من جانب المحراب يبدأ سيرنا، يلخص هذا الشطر الأثير في أدبيات الإسلاميين جزءا أساسيا من البناء الفكري والروحي لدى حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وبالأحرى أهم مرتكزات الاستدامة للفعل الجهادي في هذه الحركة التي تمد أشرعة قوتها في أرجاء فلسطين منذ أكثر من 30 سنة.

وفي الطريق إلى الشهادة أو النصر، يأخذ المقاتلون الحمساويون زادا من القرآن الذين يرون فيه مصدر راحة وسعادة، ووقود عزيمة، وحرز حماية، ومدد نصر، ومن المسجد تبدأ الرحلة وإليه تعود.

وإذا كان عام كامل من اللهب قد جرف مساجد كثيرة من أساساتها، وأحال منائرها هشيما تذروه لافحات اللهب وراجمات الموت، فإن المقاومين في غزة مستبشرون دائما بأن لهم حصنا لا يمكن اختراقه، إنه القرآن وهمسات التسابيح في رفيف السحر، وركعات الليل، وأشواق الشهادة.

ووفق ما هو متداول في أكثر من دراسة ومقال فإن “الحالة الدينية” في غزة، هي أكبر أسلحة المقاومة، وأكثرها قدرة على الاستدامة، وقد تحولت من سلوك روحي فرداني إلى نسيج مجتمعي غير قابل للاختراق.

إرث القسام ومحراب الياسين

أسس الشيخ عز الدين القسام جانبا كبيرا من قوة الكتائب المقاومة التي التفت حوله في عشرينيات القرن المنصرم على فكرة الولاء العميق للإسلام والقرآن، وعمق التربية الدينية، وهو ما مكنه من الوصول إلى القلوب والتأثير على العقول، ليصبح جامعه الأكثر استقطابا للمصلين في فلسطين، وخطبه الأقدر على تحريك المشاعر والأصابع على الزناد.

وقد تعددت الواجهات التي عمل فيها عز الدين القسام، من خطابة ودعوة وتعليم، وأعمال اجتماعية مختلفة، وهو ما مكنه من الاتصال بكل طبقات المجتمع وكل فئاته، وفي كل قلب قد ضرب بسهم من دعوته، وفكرته من انتشار مجتمعي.

ولم يكن استشهاد الشيخ القسام إلا جزءا من ترسيخ هوية الشهادة ودورها في استنهاض الهمم من أجل التحرير، رغم صعوبة المواجهة، والبون الشاسع بين الكفتين.

ورغم مرور قرابة التسعين عاما على رحيل عز الدين القسام، فإن روح فكرته وسريان دعوته، وعمق منهجه التنظيمي ترسخ أكثر في فكر الأجيال اللاحقة، وخصوصا تلك التي حملت من بعده لقبه، ورفعت السلاح للثأر من قتلته، وليأخذ الراية من بعده بعقود الشيخ أحمد ياسين، الذي يعتبره الكثيرون -معتمدين على شواهد الحياة وترانيم الموت- المؤسس الثاني للمقاومة الفلسطينية بعد شيخها الأول عز الدين القسام.

المساجد.. السكينة التي أنجبت الانتفاضات

ليس من المستغرب أن تكون الانتفاضة الأولى في التاريخ الفلسطيني الحديث، والتي اندلعت في الثامن من ديسمبر/كانون أول 1987، وعرفت بانتفاضة الحجارة، سميت أيضا بانتفاضة المساجد، لأنها انطلقت من رحاب المساجد، وكانت مكبرات الصوت في المساجد لسان الانتفاضة الأعلى دعوة وتحشيدا، وكانت باحات المساجد المنطلق والمآب لشباب الحجارة.

بل أكثر من ذلك خرج قرار الانتفاضة أصلا من المسجد، وفق ما أكده الشهيد الشيخ أحمد ياسين في برنامج شاهد على العصر، حيث جاءت الانتفاضة بتخطيط وتنفيذ من تلاميذ الياسين، ردا على مجزرة وقعت في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، وقتل فيها 4 عمّال على حاجز بيت حانون “إيريز” شمال قطاع غزة، لتكون ردة الفعل في انتفاضة ألهبتها الحجارة وقنابل المولوتوف اليدوية الصنع.

كتب الياسين بيان الانتفاضة، وسرت الثقافة الدينية والأدبية للشيخ الشهيد، حيث ضمن البيان شطر بيت للمتنبي: “أنا الغريق فما خوفي من البلل”، لتندلع إثر ذلك ثورة الحجارة والمساجد والتي سرعان ما انتشرت في أرجاء فلسطين وهزت الاحتلال بشكل قوي.

وكما كانت مساجد غزة مبتدأ الانتفاضة الأولى ومنطلقها، فقد كانت نقطة التجميع الأساسية للمشاركين في طوفان الأقصى، وفقا لتقرير حصري لصحيفة الغارديان البريطانية أفاد أن أولى الأوامر التي صدرت لهم كانت قبل الساعة الرابعة فجرا، ونصت على أنه “يجب على أي شخص كان يحضر الدورات التدريبية العادية ولم يكن يخطط لحضور صلاة الفجر في مساجده المعتادة أن يذهب للصلاة”.

ولم تقطع فترات الهدوء أو الخمود علاقة النضال الفلسطيني بالمساجد، بل رسخت مركزية المحراب، وجعلت خريجي المساجد ساعد فلسطين الأقوى وصوتها المزلزل.

القائد الأول للقسام.. النشأة في ظلال المساجد

تتحدث معظم الكتابات التي تتناول سير قادة المقاومة وعناصرها البارزة إلى ارتباطهم بالمساجد، كما تظهر المعلومات التي نشرتها كتائب عز الدين القسام عن أول قائد لها وهو الشهيد ياسر النمروطي (أبو معاذ)، الذي نشأ في ظلال المساجد، وعاش من أجلها، حمامة مسجد، قبل أن يكون أسد ميدان وقائد قوة ضاربة.

وضمن تقرير مطول نشرته مجلة الميدان الصادرة عن كتائب القسام، عن أبي معاذ خصصت فقرة منه لعلاقته بالمساجد ودورها في تكوينه الروحي تحت عنوان “في ظلال المساجد”، جاء فيها: “أبو معاذ” الذي ولد قبيل النكسة بثلاثة أعوام في مخيم خانيونس للاجئين، كان شاهداً على إجرام المحتلين وسياساتهم تجاه شعبنا، الأمر الذي جعله يتوق إلى ذلك اليوم الذي يشتد فيه عوده ليصبح قادراً على حمل السلاح، ويحارب العدو الذي هجر أجداده عام النكبة، ونكّل بهم بعد النكسة.

وكعادة الأبطال الذين مروا على فلسطين واحتفت بهم الملائكة في عليين، فقد بدأت علاقة أبي معاذ بالمسجد منذ صغره، فهو من كان يذهب لأداء الصلوات الخمس جماعة وخاصة صلاة الفجر في مسجد الإمام الشافعي بخان يونس حيث بدأت مسيرة العمل الدعوي، كما شارك إخوانه في جميع أنشطة المسجد الدعوية والأعمال التطوعية وكذلك الأنشطة الرياضية والثقافية ومسابقات حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم مضى في معاهد التعليم المهني ينشر رسالة حركة حماس وينظر لها.

لم يلبث كثيراً القائد أبو معاذ في عمله الدعوي حتى انخرط في العمل الأمني لحماس مع بداية تأسيس الجهاز الأمني لها “مجد” قبيل الانتفاضة، فكان أحب الأيام إليه ذاك اليوم الذي كلفه فيه المجاهد يحيى السنوار مؤسس منظمة الجهاد والدعوة (مجد) بتشكيل خلية أمنية في معسكر خان يونس لتؤدي واجبها في ملاحقة العملاء، وقد اختير للعمل في مهمات خاصة ضد العملاء وضد العدو”.

بين أروقة الساحة الخارجية للمسجد العمري الكبير، وسط مدينة غزة، يجلس الشيخ الفلسطيني نادر المصري في حلقة لتعليم قراءة القرآن، منذ أول أيام شهر رمضان المبارك. المصري (70 عاما)، وهو محاضر شرعي في المسجد العمري، يواظب منذ أكثر من 42 عاما، على التردد إليه، للصلاة وتقديم الدروس الشرعية متطوعا للمصلين. ويعدّ "العمري"، الذي أسس قبل أكثر من 1400 عام، من أكبر وأعرق مساجد غزة، وثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجدين الأقصى وأحمد باشا الجزار في عكا، ويوازيه بالمساحة جامع المحمودية في يافا. وفي شهر رمضان، يزداد إقبال المصلين على "المسجد العمري"، الذي يطلق عليه بعض سكان غزة اسم "المسجد الأقصى الصغير"، وذلك لتشابهه مع المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس المحتلة. ( Ali Jadallah - وكالة الأناضول )

مساجد غزة.. نصر وعزة

وإلى جانب أبي معاذ ومن قبله ومن بعده، كانت العلاقة مع المسجد “السر الذي لا يخيب” في تربية وصناعة القادة والفدائيين كما يؤكد ذلك عدد من قادة المقاومة ورجالها.

ويمثل الرئيس الحالي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) يحيى السنوار نموذجا للرعيل الذي ربته مدرسة الشهيد أحمد ياسين في المجمع الإسلامي الذي ظل ينظر إليه الاحتلال الإسرائيلي بكثير من الحذر والحقد والحنق، ومع ذلك ظل المجمع الإسلامي يتقدم ويتوسع، وينمو ويتطور.

وقد كانت رؤية الشيخ الياسين شمولية، تتأسس على ربانية التصور، وعبادية الفعل المقاوم الذي يدخل في كل تفاصيل الحياة، إذ ليست الحياة في غزة إلا ممارسة للمقاومة والتصدي لكل منفذ شخصي أو مؤسسي أو مجتمعي يمكن أن يترسخ منه الاحتلال.

وقد كان السنوار ضمن مجموعة من القادة الذين أوكل إليهم أمر بناء المساجد، متجاوزين بذلك العراقيل الطويلة التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي للترخيص لبناء المسجد.

وعلى سبيل المثال أشرف السنوار وعدد من رفاقه على بناء عدد كبير من المساجد في مناطق متعددة من قطاع غزة، عبر تجميع المتطوعين وتقسيم العمل بينهم، لينتهي العمل خلال عطلة جنود الكيان.

وقد كانت عمارة المساجد بعد تشييدها ورفع منائرها محضنا هاما لتكوين الأجيال المقاومة عبر السنين، حيث انتشرت في المساجد حلقات التحفيظ والدروس العلمية، كما كانت مثابات حركية للقاءات الأقل عرضة للرصد بين القادة والمقاومين.

ومع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، أصبحت المساجد جزءا أساسيا من إستراتيجية الحكم والمقاومة، حيث تأسست لجان متعددة للمساجد في مختلف أنحاء القطاع.

وفي سبيل ترسيخ دور المسجد في غزة نظمت حماس مؤتمر “مساجد غزة نصرة وعزة” الذي نظم نهاية مايو 2009، برعاية ودعم من رئيس الوزراء الفلسطيني حينها الشهيد إسماعيل هنية، وبرعاية ومشاركة من مرشد الإخوان المسلمين السابق الراحل محمد مهدي عاكف، وشارك فيه علماء ودعاة وخبراء في علم النفس والاجتماع، وانتهى إلى وضع وثيقة توجيهية لرسالة المسجد في غزة، ومركزية دوره في المقاومة.

وقد أثمرت إستراتيجيات العمل المسجدي في غزة، أجيالا مرتبطة بالمساجد تماما، بناء وخدمة وتعميرا وإرشادا، حيث يعتبر كثيرون أن أداء الصلوات الخمس في المساجد والارتباط اليومي بها حالة مجتمعية لا يشذ عنها الكثيرون.

كما أن الدور “التثويري” للأئمة حوّلهم من مشرفين على الجانب التعبدي إلى قادة مجتمعيين، يديرون كما بشريا منتظما في فعاليات متعددة من دورات التحفيظ والتجويد، والخدمة المجتمعية، وإدارة صناديق التبرع، وإدارة شؤون الحي مع تنسيق تام مع الجهات الإدارية والأمنية التي تمثلها الحكومة الفلسطينية في القطاع، وإلى حد ما كتائب عز الدين القسام.

وقد أظهر دور وتأثير المساجد في غزة حجم الحنق الإسرائيلي الموجه إليها، حيث دمرت لحد الآن قرابة 90% من مساجد القطاع، واستهدفت أئمته بشكل خاص، في محاولة لقطع العرق النابض بالإيمان والمقاومة في قطاع ارتبط بالقرآن والمساجد.

الفتوة.. تعليم مقاوم وشباب مقاتل

لا يقتصر عوامل التحفيز وغراس المقاومة على المساجد، وإن كانت من أهمها، حيث يسندها تعليم مقاوم، فقد أعادت حركة المقاومة الإسلامية تصميم المناهج الدراسية في القطاع على نحو يعلي من شأن المقاومة، ويجعلها حدثا تربويا مستمرا.

ووفق التعديلات التي أجرتها الحركة سنة 2013، فإن أقسام المتوسطة يدرسون منذ ذلك التاريخ مواضيع متعددة عن تاريخ فلسطين الإسلامي ودورها في معارك الفتوح الإسلامية والحروب الصليبية.

كما يدرسون أيضا جغرافية فلسطين ومكانتها الإستراتيجية، في عرض لتاريخ المدن الرئيسية في فلسطين، كما يدرس التلاميذ الغزاويون أيضا تاريخ المقاومة ونكباتها وانتفاضاتها، وتاريخ أعلامها ومعاركها الوطنية.

وإلى جانب ذلك يدخل التصدي للعدوان، ودراسة خططه والتعرف على أسلحته ونقاط قوته وضعفه ضمن المنظومة التربوية حيث تركز دروس مقررات مادة الفيزياء على سبيل المثال على نماذج تطبيقية تتعلق بالتصدي للصواريخ الإسرائيلية، واختراق القبة الحديدية، وهو ما يضمن تقريبا وتبسيطا للدرس الفيزيائي المعقد، مع معايشة دائمة لحركة المقاومة داخل القسم وخارجها.

الشهيد المزيني.. مهندس الفتوة والإعداد

وما إن تولى الوزير السابق للتعليم في غزة الشهيد أسامة المزيني حتى بدأ تنفيذ برنامج الفتوة المتعدد الجوانب، والذي امتد منذ العام 2013، واستهدفت فعالياته أكثر من 100 ألف مراهق في ثانويات غزة، ودون شك كان عدد كبير من هؤلاء الفتية وقود الفعل المقاوم، والعنصر الأكثر أهمية وقوة في جيوش كتائب المقاومة ومدد كتائب القسام.

وقد تم تنفيذ برنامج الفتوة بالتعاون بين وزارتي التعليم والداخلية في حكومة قطاع غزة، وكتائب عز الدين القسام.

ويشمل البرامج وحدات قيمية تتعلق بالسلوك الديني والمجتمعي، ومحاربة المخدرات والتدخين والمسلكيات الشائنة الأخرى، فيما يتعلق جانب أساسي منه بالإعداد العسكري، من خلال تدريب الطلاب على الرماية وحمل السلاح، ومختلف أنواع التدريب العسكري، الذي يتضمن أيضا رفع اللياقة البدنية والحس الأمني، وتعميق الانتماء الإسلامي.

ونقل موقع المركز الفلسطيني للإعلام عن المزيني قوله إن “تدريب طلبة مخيمات الفتوة على المهارات القتالية هو لإعدادهم بدنياً وجسمياً ونفسيا لتحرير الوطن، وأن تصبح لديهم قدرة للدفاع عنه في مواجهة أي عدوان صهيوني”.

وأوضح أن “أن طلبة الفتوة هم جيل النصر باختيارهم المصحف والبندقية، وأن الوزارة تسعى من خلال الفتوة والبرامج التعليمية إلى إعداد الطلبة في 3 محاور؛ الأول هو الإعداد الإيماني فقوة الإيمان ضرورية، والثاني الإعداد البدني والاستعداد للقتال والثالث الإعداد العلمي ففلسطين لا يحررها جاهل وكسول”.

ويمكن القول إن أعدادا من المراهقين الذين خضعوا لبرنامج الفتوة في سنوات انطلاقته الأولى، أصبحوا الآن شبابا أقوياء وفاعلين ومؤثرين في العمل المقاوم، وعلى الأرجح فإن من بينهم عدد كبير من عناصر المقاومة ممن قضى نحبه شهيدا، ومن ينتظر..

وإلى جانب برنامج الفتوة أدارت كتائب عز الدين القسام في قطاع غزة برنامجا آخر هو مخيمات طلائع التحرير الذي يستهدف فئات عمرية أكبر، وقد انطلقت فعالياته التربوية منذ العام 2013.

وشارك فيه على مدى سنوات عشرات الآلاف. وفي النسخة التي أقيمت في العام 2015 قالت كتائب القسام إن تلك المخيمات التي تقام بمواقع تدريب تابعة في أنحاء قطاع غزة “ستكون نواة مشروع التحرير القادم” وأن “أكثر من 25 ألف منتسب من الفئات العمرية المختلفة ما بين 15 وستين عاما يشاركون في مخيمات طلائع التحرير”.

وأضافت أن الهدف من تلك المخيمات هو “تأهيل جيل التحرير من الشباب الفلسطيني روحيا وعقليا وبدنيا وسلوكيا من خلال كادر مؤهل، ليكون قادرا ومستعدا لأداء دوره المنشود في معركة التحرير”.

ويوجد أيضا برنامج الأنصار الذي يستهدف الفئة العمرية من 24- 40 سنة، وقد انطلق هو الآخر سنة 2014، ويصل عدد المنتسبين إليه وفق تقديرات متعددة إلى 20 ألف شخص، ويشمل عمل هذا البرنامج تكوين القيادات المجتمعية والفكرية، وإدارة العلاقات مع المؤسسات والمجتمعات المحلية والقوى التقليدية، وفق مقال منشور بمجلة المجتمع الكويتي.

وبين هذه البرامج المشتركة ناظم أساسي، وهو حفظ القرآن الكريم والتكوين التربوي العالي، إضافة إلى الحس الأمني القوي والانتظام في حلقات متصاعدة، تمكن من إدارة فعالة وتنسيق سريع بين مختلف الوحدات والأفراد والقيادات.

العشائر والمخاتير.. حاضنة شعبية مقاومة

تغلغلت المقاومة في كل وجدان الشعب الفلسطيني، وفي غزة بشكل خاص فإن الفعل المقاوم والتربية الجهادية هي جزء أساسي من النسيج المجتمعي، الذي تحول إلى سور واق وقلعة حصينة أمام الاختراق الإسرائيلي الذي لم يأل جهدا في خلخلة النسيج المجتمعي، من خلال دعايات متعددة، منها على سبيل المثال شبهة اختطاف المقاومة للشعب الغزاوي وفرض الحرب عليه.

وقد أظهر الاحتضان الشعبي للمقاومة وصبره على ويلات وأهوال العدوان المستمر منذ عام أن المقاومة سلوكا وانتماء وأفرادا أصبحت هي التعبير الأكثر صدقية عن سكان غزة الذين قدموا حتى الآن نحو 42 ألف شهيد، وقرابة 100 ألف جريح.

وبشكل خاص فقد أدارت حماس وحكومة القطاع علاقة نوعية مع “المخاتير والعشائر” وأعادت تنظيم هذا الإطار المجتمعي الضارب في القدم والسائد في مختلف مجتمعات فلسطين وبلاد الشام.

ورغم محاولات حكومات الاحتلال الاتصال الدائم مع مخاتير العشائر الفلسطينية، إلا أن جدار الممانعة كان قويا، واحتضان المقاومة كان مانعا لأي اختراق.

وقد بدأت علاقة حماس مع العشائر والمخاتير بشكل مباشر ومن موقع السلطة منذ العام 2007، إثر نجاح الحركة في انتخابات 2006 ثم سيطرتها على قطاع غزة في ما عرف بـ”الحسم العسكري” عقب صراع مع حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح(.

وخلال ذلك أعلنت الحركة عن سياسة جديدة لضبط الأمن، أدت إلى تقليص قوة العشائر بشكل كبير، وإن احتفظت هذه العشائر بدرجة من الاستقلالية، وكان من بين معالم تلك السياسية الأمنية “نزع سلاح العشائر ومنع نقاط التفتيش غير القانونية والقضاء على ظاهرة المربعات الأمنية الخاصة بالعائلات الكبيرة، ولم تخل هذه السيطرة من مواجهة عسكرية مع بعض تلك العائلات، قبل أن تبسط الكتائب سيطرتها الأمنية على كامل القطاع.

فيما كانت المرحلة الثانية من تسيير شأن العشائر والمخاتير، من خلال “ديمقراطية” العشائر، وانتخاب مجالس دورية خاصة لتسيير أمرها، إضافة إلى دمج العائلات الصغيرة مع بعض لتتشكل من ذلك كتلة تنظيمية، وهو ما دفع المخاتير والمجالس المنتخبة إلى التنافس في خدمة العشائر، وتحديد أهداف تنموية ومجتمعية.

وقد عززت تلك السياسة المتعلقة بالعشائر وبالتواصل مع المخاتير من عمق العلاقة مع وزارة الداخلية وكتائب عز الدين القسام، باعتبارهما جهة التنسيق الأمني والإداري.

وخلال الشهور الماضية، وفي ظل بحث إسرائيل عن بدائل لحكم حماس في قطاع غزة، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن توجه إسرائيلي لتقسيم قطاع غزة إلى مناطق، وتولي العشائر والعائلات مسؤولية تلك المناطق، خاصة توزيع المساعدات.

وتحدثت قناة “كان” الإسرائيلية في يناير/كانون الثاني الماضي عن مسعى “لتقسيم القطاع إلى مناطق ونواح، حيث ستسيطر كل عشيرة على ناحية، وستكون مسؤولة عن توزيع المساعدات الإنسانية”، مشيرة إلى أن هذه “العشائر المعروفة لدى الجيش وجهاز الأمن العام (شاباك) ستقوم بإدارة الحياة المدنية في غزة لفترة مؤقتة (من دون تحديد المدة)

غير أن العشائر كانت بالمرصاد، لهذا التوجه حيث أكد بيان لها “حُرمة التعاطي مع “العدو الصهيوني” في إعادة تدوير نظام “روابط القرى”، أو إنشاء صحوات عشائرية تخدم المحتل الغاصب، وإن كل من يشارك في ذلك يعامل معاملة الاحتلال الصهيوني.

وشدد البيان على أن القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية جزء أصيل من فسيفساء المجتمع الفلسطيني، وهي داعمة للمقاومة الشاملة”.

ولأن الأمر يتعلق بأخطر محاولة للاختراق فقد كانت حركة حماس واضحة عبر أحد قادتها الأمنيين الذي أكد في تصريحات إعلامية أن “سعي الاحتلال لاستحداث هيئات تدير غزة مؤامرة فاشلة لن تتحقق، مؤكدا أن قبول التواصل مع الاحتلال من مخاتير وعشائر للعمل بقطاع غزة خيانة وطنية، وأن الحركة لن تسمح بها، وستضرب بيد من حديد مَن يعبث بالجبهة الداخلية في قطاع غزة، ولن نسمح بفرض قواعد جديدة”.

وبين التكوين والتأسيس، وإعادة توجيه البوصلة الشعبية والجماهيرية، وإعداد الأجيال وتسيير منظومة التعليم بما يخدم أهداف المقاومة، وإقامة فضاء مجتمعي واسع للعمل الخيري، أصبحت حماس أُمّا حاضنة للمجتمع الغزي، وأسدا هصورا في الدفاع عنه، وتحول المجتمع إلى حاضنة ينظر إلى حماس بعين غير تلك التي تنظر بها شعوب عربية كبيرة إلى حكوماتها.

شاركها.
Exit mobile version