طهران- لطالما أكدت الحكومة الإيرانية الحالية استعدادها للجلوس على طاولة المفاوضات -مع جميع الدول التي تعترف بها- لحلحلة القضايا الشائكة بينهما، كما جدد مساعد الرئيس الإيراني للشؤون الإستراتيجية محمد جواد ظريف استعداد طهران “للانخراط في الحوار مع واشنطن”.
وفي مقال نشره بصحيفة “فورين أفيرز” الأميركية تحت عنوان “كيف ترى إيران الطريق إلى السلام؟”، أوضح المسؤول الإيراني أن حكومة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان تتبني سياسة خارجية مرنة في الملفات الإقليمية والدولية، وأنها تعطي الأولوية للمشاركة الدبلوماسية والحوار البناء.
ولدى إشارته إلى استعداد حكومة بزشكيان للعمل مع القوى الغربية والولايات المتحدة لإدارة التوترات ومنها الملف النووي، يستدرك ظريف أن بلاده “لن تستسلم للضغوط”، وأنها “لن تتراجع عن حماية مصالحها الوطنية”.
ورغم أن مساعد الرئيس الإيراني للشؤون الإستراتيجية يشترط في مقاله اتخاذ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب “خطوات عملية تخدم مصالح الطرفين”، فإن مواقفه اصطدمت بمعارضة شرسة من صقور التيار المحافظ، وفُسّرت على أنها ترسل رسالة ضعف للعدو.
وينشر ظريف مقاله في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية بينما يتعرض لهجوم شرس من قبل معارضيه المطالبين بإقالته من منصبه مساعدا للرئاسة الإيرانية للشؤون الإستراتيجية، بسبب الجنسية الأميركية التي يحملها أولاده منذ ولادتهم في الولايات المتحدة قبل عقود، وبذلك قد يكون الدبلوماسي المخضرم أراد تذكير خصومه بمكانته في الدولة العميقة.
معارضة شرسة
في غضون ذلك، نشرت وكالة أنباء “رجا نيوز” المقربة من “جبهة ثبات الثورة الإسلامية” المحافظة، مقالا اعتبرت فيه مواقف ظريف أنها “ترسل إشارات خطيرة للرئيس الأميركي المنتخب” مفادها “مستعدون لنزع السلاح”، واتهمته باتخاذ مواقف تعارض المصالح الوطنية، ومنها إعلان استعداد طهران للتفاوض على ملفات أبعد من النووي الإيراني.
وبينما أبدت الصحافة الإصلاحية تأييدا كبيرا لإستراتيجية ظريف الرامية إلى خفض التوتر بين طهران والعواصم الغربية، استغربت وكالة رجا نيوز المحافظة نشر هذه المقالة في توقيت دقيق “تعاني المنطقة من السياسات الاستعمارية الأميركية والكيان المسعور” علی حد تعبيرها، وطالبت بدراسة أسباب الحديث عن وضع السلاح جانبا بينما ينتظر العالم رد إيران على “الهجوم الصهيوني المباشر على أراضيها”.
وردا على هذه الانتقادات، كتب ظريف على منصة “إكس” أنه “بعد مضي أكثر من 200 عام من التحقير والخسائر أمام هجمات الأجانب، أثبتت إيران في الوقت الراهن أنها قادرة على الدفاع عن نفسها أمام أي هجوم خارجي”.
وأضاف أنه “ينبغي أن تكون الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي قد تعلمت حتى الآن بأن إيران لن تستسلم للضغوط ولا تستجيب للمطالب غير المعقولة، وأنها ستدافع دائما عن مصالحها الوطنية”.
مصالح متعارضة
يلمس أستاذ الجغرافيا السياسية بجامعة طهران، كيومرث يزدان بناه ما اعتبره تناقضا في السياسة الخارجية التي يسعى ظريف لتدعيم ركائزها، موضحا أنه لا يمكن الحديث عن السلام على المستوى العالمي مع القوى التي تهاجم باستمرار توجهات طهران الإقليمية.
وفي حديثه للجزيرة نت، يشير الأكاديمي الإيراني إلى تغريدة ظريف ردا على منتقديه وتأكيده أن بلاده لن تستسلم للضغوط، متسائلا عن جدوى مثل هذه المواقف “في حين يعرف الجميع الضريبة الباهظة التي تدفعها البلاد جراء هذه الضغوط الخارجية”.
واعتبر أن رؤية ظريف للسياسة الخارجية تتطلب تغييرا في خطاب الجمهورية الإسلامية بما يميز الحقبة الجديدة عن سابقاتها، في حين أن الحكومة ليست سوى حلقة واحدة من بين المؤسسات التي تشارك في رسم سياسة البلاد الخارجية.
وأوضح يزدان بناه أن مواقف ظريف قد لا تتناسب والخطوط العريضة التي تسير عليها طهران وفقا لخطابها الثوري منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وتوقع ألا تجدي نفعا في حلحلة القضايا الشائكة مع القوى الغربية وعلى رأسها الإدارة الأميركية المقبلة التي دأبت على إرسال إشارات تتناقض مع التوجهات الإيرانية وتشديد التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
إرادة شعبية
في المقابل، يبدى السفير الإيراني الأسبق في بريطانيا جلال ساداتیان، تأييده لدبلوماسية بلاده بقيادة ظريف وعزمه خفض التوتر في سياسة إيران الخارجية وحديثه عن استعداد طهران للتفاوض مع واشنطن، مؤكدا أن هذه السياسة تتناسب وإرادة الإيرانيين الذين صوتوا لصالح الخطاب الذي أطلقه الرئيس مسعود بزشكيان خلال حملته الانتخابية.
وأشاد ساداتيان إلى استهداف ظريف حلحلة القضايا الشائكة بين طهران وواشنطن، ذلك بأن علاقات إيران مع العديد من الدول الأخرى تتأثر بشكل مباشر بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، مضيفا -في حديثه للجزيرة نت- أن شريحة كبيرة جدا من الإيرانيين تثق بقدرات ظريف التفاوضية وحرصه على ضمان المصالح الوطنية.
وبرأي ساداتيان، فإن ما حققه ظريف في المفاوضات المؤدية إلى إبرام الاتفاق النووي عام 2015، أدی إلى “شرخ بين التيارات السياسية الأميركية من جهة وبين الإدارة الجمهورية السابقة والقوى الأوروبية من جهة أخرى”، مؤكدا أن التيار السياسي المعارض لدعوة ظريف التفاوض مع واشنطن قد اتخذ خطوة مشابهة في الحكومة السابقة، وتفاوض بشكل غير مباشر مع الولايات المتحدة، لكنه عجز عن تحقيق أي إنجاز”.
انفتاح وتجاهل
وبين هذا وذاك، يعتقد السفير الإيراني الأسبق في فرنسا أبو القاسم دلفي، أنه رغم تركيز الأوساط الداخلية على تصور ظريف للتفاوض مع الولايات المتحدة خلال المرحلة المقبلة، فإن مقاله يقدم خارطة طريق لسياسة حكومة بزشكيان للتعامل مع الدول الخليجية ومكانة القضية الفلسطينية لدى الجمهورية الإسلامية، علاوة على رؤيتها حيال القوى الشرقية والغربية.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقرأ دلفي رؤية ظريف التي طرحها في مجلة “فورين أفيرز” في سياق سياسات طهران حيال تطورات الشرق الأوسط، وتأكيده لأول مرة بصوت عال أن بلاده ستقبل بما يقرره الفلسطينيون ويقبلون به لأنفسهم.
وتابع الدبلوماسي الإيراني السابق، أن موضوع التفاوض مع أميركا جاء ردا على مواقف ترامب خلال حملته الانتخابية حيال إيران، مضيفا أن بلاده أخذت عبرة من مفاوضاتها السابقة حول ملفها النووي، وترى في حل الخلافات مع الولايات المتحدة محطة أساسية ومفصلية لإضفاء الشرعية عليه.
ورأى أن ظريف تعمد “غض البصر عن الجانب الأوروبي” في مقاله بسبب سلوك الترويكا الأوروبية الأخير حيال ملف طهران النووي في مجلس المحافظين، واتهاماتها المتواصلة بشأن الدعم الإيراني العسكري لروسيا، وغض العواصم الأوروبية بصرها عن إيران في علاقاتها الاقتصادية، وتركيزها على الدول العربية المطلة على الضفة الجنوبية للمياه الخليجية، فضلا عن أن الأوروبيين لم يلتزموا بتعهداتهم بالاتفاق النووي عقب انسحاب ترامب منه.
وختم دلفي بالقول إن تجاهل الأوروبيين في مقال ظريف قد يكون مرتبطا بعدم ترحيبهم بمبادرة بزشكيان، حيث سعى لفتح قناة تواصل بينهما على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأم المتحدة، وقد يكون نابعا عن نتائج المباحثات الإيرانية الأوروبية الأسبوع الماضي في جنيف، وتقدير الجانب الإيراني بأن الترويكا الأوروبية غير مستعدة للتعاون والعمل المشترك مع طهران، لا سيما بشأن ملفها النووي.