في صباح الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وعقب يوم واحد من هجوم المقاومة الفلسطينية على مواقع الجيش الإسرائيلي والمستوطنات المتاخمة لقطاع غزة، أصدرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر، برئاسة البابا تواضروس الثاني، بيانًا أعربت فيه عن رفضها واستنكارها “للأحداث الجارية حاليًّا بين الطرفين” التي أدت وتؤدي “إلى إزهاق مئات الأرواح وإصابة الآلاف من بينهم كثير من المدنيين الأبرياء”. ولم تنس الكنيسة أن تخصص فقرة من فقرات البيان الثلاث للإشادة بجهود الدولة المصرية “للتهدئة بين طرفي النزاع”.

لم تكن لهجة البيان جديدة على مواقف الكنيسة تحت قيادة البابا تواضروس، فقبل ثلاث سنوات، كانت المواجهات تشتعل في القدس على خلفية إجبار الحكومة الإسرائيلية لعائلات فلسطينية على إخلاء منازلها في حي الشيخ جراح، وهي المواجهات التي اتسعت بدخول حركة حماس في المواجهة وقصفها للأراضي المحتلة. حينها تأخرت الكنيسة القبطية، ثم أصدرت بيانًا فضفاضًا يستنكر في نصفه “الأحداث التي تجري” في القدس وغزة، ويشيد في نصفه الآخر “بالدور المحوري الذي تقوم به الدولة المصرية”. ومع ذلك، ورغم تصريحات لاحقة من البابا والكنيسة تؤيد الحق الفلسطيني وتدين الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، كان هذا البيان، مثل سابقه، أضعف كثيرًا من الموقف الذي حافظت عليه الكنيسة القبطية منذ عام 1948 وإعلان قيام دولة يهودية في فلسطين.

فقد استقرّت الكنيسة القبطية على العداء لإسرائيل، حتى قبل مشاركة البابا شنودة الثالث، عندما كان عمره 25 عامًا، مع الجيش المصري في حرب فلسطين، ومرورًا بمواقفها القوية سواء ضد الاحتلال أو ضد التواطؤ الغربي معه كنسيًّا كان أو علمانيًّا، وهي المواقف التي كانت تنبع من فهم لاهوتي راسخ، لا من حسابات سياسية متغيرة. بل إن المفكر القبطي غالي شكري في كتابه “الأقباط في وطن متغير”، كان قد عدّ تسعة مؤلفات لقيادات كنسية ومجتمعية قبطية تفند مزاعم إسرائيل والأصول اللاهوتية التي تتأسس عليها نُشرت بداية من عام 1966.

وبينما تأسست إسرائيل بدعم هائل مما يُعرف بـ”المسيحية الصهيونية”، أدانت الكنيسة المصرية هذا التوجه والكنائس التي دعمته خارجيًّا، وبحسب المفكر عبدالوهاب المسيري، فقد قاوم الأقباط المصريون في الداخل حملات الاستعمار الرامية حينها إلى فصلهم عن مجتمعاتهم العربية والإسلامية، ومنها الحملات التبشيرية المسيحية التي حاولت إلحاقهم بالمسيحية الأوروبية خاصة البروتستانتية، ومنها كذلك الدعوات المستمرة والمتصاعدة حتى الآن التي تصمم على فصل مصر عن محيطها العربي والإسلامي، بحجج طائفية أو قومية أو تاريخية.

لكن صوت تيار العزلة عن القضايا العربية والإقليمية داخل الكنيسة، قد علا؛ بحسب ما يرى المراقبون، فإذا كان موقف الكنيسة قد ظل قويًّا أمام الهجمات التبشيرية الغربية، أو أي مساس باللاهوت الكنسي من أفكار وافدة غير أرثوذكسية، لاستشعار الكنيسة وشعبها الخطر على الذات؛ فقد غاب لاهوت المجابهة مع المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، وهو اللاهوت الذي ازدهر طوال عقود.

إذ  يقدّر كثير من العرب والمصريين الكنيسة القبطية كونها لم تسمح للمسيحية الصهيونية بموطئ قدم في بلادنا. وإذا كان بعض المسيحيين العرب، ومنهم بعض أقباط المهجر، قد تماهوا مع خطابات المسيحية الصهيونية؛ فإن الكنيسة حافظت -مع الكثير من التراخي في بعض الأحيان- على موقف متسق عمومًا مع الذي عبر عنه البابا شنودة الثالث يومًا بالقول: “لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين”.

تاريخ بين اللاهوت والسياسة

 

بدأ الوعي القبطي بخطورة تيار الصهيونية المسيحية مبكرًا. فقد قاد بابا الإسكندرية كيرلس السادس الذي تولّى أمر الكنيسة من 1959 إلى 1971؛ هذه التوجهات مع جيل الأساقفة الذي تعرّفه الكنيسة باسم جيل مدارس الأحد، والذي كان من أبرز أقطابه الأنبا شنودة (البابا شنودة الثالث)، والقمص الراهب متّى المسكين، والأنبا غريغوريوس، وكلها أسماء ساطعة في سماء الكنيسة القبطية في العصر الحديث.

كانت الكنيسة القبطية المصرية من الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات قد أسست وقادت تيارًا لاهوتيًّا عربيًّا يتصدى للمسيحية الصهيونية في اجتماعات مجلس الكنائس العالمي، متهمة المجلس بالعمل لصالح التوجهات الإسرائيلية والصهيونية، وفقًا لما ذكره الأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمي القبطي، في مذكراته حيث كان يمثل الكنيسة القبطية في هذه الاجتماعات.

ويمكن النظر إلى المسيحية الصهيونية باعتبارها حركة سياسية تربط الإرث الاستعماري القديم برؤى مسيحية تنتشر بين الجماعات الأميركية البروتستانتية، التي تعتبر بناء الهيكل اليهودي في القدس ضرورة لاهوتية للمجيء الثاني للمسيح، وهي تناقض في ذلك القراءات المسيحية السائدة للعهد المقدس. ويضع الدكتور القس منذر إسحاق، اللاهوتي والأكاديمي الفلسطيني، تعريفًا للصهيونية المسيحية فيقول: “المسيحية الصهيونية هي أكثر من مجرد معتقدات لاهوتية حول إسرائيل واليهود، إنها لاهوت إمبراطوري”.

والواقع يؤيد ذلك إلى حد بعيد، فالمسيحية الصهيونية في جوهرها تربط بين التبشير والاستعمار، وفي هذا تكمن خطورة التأويلات الإنجيلية اليمينية التي تتصاعد مع احتدام الصراع العربي الإسرائيلي. وقد كان إدراك الكنيسة القبطية مبكرًا لأهمية المشاركة في المعركة، فهي من جهة تحصن ذاتها من الاختراق، ومن جهة أخرى تجعلها تشارك في النضال القومي والوطني ضد الاستعمار. وفي إطار التفاوت بين طوْرَي الكنيسة، تجدر الإشارة إلى أن تراجع دور الكنيسة القبطية الحالي عن مواجهة الاستعمار والهيمنة الغربية، والاكتفاء بمقاومة المذاهب المسيحية الغربية، هو الذي أضعف وجودها الشعبي العام سواء في مصر أو في العالم العربي.

إذ أن هناك من يرى أن الكنيسة قد اكتفت بخوض معركتها الذاتية، وغابت عن نضالات المجتمع، ومن شأن ذلك أن ينعكس سلبًا على دعم المجتمع بأغلبيته لحق كنيسة الأغلبية في التسيد الديني الوطني والقومي اتجاه المذاهب التبشيرية، فلن يكون هناك فارق كبير في نظر الكثيرين بين الأصيل والوافد، إذ لن يكون كلاهما جزءًا فاعلًا في النضال الوطني العام حسبما تذهب بعض القراءات.

لكن على العكس من موقف القيادة الحالية للكنيسة، عاش جيل مدارس الأحد الحقبة الناصرية بما لها وما عليها، فآمن قطاع مهم ومؤثر منه بالعروبة، وتبلورت لديه فكرة واضحة عن أن المسيحيين العرب جزء من الكيان العربي الجامع، ينتمون للثقافة الحاضنة لهم، يؤثرون فيها ويتأثرون بها، وهكذا جاءت مواقفهم اتجاه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية من منطلقاتهم الوطنية والحضارية.

جعل هذا الفهم البابا كيرلس السادس يبعث برسائل إلى قادة الكنائس العالمية للتأكيد على عروبة القدس، ويستنكر وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى دوره الروحي في دعم الجنود والضباط المسيحيين على جبهة القتال في سيناء. بل إنه أصدر بيانًا مشتركًا مع شيخ الأزهر، كان مما جاء فيه:

“من فضيلة الإمام الأكبر الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر، وقداسة البابا كيرلس السادس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية إلى أصحاب الضمائر الحرة في أنحاء الدنيا، نبعثها صيحة مدوية معلنة أن العرب أحرار يرفضون الذل، وأنهم يؤمنون بالله ثم بمقدساتهم التي يرونها رمز إيمانهم، لذا ونحن في جو من الأخوة والصفاء والألفة، النابعة من قلوب عامرة بالإيمان بالله، مليئة بالمحبة الصادقة، والإخلاص لأمتنا ولوطننا، نرى أن نتوجه في هذا الجو العصيب إلى العالم لنخاطب ضمائرهم بما اتفقت عليه كلمتنا… وهو أن الصهيونية العالمية قضية جنس لا تمت إلى الأديان بصلة وهي تعادي الإسلام والمسيحية، وليست هذه العداوة جديدة ولا مستحدثة وإنما هي وليدة تاريخ طويل، ونرفض تمامًا فكرة تغير الوضع القائم بالقدس قبل العدوان الغاشم كما نرفض تدويل القدس”.

كذلك يتذكر المسيحيون العرب للبابا ذاته وقفته العقدية مع أساقفته ضد وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح، التي صدرت عن الفاتيكان لتؤكد أن اليهود المعاصرين لا يمكن أن يؤخذوا بوزر آبائهم. وكان في هذا متمسكًا بالنص الإنجيلي الذي يدين أعداء المسيح على لسانهم بقولهم “دمه علينا وعلى أولادنا”. ورغم أن الجدل بين رموز الكنائس جدل عقدي لاهوتي بالأساس، فقد ارتبط توقيته خلال الستينيات وتداعياته بإعطاء ضوء أخضر للحكومات الغربية والشعوب لدعم إسرائيل على أساس ديني، لا على أساس المصالح المشتركة أو المبادئ المشتركة.

ومع وفاة كيرلس السادس، جاء البابا شنودة الثالث، الذي يمكن اعتباره نموذج المسألة العروبية بامتياز. فمنذ أن كان أسقفًا للتعليم، تشكل وعي شنودة مع جيله من قادة مدارس الأحد ضد الوجود الإسرائيلي مدفوعًا بحقيقة أن الأفكار المسيحية الصهيونية قد دخلت إلى مصر عبر بوابة المبشرين الأميركيين من البروتستانت، وبانتماءاته وتوجهاته الشخصية التي ظهرت في خدمته ضابطَ احتياط في الجيش المصري إبان حرب فلسطين.

وكانت الحقيقة الأولى التي شكلت وعي البابا شنودة وجيل مدارس الأحد، هي الدافع لهم جميعًا إلى سلوك سلك الرهبنة والخدمة في الكنيسة. فقد كانوا جميعًا مدفوعين بالرغبة في استعادة إرث الآباء الأقباط الأوائل، وإنقاذ الكنيسة من محاولات استلابها من قبل التيارات البروتستانتية. وفي هذه المرحلة تشكلت أفكار شنودة وجيله اللاهوتية اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي لتصوغ موقفًا يعبر باتساق شديد عن اللاهوت القبطي، والحق العربي في آن واحد.

الاقباط بانتظار اختيار خليفة البابا شنودة

استمرت المواقف السياسية المناهضة لإسرائيل للكنيسة القبطية بتولي البابا شنودة الثالث الكرسي المرقسي عام 1971 ليصبح مع الوقت “بابا العرب” وهو اللقب الذي أطلقته عليه الصحافة المصرية والعربية بداية الثمانينيات جراء ثباته على مواقفه من القضية الفلسطينية. فقد رفض البابا شنودة السفر مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى إسرائيل إبان توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، ثم استصدر قرارًا من المجمع المقدس عام 1980 يمنع فيه الأقباط من زيارة القدس رغم حساسية المسألة في المجتمع القبطي الشغوف بتلك الزيارة.

وقد ظل البابا شنودة على موقفه هذا حتى وفاته عام 2012 وإن كانت سنواته الأخيرة قد شهدت تراخيًا في تطبيق القرار. إذ كانت العلاقة بين الكنيسة والدولة عاملًا مؤثرًا في معادلة موقف الكنيسة من الصراع العربي الإسرائيلي. فإذا كان البابا شنودة قد تمسك بموقفه العروبي الرافض للوجود الإسرائيلي سياسيًّا ولاهوتيًّا طوال حقبتي الستينيات حين كان أسقفًا للتعليم، والسبعينيات حين صعد إلى الكرسي البابوي، وما صاحب ذلك من خلاف مع القيادة المصرية لأسباب عديدة؛ فإن موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي قد تشكل في جزء منه بناء على العلاقة مع الدولة.

فرغم تمسك البابا شنودة بموقفه من القضية الفلسطينية، أبدت الكنيسة تساهلًا في تطبيق قرار منع زيارة القدس في الوقت الذي كانت تتحسن فيه العلاقة مع الدولة. فقد حاول البابا إيجاد توازن ما مع السلطة أثناء ولاية محمد حسني مبارك التي بدأت بعيد اغتيال السادات عام 1981. فهذه الفترة التي سمّتها الباحثة ماريز تادرس “عصر تبادل المنافع”، شهدت غلبة المواءمات السياسية بين الكنيسة والدولة حسب الكثير من المراقبين. فمثلًا، سمحت الدولة ببناء المزيد من الكنائس، وتعاملت بمسؤولية أكبر مع بعض الأزمات الطائفية، في مقابل تأييد البابا للرئيس المصري وحزبه الوطني في المواسم الانتخابية.

كذلك اعتمد البابا أساليب أكثر تأثيرًا وأقل استفزازًا، مثل سعيه إلى ما تسميه الباحثة ياسمين كمال في رسالتها للماجستير بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة “هدم الصورة الذهنية الإسرائيلية في المخيلة المصرية الشعبية”، من خلال نزع الشرعية الدينية التي تدّعيها إسرائيل لنفسها بوصفها مملكة للمسيح. ظهرت هذه المواءمات مع توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، حينما سمح البابا بزيارة الأقباط المسنّين للأراضي المقدسة على مضض. حتى إن الصحف كانت تنشر آنذاك اعتذارات وطلبات للعفو إذا ما أقدم أحد الشباب على زيارة القدس بالمخالفة لقرار البابا شنودة، وهي المخالفة التي قد تعرض صاحبها لعقوبة الحرمان الكنسي.

وهناك من يرى أن موقف البابا شنودة من التطبيع جاء في إطار صراعه مع السادات، حيث قرر أن يكون قريبا من موقف القوى السياسية والشعبية المعارضة لاتفاقيات كامب ديفيد، مما اكسبه شعبية وحضورا. ولا يخلو هذا الرأي من وجاهة، لكن للحق كان للكنيسة، خصوصا في الستينيات، إرثٌ كبيرٌ في مناهضة المشروع الإسرائيلي. إذ صعد، بجانب الموقف السياسي، الموقف اللاهوتي للكنيسة القبطية وتجلى في كتابات الأب متّى المسكين.

الكنيسة وراء خط النار

يُعتبر الراهب القمص الأب متّى المسكين أحد أبرز أعلام جيل مدارس الأحد، وأشهر معلم للرهبنة الكنسية في العصر الحديث، وتمثل كتاباته مرجعًا مهمًّا لكافة الكنائس الأرثوذكسية؛ لذلك يمكن القول إن آراءه تحظى بتأييد في الكنيسة القبطية وباحترام كبير لدى غيرها من الطوائف المسيحية.

بعد شهر واحد من هزيمة يونيو/حزيران 1967، أصدر متّى المسكين كتابين يسجل بهما موقفه من الوجود الإسرائيلي، ويمثلان نمطًا من الكتابات انقطع في بداية الثمانينيات وحتى وفاته عام 2006. كان أول الكتابين عنوانه “ما وراء خط النار.. القوى المعنوية والإلهامات المنبعثة من المعركة الأخيرة”. وفي هذا الكتاب فنّد متّى المسكين ما وصفه بالأوهام الإسرائيلية التي بثتها بدعم من القوى الاستعمارية الغربية للترويج للسردية الدينية حول أحقية إسرائيل بالأراضي العربية مؤكدًا أن إسرائيل نجحت في كسب تعاطف الشعوب الغربية بالخداع، بعد الاضطهاد المريع الذي عانى منه اليهود من الحزب النازي الألماني، مستغلة ذلك في استدرار التعاطف العالمي مع مزجه بالمشاعر الدينية.

ففي كتابه، يؤكد متّى المسكين أنه “من المستحيل النفاذ إلى الضمير الغربي الحر الشريف… إلا باستخدام الطريق الديني واستخدام إيمان الشعب وتوقيره للعهد القديم”.

اعتبر متّى المسكين أن مكمن الخطورة هو تبني القادة المسيحيين ورجال الدين والوعاظ للخطاب الإسرائيلي سواء أكان ذلك تم بطريقة سياسية أو كنوع من التعاطف مع اليهود مؤكدًا أنه “لا التوراة ولا الإنجيل تؤيد تأسيس دولة يهودية، [ولا تؤيد] اليهودية كدين مستقل عن المسيحية لأن هذا يعني إلغاء المسيحية”.

وحذر متّى المسكين في كتابه من الأدوار التي تؤديها الكنيسة الغربية في الترويج للسردية الإسرائيلية مدفوعة بوثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح التي أصدرها الفاتيكان وتبناها مجلس الكنائس العالمي متسائلًا: “لماذا هذه الصحوة في هذا التوقيت وقد عاشت الكنائس ألفي عام تدين اليهود؟”، ويجيب: الكنائس الغربية -تحت الضغط والإلحاح الإسرائيلي- أرادت أن تلغي كافة الحقائق الإيمانية الدامغة التي عاشت لأجيال وأجيال، وكأنها تمهد الطريق وتبرر لحكوماتها دعم إسرائيل”.

ويذهب متّى المسكين إلى القول إن الكنائس الغربية كانت “متجنية ولا شك. ونحن ندينها، وندينها بكل حزم وشدة، وندينها أمام الله وأمام العالم كله”، وإن التدخل الديني للكنائس الغربية في إسباغ شرعية على وجود إسرائيل جعلها “مسؤولة عن… تخدير ضمائر الشعوب الساذجة”. ويكمل في موضع آخر بالقول إن تأسيس إسرائيل ليس إتمامًا “لوعود الله القديمة، ولكنه تحدٍّ لحكم الله ومحاولة بشرية يائسة مجنونة للخروج من تحت غضب الله ولعنته”. وهو خطاب متماثل إلى حد بعيد مع الخطابات اليهودية المناوئة للصهيونية.

يمتلئ كتاب “ما وراء النار” بالحجج المنطقية واللاهوتية التي تعزز من الوعي القبطي بالقضية الفلسطينية. ففي مقدمته يقول متّى المسكين “من واجبنا أن نسهم في توعية شعبنا والشعوب العربية كافة بما وراء هذه المعركة من دوافع خفية، وأوهام دينية، ومغالطات، حتى نستطيع أن نقف في وجه هذه الدولة المصطنعة المعتدية، بضمير خالص وشهادة من الله”.

يفنّد أيضًا متّى المسكين كون إسرائيل تمثل الوعد الإلهي لليهود، فإسرائيل ليست هي “إسرائيل”، “ومهما ادّعت لنفسها هذا الاسم فهي لا تملك حقيقته الروحية”. بل إنه يذهب بعيدًا فيقول إن “أي معونة عسكرية أو مادية، أو أي دفاع منطقي عن موقف [إسرائيل]، أو أي تواطؤ سري أو علني، أو حتى تعاطف من جهة الضمير، على أساس أنها حرب دينية أو يدخلها عنصر ديني بأي شكل من الأشكال، هو ضد الإيمان المسيحي”.

لكنه مع ذلك يؤكد أن “أهم طابع يتميز به الضمير العربي… خلوّه تمامًا من أي عداء ضد الدين اليهودي”، وأنه لا يمكن أن نشكّ في إنسانية العرب المقاومين، “التي تدفعهم لإراقة دمائهم، والمخاطرة بحياتهم، وبلادهم، وأموالهم، في سبيل إعادة [الفلسطينيين]”.

ولا يتجاهل الأب متّى المسكين الأبعاد الجيوسياسية في زرع إسرائيل في المنطقة العربية؛ فيقول في معرض حديثه عن استغلال عواطف المتدينين في الغرب للمضي في المخطط السياسي “لدقّ إسرائيل كأسفين بين الدول العربية يمنعها من مسيرها ونموّها… ويحد من حرية الحركة في منطقة الشرق الأوسط، ويحول دون تكوين جبهة متحدة مناوئة للغرب”.

أما الكتاب الثاني لمتّى المسكين، الذي حمل عنوان “أضواء على التوراة: ميناء إيلات وصحراء النقب: هل لإسرائيل الحق في هذه المناطق؟” فقد خصصه اللاهوتي القبطي لتفسير رواية العهد القديم عن منطقة أدوم التي تقع قرب إيلات وصحراء النقب مؤكدًا أنها لم تكن جزءا من مملكة إسرائيل المذكورة في العهد القديم.

كما شدّد متّى المسكين في كتابيه على أن الوحدة العربية هي السبيل للخلاص من المحتلّ الإسرائيلي معبرًا عن موقف جيله من اللاهوتيين والأساقفة والسياسيين الأقباط الذين عبروا عن تمسكهم بالعروبة بوصفها فكرة حاضنة تتصدى للاحتلال.

وقد ظلت هذه المواقف السياسية واللاهوتية غالبة في حقبتي الستينيات والسبعينيات، حتى طرأ تغيير على علاقة القمص متّى المسكين بالدولة المصرية متمثلة في الرئيس السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد وتحديدًا عام 1981، بالشكل الذي صاحبه اختفاء هذه الكتابات وإيقاف طبعها تمامًا؛ إذ قرّب السادات المسكين على حساب البابا شنودة الذي وُضع قيد الإقامة الجبرية في الدير، واختفت كتب متّى المسكين وتوقفت طباعتها ليحل محلها كتاب واحد فقط بعنوان “إسرائيل في العهد القديم” مذيّلًا بالعبارة “هذا الكتاب لا علاقة له بدولة إسرائيل الحالية من قريب أو بعيد”.

 أكتوبر يطرح الأسئلة الكبرى من جديد

توفي البابا شنودة عام 2012، وبوفاته انفتح الأقباط على زيارة القدس. فقد تغير الخطاب الكنسي نحو تشجيع الزيارة. ومن ذلك ما ذكره البابا تواضروس الثاني في إحدى المقابلات التلفزيونية من لقاء له مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بتبرير زيارة المسيحيين المصريين للقدس على اعتبار أنها “زيارة للسجين وليس للسجان”.

لكن لم يطل الأمر بالبابا تواضروس حتى زار إسرائيل عام 2015، وتلت زيارته تلك زيارات متعددة للرهبان والأساقفة تعلن عنها الكنيسة رسميًّا ليذهب قرار عام 1980 طي النسيان ويغيب معه الخطاب القبطي اللاهوتي الذي يتصدى للمسيحية الصهيونية.

لعل غياب القضية الفلسطينية عن الساحة الكنسية المصرية يأتي لعدة أسباب من بينها التغير الجيلي في القيادة الكنسية من جيل الأربعينيات الذي عاش فترة الحرب مع إسرائيل في الستينيات والسبعينيات وتفاعل معها إلى الجيل الثاني من مدارس الأحد الذي يمثله البابا تواضروس وجيل من الأساقفة وهو جيل الانعزال داخل الكنيسة والابتعاد عن المجال العام. فلا وعي هذا الجيل الكنسي ولا المدني يسعفه لاتخاذ موقف من هذه القضية.

كذلك فإن هذا الجيل قد شهد صعود التيار الإسلامي في فلسطين متمثلًا في حركة حماس مع صعود أكبر للإخوان المسلمين في مصر؛ مما جعل الكثير من الأقباط أميل إلى اختزال القضية الفلسطينية في صراع إسلامي يهودي. جرى ذلك بالتوازي مع انتشار خطابات الكنائس الأميركية التي تروج للمسيحية الصهيونية عبر نوافذ عديدة مثل القنوات المسيحية التي تبث من خارج المنطقة العربية، وتروج لهذه الخطابات وكذلك كثرة السفر إلى القدس في موسم عيد القيامة بالشكل الذي يجعل الاحتكاك مباشرًا مع المجتمع الإسرائيلي.

كل هذه العوامل أدت إلى اتساع الهوة بين أفكار البابا شنودة وجيله وبين الخطابات الكنسية المعاصرة حتى مع استهداف بعض كنائس غزة ومستشفياتها. ومع ذلك، عادت القضية مرة أخرى إلى النقاش بعد هجوم السابع من أكتوبر.

وإذا كان التأسيس القبطي التحرري توارى بفعل الانعزال والحساسية من حضور التيارات الإسلامية المقاومة، فقد تقدم خطاب لاهوتي مقاوم يقوده بعض الكنائس الأرثوذكس الأخرى مثل كنيسة الروم، وأبرز ممثليها المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس ومطران القدس، الذي قال أثناء لقاء حديث بوفد من الكنائس الأميركية: “لا نعترف بما يسمى المسيحية الصهيونية، وهذا المصطلح ليس موجودا في قاموسنا الكنسي المسيحي”.  وكان الوفد قد ضم عددا من رجال الدين المسيحي من الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية في الولايات المتحدة من المناصرين للقضية الفلسطينية، ووصل إلى القدس ليلة عيد الميلاد في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

مطران القدس أكد أن هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم صفة المسيحيين الصهاينة، أو الإنجيليين الصهاينة، إنما هم في الواقع “دكاكين مُسخّرة في خدمة المشروع الصهيوني”، وأن ما ينادون به لا علاقة له بالمسيحية، وعقائدها، ومبادئها، ورسالتها، لافتًا إلى أن هؤلاء يفسرون الكتاب المقدس بتفسيرات ذات بعد سياسي بعيدا عن التفسيرات اللاهوتية الكنسية القويمة.

الأمر نفسه يؤكده القس والأكاديمي منذر إسحاق، إذ يطرح وجود ما سمّاه لاهوتًا فلسطينيا وهو جزء من فكرة اللاهوت السياقي، أي أن ترى الشعوب في لاهوت المسيح وفقهه وأفكاره ما يعبر عن آلامها. وهذا ما ظهر مثلًا في اللاهوت الأفريقي الذي صاغ أصحابه رؤى معادية للاستعمار، وكذلك في لاهوت التحرير في أميركا الجنوبية، وهي محاولة استخلاص النماذج والعبر من إنجيل المسيح الذي عاش ثائرًا على الظلم والطغيان وصُلب ثمنًا لذلك وفقًا للعقيدة المسيحية. وإسحاق في هذا لا يختلف كثيرًا مع لاهوت البابا شنودة وأفكاره التي نادى بها في الستينيات.

لكن هناك عوائق أمام بناء هذا اللاهوت الفلسطيني؛ إذ يعتقد منذر إسحاق أن الترويج الغربي المستمر للصراع العربي الإسرائيلي باعتباره صراعًا إسلاميًّا يهوديًّا، وليس قضية نضال عادل ضد قوى استعمارية، قد ساهم في إبعاد المسيحيين العرب عن هذه المعادلة مع استمرار الترويج للأفكار المسيحية الصهيونية بينهم. كذلك ساهمت في ذلك معاناة بعض المسيحيين العرب في عدد من البلدان العربية نتيجة بعض الظروف السياسية والاجتماعية واضطرار الكثير منهم إلى الهجرة للبحث عن فرص أفضل في الحياة، وعوامل كثيرة أخرى أدت إلى انخفاض أعدادهم في بعض بلدان المشرق، وهو ما يعطي أرضًا للمسيحية الصهيونية.

وبحسب بعض المراقبين، فسيُضعف تراجع الكنيسة عن مواجهة الهيمنة الغربية ودعم نضال الشعب الفلسطيني، من موقفها أمام المذاهب المسيحية الغربية التي تستهدف وجودها، وقد يضعف الموقف الشعبي الإسلامي المؤيد لها في حماية نفسها وأبنائها. وفي المقابل سيدفع الوجود والحضور على أرضية النضال المشترك في القضايا العادلة، بدمج المسيحيين في الشأن العام، ويكسر عنهم طوق العزلة. فهو نضال من أجل المساواة الإيجابية القائمة على التفاعل مع الهموم والتهديدات المشتركة.

وإذا كانت الكنائس الأرثوذكسية قد اتخذت موقفا قاطعا مع المسيحية الصهيونية بموقفها الرافض للتأويلات البروتستانتية الكتابية، فإن هذه المعضلة تواجه الكنائس الإنجيلية العربية بشكل خاص. إذ إن الكنائس الإنجيلية تعتمد التفاسير الحرفية للكتاب المقدس؛ ومن ثم فإن الربط بين المجيء الثاني للمسيح وبناء الهيكل يُعد أمرًا مقبولًا عقائديا ضمن منظومة الكنيسة الفكرية، لكن المسألة السياسية تقف حائلًا دون تقبّل ذلك. وهو الأمر الذي دفع القيادات المسيحية الإنجيلية الفلسطينية مثل منذر إسحاق ومنيب يونان، مطران القدس للكنيسة اللوثرية ورئيس الاتحاد اللوثري العالمي سابقًا، إلى التأكيد على ضرورة وجود لاهوت فلسطيني يعبر عن معاناة الإنسان الفلسطيني في وجه القوة والطغيان ويتصدى للدعاية الصهيونية المسيحية القادمة من الغرب.

ومع هذه المعضلات، يصبح التحدي أكبر، لا أمام المسيحيين فحسب، بل أمام العالم كله. وأدلّ دليل على ذلك هو ما ختم به الأب متّى المسكين أحد كتبه: “إن الشعوب الغربية بمساندتها لإسرائيل تجازف بجوهر المسيحية، وتمهّد لضلالة جديدة تجتاح العالم وتؤثر في كيانه الروحي تأثيرًا قد يطمس أرقى ما فيه”.

شاركها.
Exit mobile version