفاء بتعيين برّاك مبعوثًا لسوريا، رسم فيها المفاوض السابق لإدارة ترامب في الشرق الأوسط ملامح المشروع السوري. سيشرف برّاك بمواهبه التجارية على برنامج لتخفيف العقوبات مشروط بالأداء، نظام محكم يجمع بين العصا والجزرة.

سيروّض المبعوث الخاص الإدارة الجديدة لحراسة حدود إسرائيل والتعاون الأمني معها تجهيزًا لإدخالها تحت مظلة التطبيع العربي، إذا فشل الرئيس السوري أحمد الشرع في تلبية التوقعات، تعود العقوبات كما كانت. وإذا تجاوز التوقعات، تُفتح له أبواب جديدة من الفرص.

بعد أسابيع فقط من رفع ترامب العقوبات عن سوريا، وقّعت دمشق أول اتفاقية إعادة إعمار كبرى: مشروع غاز وطاقة شمسية بقيمة 7 مليارات دولار. حضر برّاك التوقيع شخصيًّا، ومعه ضباط عسكريون أميركيون يعملون مع القوات الكردية. المشروع يشمل أربع محطات غاز ومزرعة شمسية لتوليد 5000 ميغاواط، تنفذه شركات قطرية وتركية وأميركية، ويعد بخلق 50 ألف فرصة عمل واستعادة نصف طاقة توليد الكهرباء قبل الحرب. لم يكن برّاك برفعه للعلم الأميركي على سفارة الولايات المتحدة في سوريا يرفع قطعة قماش على مبنى قديم في دمشق، بل يرفع عنوانًا للراغبين في التفاهم على صفقة إقليمية بخصوص سوريا.

تبدو لعبة برّاك في سوريا مثل لعبة البولو حقًّا، فقد أسرج السوريون خيولهم مطاردة لكرة الاستقرار التي ألقاها برّاك وصار يتقاذفها الجميع، وأي خطأ قد لا يودي بالاستقرار فحسب، بل باللاعبين أنفسهم. المشكلة في لعبة البولو أن الخطر الحقيقي لا يُرى إلا عند السقوط، فالعيون ستظل معلقة على كرة الاستقرار حتى تحين لحظة الضربة والاقتناص، وحينها سيكون على اللاعبين الإجابة بسرعة قد لا يسمح بها الوقت عن سؤالين اثنين: استقرار لمن؟ وبأي ثمن؟

نعم، قد ينجح البائع الدمشقي البارع في إقناع الزبون بأن “الزيتي يلائمه أكثر”، وقد يخرج الزبون دافئًا وراضيًا. لكن التاجر الغريب لا يدرك أن مقاربته قد لا تصلح هنا، فالأوطان ليست معاطف، والمدن العتيقة ليست شركات كاسدة تُشترى لتُعاد هندستها عبر خريطة جديدة وحلفاء جدد، ولعل هذا ما يغيب عن برّاك.

فحين يغلق السوق أبوابه مع نهاية كل يوم، يبقى سكان المدينة وحدهم ليحسبوا خسائرهم ومكاسبهم، وليعيدوا التفكير فيما دفعوه ليحصلوا على صفقة تجعل الغد أقل قسوة. وهذا الثمن الذي دُفع ويُدفع وسيُدفع -لا ابتسامة برّاك ومعسول كلامه- هو الذي سيتوقف عليه نجاح صفقته في دمشق.

شاركها.
Exit mobile version