أنقرة- قضت محكمة مدنية في إسطنبول، اليوم الثلاثاء، بإبطال نتائج مؤتمر حزب الشعب الجمهوري في أكبر فروعه الحزبية على مستوى البلاد، والذي كان قد عُقد يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبموجب هذا القرار، جرى عزل أوزغور تشيليك (رئيس فرع الحزب في إسطنبول) مع كامل أعضاء إدارته المنتخبين. كما تقرر تكليف لجنة مؤقتة من 5 أشخاص لتولي إدارة شؤون الفرع إلى حين انعقاد مؤتمر جديد، وضمت شخصيات بارزة في الحزب بينهم النائب السابق غورسل تكين الذي أسندت إليه رئاسة الفرع بالإنابة.
وقد أصدرت المحكمة المدنية الابتدائية الـ45 في إسطنبول حكمها، بعد نظر دعوى رفعها عدد من أعضاء الحزب للطعن في شرعية المؤتمر الانتخابي الأخير لفرع إسطنبول.
تفاصيل القرار
وجاء في منطوق الحكم: إلغاء جميع النتائج المترتبة على مؤتمر 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما أفرزه من هيئات حزبية، ليُعتبر بذلك تشيليك مفصولا من رئاسة الفرع، ومعه كامل أعضاء مجلس الإدارة المنتخبين في ذلك المؤتمر.
وشمل القرار أيضا تعليق عضوية 196 مندوبا شاركوا في المؤتمر المذكور وانتخبوا خلاله، في خطوة وصفت بأنها إجراء احترازي يمنعهم من ممارسة أي مهام تنظيمية حتى إشعار آخر.
وعلى الصعيد المركزي، بادرت قيادة “الشعب الجمهوري” إلى عقد اجتماع طارئ في أنقرة برئاسة أوزغور أوزال، لبحث التداعيات المترتبة على القرار القضائي ووضع خطة للتعامل مع الأزمة، في محاولة لاحتواء آثارها على تماسك الحزب واستقراره التنظيمي.
وأعلن أوزال طرد غورسل تكين من عضويته بالحزب بعد قبوله منصب رئيس فرع الحزب في إسطنبول بالوصاية خلفا للرئيس المنتخب المعزول بقرار قضائي تشيليك.
صراع وأزمات
وجاء قرار المحكمة ليشكل فصلا جديدا في سلسلة الأزمات الداخلية التي يعيشها حزب الشعب الجمهوري منذ عام 2023.
ففي 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، انعقد مؤتمر فرع الحزب في إسطنبول وسط أجواء تنافسية حادة بين جناحين بارزين: الأول إصلاحي مدعوم من رئيس بلدية إسطنبول آنذاك أكرم إمام أوغلو، والثاني تقليدي قريب من الزعيم السابق للحزب كمال كليتشدار أوغلو.
وفي هذا السياق، خاض تشيليك -وهو قيادي شاب يحظى بتأييد إمام أوغلو- سباق رئاسة الفرع في مواجهة المخضرم جمال جانبولات الذي اعتُبر ممثلا للجناح التقليدي، وانتهى التصويت بفوز تشيليك بأغلبية أصوات مندوبي إسطنبول، ليصبح رئيسا للفرع خلفا لجانان كفتانجي أوغلو التي أُبعدت بقرار قضائي فرض عليها حظرا سياسيا.
غير أن نتائج المؤتمر سرعان ما تحولت إلى موضع شك، إذ تقدم معارضو تشيليك بطعون حول نزاهة العملية، وفتحت النيابة العامة في إسطنبول تحقيقا واسعا بشبهة حدوث تلاعب واحتيال بالانتخابات الداخلية.
وفي يناير/كانون الثاني 2024، أصدرت النيابة لائحة اتهام تضمنت مزاعم بتقديم رشاوى لعدد من المندوبين لضمان تصويتهم لصالح تشيليك، مشيرة إلى محاولة دفع 150 ألف ليرة (نحو 3 آلاف و660 دولارا) لكل مندوب، مع طلب لاحق برفع المبلغ إلى 750 ألف ليرة (نحو 18 ألفا و290 دولارا) إلى 3 مندوبين.
وبناء على هذه المزاعم، وُجِّهت اتهامات إلى تشيليك و9 من مسؤولي الحزب الآخرين، قد تصل عقوبتها إلى السجن 3 سنوات حال ثبوت التلاعب.
وإلى جانب التحقيقات الجنائية، لجأت المجموعة الخاسرة في المؤتمر -والمقربة من جانبولات وكليتشدار أوغلو- إلى القضاء المدني للطعن في شرعية النتائج، مستندة إلى ما اعتبرته مخالفات إجرائية وانتهاكا للوائح الداخلية للحزب.
وبعد مداولات قضائية استمرت نحو عامين، جاء قرار المحكمة الأخير ليُبطل رسميا نتائج مؤتمر إسطنبول، وليمنح فريق الطاعنين انتصارا قضائيا أنهى ولاية تشيليك وأعضاء إدارته.
تماسك الحزب ووحدته
وقد أحدث قرار المحكمة ردود فعل متسارعة داخل حزب الشعب الجمهوري، في وقت يسعى قادته لاحتواء تداعياته والحفاظ على تماسك الصفوف.
فقد بادر تشيليك -الذي أُبطل انتخابه رئيسا لفرع إسطنبول- إلى التعليق بحذر، موضحا أن الحكم لم يُبلَّغ رسميا بعد، وأنه وفريقه بصدد الاطلاع على تفاصيله، ودعا أنصاره إلى التزام الهدوء ريثما تتضح الصورة، مؤكدا عبر رسالة على حساباته بوسائل التواصل الاجتماعي أنه سيتابع التطورات من مقر الحزب.
وفي المقابل، برز تكين -المكلف برئاسة فرع إسطنبول مؤقتا- ليؤكد عزمه على الحفاظ على وحدة التنظيم وضمان استمرار نشاطاته، وقال في تصريح صحفي “لن أسمح بأن يبقى حزبنا بلا قيادة. سأتحمل المسؤولية كاملة لإخراج الحزب من أروقة المحاكم وإعادته إلى مساره الديمقراطي”.

ومن جانبه، قال مراد جان إيشيلداق نائب رئيس لجنة الانضباط بـ”الشعب الجمهوري” إن قرار المحكمة إبطال مؤتمر فرع الحزب بإسطنبول وعزل قيادته المنتخبة ينبغي التعامل معه في إطار مبدأ سيادة القانون.
وأوضح -في تصريح للجزيرة نت- أن النهج الاجتماعي الديمقراطي لا يقوم فقط على احترام أحكام القضاء، بل أيضا تشغيل الآليات الداخلية للحزب بصورة ديمقراطية وشفافة وتشاركية لمعالجة الخلافات، مضيفا “علينا أن نحرص على ألا تؤدي هذه العملية إلى الإضرار بالهوية المؤسسية للحزب أو بثقة أعضائنا بتنظيمهم”.
وأشار إيشيلداق إلى أن الحفاظ على وحدة الحزب يتطلب تغليب القيم المشتركة، والمسؤولية الاجتماعية، على المصالح الفردية أو النزعات الفئوية.
وقال إيشيلداق “أي تطور تنظيمي يطرأ في إسطنبول -وهي ولاية محورية في السياسة التركية- يملك بطبيعته القدرة على التأثير في مجمل الحزب، لكن الأهم أن يقودنا هذا الوضع إلى تعزيز ثقافة الديمقراطية، وإيجاد آليات أوسع وأكثر شرعية تعكس إرادة أعضائنا”.
وأكد أن تركيا تمر بمرحلة سياسية حرجة، والمجتمع يتوقع من المعارضة أن تقدم الحلول والثقة والأمل، وأضاف “واجبنا الأساسي إدارة النقاشات الداخلية بعقلانية، وتعزيز وحدة الصف، والعمل بعقل جماعي”.
وتابع إيشيلداق “القضية بالنسبة لنا ليست مجرد نزاع حول مؤتمر إقليمي، بل هي اختبار حقيقي لمدى استيعابنا لقيم الديمقراطية وقدرتنا على أن نكون نموذجا يحتذى به أمام المجتمع”.

خيارات الحزب
في السياق، قال المحلل السياسي علي أسمر إن قرار المحكمة لا يمكن اعتباره مجرد إجراء قانوني عابر، بل يُمثِّل تطورا سياسيا مهما يمس أكبر فروع الحزب المعارض وأكثرها رمزية في المشهد التركي.
وأوضح أسمر -للجزيرة نت- أن اتهامات التلاعب والمخالفات في اختيار المندوبين، إضافة إلى شبهات تأثير المال، جعلت المؤتمر مثار جدل حتى قبل صدور الحكم القضائي، الأمر الذي يعكس عجز الحزب عن بناء آلية انتخابية داخلية مستقرة وشفافة.
وشدد على أن رمزية إسطنبول لا يمكن الاستهانة بها بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري، فهي المدينة التي منحت المعارضة فوزها الأكبر عام 2019 عبر إمام أوغلو، كما أنها القاعدة الأكثر تنظيما وتمويلا ونفوذا داخل الحزب، مؤكدا أن أي اهتزاز في إدارة هذا الفرع ينعكس مباشرة على الهيكل التنظيمي العام، مما يمنح قرار الإبطال أهمية مضاعفة.
وختم أسمر بالقول: إن الحزب يقف اليوم أمام خيارين حاسمين:
- تحويل الأزمة إلى فرصة الحزب لإعادة ترتيب بيته الداخلي عبر انتخابات أكثر شفافية وتوافقا.
- الانزلاق نحو مسار من الانقسامات التي قد تضعف موقع حزب الشعب الجمهوري بالساحة السياسية خلال المرحلة المقبلة.