غزة- لم تعد الفوارق الطبقية ذات معنى في قطاع غزة، فحتى أولئك الذين كانوا يصنَفون ضمن “ميسوري الحال” أو يُشار إليهم بـ”الشخصيات العامة”، وجدوا أنفسهم أمام موائد خاوية، ووجبات لا تسد رمقا، في ظل حالة تجويع غير مسبوقة تعصف بالقطاع منذ ما يقارب العامين.

ومع استمرار الحرب الإسرائيلية الوحشية على القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومنع إدخال الطعام والمساعدات الإنسانية بغرض تجويع السكان، انهارت مصادر الدخل، وبات حتى أصحاب رؤوس الأموال يعانون من الاستنزاف المالي، والجوع، وسوء التغذية، ولم يعد في أسواق القطاع ما يمكن شراؤه، حتى لمن يملك المال.

مدير مطعم

يروي معتز عبدو، مدير مطعم فاخر ومعروف في مدينة غزة، تجربته الشخصية قائلا “لم أتخيل يوما أن أقف عاجزا عن إطعام أطفالي، أن يطلب ابني الدجاج، وابنتي الحليب، ولا أجد”.

ويضيف “حتى الطحين لم يكن متوفرا مؤخرا، مشيت عدة كيلومترات لأشتري فقط 2 كيلو بسعر 240 شيكلا (72 دولارا)، رغم أن سعر الكيلو الحقيقي 3 شواكل فقط”.

تأثرت صحة عبدو وأولاده، فقد خسر 12 كيلوغراما من وزنه، وابنه الصغير (7 سنوات) انخفض وزنه 3 كيلوغرامات.

ويتابع “انهار جسدي بسبب المجاعة، أما الطفل فلا يستطيع صعود الدرج، وهو في عمر يفترض أن يركض فيه”.

ورغم أنه يعتبر نفسه من ميسوري الحال، إلا أن مدير المطعم، يعيش اليوم على هامش ما تبقّى من مدخراته، في ظل إغلاق مطعمه منذ بداية الحرب، وتوقف الحياة الاقتصادية بالكامل.

ويقدّر خسائر مطعمه، بسبب إغلاقه منذ بداية الحرب، وتعرضه لأضرار جراء القصف الإسرائيلي بما بين 2.5 إلى 3 ملايين دولار.

الشوّا: نبحث عن وجبة وحيدة وهي بضع كسرات من الخبز أو بعض الأرز

في الخندق نفسه

يتحدث أمجد الشوا، رئيس شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، بكلمات يغلب عليها الإرهاق “ما نعيشه اليوم يتجاوز كل ما عرفناه في سنوات الحصار، ليس مجرد نقص في الطعام، بل غيابه التام، نحن نأكل وجبة واحدة في اليوم، وهي لا تُشبه الوجبة بمعناها الطبيعي، بل كسرات خبز أو أرز قليل”.

ورغم وضعه الاعتباري، لا يرى الشوا في ذلك أي امتياز، حيث يقول “إننا جميعا في الخندق ذاته، لا فرق بيني وبين أي مواطن عادي، فالجميع يأكل نفس الطعام، ويشرب من نفس المياه، ويتقاسم نفس الهم”.

ويشير الرجل إلى حالة والدته التي تحتاج دواء لم يعد متوفرا، ويذكر كيف يخرج ابنه للبحث عن الطحين، ليصطدم بأسعار خيالية، ثم يدخل في دوامة أخرى: أين سيطبخ؟ وعلى أي نار؟

ويكمل “أحيانا لا نقدر حتى على ابتلاع ما نأكله، الشعور بالذنب حين ترى النساء والأطفال جائعين يجعلك تفقد شهيتك، نأكل فقط لأننا مجبرون على البقاء أحياء”.

لسد الجوع فقط

أما البروفيسور نافذ بركات، أستاذ الإحصاء والرياضيات في الجامعة الإسلامية بغزة، ويدير مركزا خاصا بالاستشارات والتحليل الإحصائي، فيختصر الوضع بأنه “مأساوي” وليس فقط “صعبا”.

ويقول “نأكل وجبتين فقط باليوم، والوجبة صغيرة فقط لسد الجوع، نعمل عدس أو معكرونة، أو باذنجان نشويه ونأكله، هي وجبات غير مشبعة وغير مغذية، لا فواكه ولا خضروات ولا سكر”.

ويضيف “التكلفة باهظة جدا، وأنا عندي عائلة، والجامعة لا تدفع رواتب”.

ويشير إلى أن رب الأسرة يحتاج إلى 140 دولارا في اليوم، فقط ليستطيع أن يطعم أفراد أسرته، علما أن غالبية السكان لا يملكون أية أموال حاليا، بعد مرور نحو 20 شهرا على الحرب.

إرهاق نفسي وجسدي

أما أماني الكحلوت، وهي سيدة أعمال وصاحبة متجر ملابس معروف ومؤثرة على صفحات الشبكات الاجتماعية، فتصف واقعا يتجاوز الجوع إلى الإرهاق النفسي.

وتقول “يتكوّن غذاؤنا بشكل أساسي من الخبز، الذي يتراوح سعر الكيلو منه بين 60 إلى 100 شيكل (18-30 دولارا)، إلى جانب كميات محدودة من البقوليات ذات الجودة المتدنية، مثل العدس، الفاصوليا، والمجدّرة”.

وتشير إلى أن إسكات جوع أطفالها “بحد ذاته إنجاز، حتى وإن كان الطعام رديئا ويفتقر إلى المعادن والفيتامينات الأساسية التي يحتاجها جسمهم للنمو السليم” وهو ما تسبب بإصابتها وأطفالها بالإرهاق المستمر، وتساقط الشعر، ومشاكل هضمية، وتقلبات مزاج، ودوخة مزمنة، وضعف الطاقة.

وتضيف “ابنتي تطلب مني مثلجات، أو شوكولاتة، أو لحوم كما كانت تأكل قبل الحرب.. ماذا أقول لها؟ لا يوجد شيء. فقط خبز مع دقّة (زعتر مجفف ومطحون)”.

وتكمل “زوجي يخرج يوميا سيرا على الأقدام، يقطع مسافات طويلة تحت الشمس والقصف، فقط ليؤمّن لنا وجبة متواضعة”.

وتشرح التحدي المضاعف الذي تعيشه كميسورة فقدت مصدر دخلها “البوتيك مغلق، لا بيع، لا دخل، والمال يتآكل، وعند سحب المال تُخصم 40-50% منه عمولة، تخيّل أن كيلو العدس بين 50 و80 شيكلا”.

“كي لا نسقط”

أما الشيف وريف قاسم، صاحب مطعم معروف، وهو شخصية مشهورة على منصات التواصل، فهو الآخر صار يأكل كما لا يليق بعمله وشهرته.

ويشرح قائلا “نزل وزني 7 كيلوغرامات، كل من أعرفه فقد من وزنه، لا أحد يشبع، بل فقط يأكل ما يمنع سقوطه أرضا”.

وحول وجباته خلال المجاعة، يقول “نطبخ معكرونة بملعقة صلصة، أو أرز فقط، كل شخص له رغيفان فقط في اليوم، وأحيانا نأكل خبزا فقط مع دُقّة”.

ويشير إلى أن مجهود الحياة اليومي في غزة، من حمل المياه، والسير لمسافات بسبب عدم توفر المواصلات، والطهي على النار، بات يفوق قدرة الجسم الضعيف، وهو ما يتسبب بفقدان الوزن المستمر.

ويختم بالقول “التغذية السيئة أفقدتنا الطاقة، لا أحد لديه قوة لمواصلة الحياة، لكننا نحاول”.

شاركها.
Exit mobile version