الرباط- قررت المغربية رحمة البارودي تعلم القراءة والكتابة في عقدها الخامس، فقصدت مسجد الحي، بعد أن كبر أبناؤها، لحضور الدروس الدينية ثم ما لبثت أن جذبتها حلقات النساء وهن يتعلمن الكتابة والقراءة.

قضت رحمة 4 سنوات في المسجد تفك رموز الحروف الأبجدية والأرقام التي طالما بدت لها غامضة وبلا معنى.

واستطاعت بعد التزام وانضباط في حضور الدروس أن تتعلم كتابة الحروف ثم الكلمات والأرقام، وتمكنت بعد سنوات من قراءة الجمل، لكن أفضل ما حصل معها كما تقول للجزيرة نت أنها نجحت في قراءة القرآن الكريم من المصحف بالاعتماد على نفسها.

انتقلت رحمة من المستوى الأول إلى الثاني في دروس محو الأمية، وحصلت على شهادتين تثبتان إنهاء البرنامج التعليمي، وما زالت مواظبة على حضور الدروس الدينية وحفظ القرآن الكريم.

كان مسجد الحي أيضا وجهة أمينة العلمي لتعلم الكتابة والقراءة والحساب، قضت سنة واحدة في التعلم دون استكمال الرحلة. وبقيت، كما تقول للجزيرة نت، مدينة لذلك العام الذي تعلمت فيه تمييز الحروف والأرقام والذي ساعدها في حياتها اليومية.

رحلة رحمة وأمينة في محو الأمية تتشاركانها مع ملايين النساء والرجال من الكبار الذين قرروا ركوب قطار التعليم في سن كبيرة علّهم يستدركون ما فاتهم في مرحلة الطفولة.

مسار طويل

شهد المغرب أول حملة وطنية لمحاربة الأمية مباشرة بعد حصوله على الاستقلال عام 1956 بقيادة الملك الراحل محمد الخامس، استفاد منها مليون شخص، وبعدها بعام أطلقت حملة ثانية شملت نحو مليوني مواطن ثم توالت الحملات والبرامج والإستراتيجيات.

ووفق أول إحصاء رسمي أجري بالمغرب عام 1960، فقد بلغت نسبة الأمية 87% من السكان أي نحو 9 من كل 10 أشخاص، لتنتقل إلى أكثر من 6 من كل 10 في سنة 1982، وإلى 4 من كل 10 في سنة 2004 وإلى 3 من أصل 10 في سنة 2014، أي 32%، ثم إلى 24.8% عام 2024.

وتنوعت البرامج التي أطلقها المغرب خلال العقود الماضية لمحاصرة هذه الظاهرة وإنهائها، بعضها أشرفت عليه وزارة التربية والتعليم وبعضها قطاعات أخرى مثل وزارة الأوقاف ووزارة الفلاحة ووزارة الصناعة التقليدية.

وكان إطلاق برنامج محو الأمية في المساجد عام 2000 خطوة مهمة في هذا المسار. ووفق بيانات وزارة الأوقاف، فقد بلغ العدد الإجمالي للمستفيدين المسجلين في هذا البرنامج منذ إطلاقه إلى سنة 2023 أكثر من 4.5 ملايين مستفيد، منهم مليون و875 ألفا بالقرى.

وفي عام 2013، أنشأت الحكومة الوكالة الوطنية لمحو الأمية بهدف تنسيق الجهود المتعددة في مجال محاربة الأمية، بعد مسار طويل من انتقال تدبير الملف بين قطاعات حكومية عدة.

وبلغ العدد الإجمالي للمسجلين منذ سنة 2014 في مختلف برامج محو الأمية أكثر من 9.1 ملايين مستفيد، 85% منهم من النساء و65% في القرى.

برنامج محو الأمية على التلفاز الذي تشرف عليه وزارة الاوقاف/ مصدر الصورة: سناء القويطي (تم التقاطها من شاشة التلفاز)

موارد ونتائج

وخصصت الحكومة المغربية، في الفترة ما بين 2015 و2023، حوالي 3 مليارات درهم (حوالي 300 مليون دولار) لفائدة الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية، وفق ما كشف عنه التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات (مؤسسة حكومية)، إلا أن الإحصائيات -وفق التقرير نفسه- أظهرت أن نسبة الأمية ما زالت مرتفعة في صفوف الفئات التي تفوق 15 سنة إذ تجاوز عدد الأميين 7 ملايين ونصف في سنة 2024.

وتطرح هذه البيانات أسئلة عن أسباب استمرار الأمية رغم الموارد المرصودة والجهود المبذولة منذ نهاية الخمسينيات إلى اليوم وتأثير ذلك على التنمية في البلاد.

يرى الخبير التربوي ورئيس الجمعية المغربية لتحسين جودة التعليم عبد الناصر الناجي أن ظاهرة الأمية تتغذى على مجموعة من العوامل التي تجعل القضاء عليها صعبا، خاصة في ظل التراكم الذي حدث طوال سنوات لم تكن فيها السياسات العمومية تهتم كثيرا بهذا الموضوع.

ويرى الخبير ذاته أنه “كلما حدث تقدم اعتبر غير كاف لأن النسبة الإجمالية للأمية في صفوف من هم فوق 15 سنة تظل أكثر من الربع وهو رقم مرتفع”.

ويؤكد خالد الصمدي، عضو الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية سابقا ومستشار رئيس الحكومة السابق في التعليم، أن إنشاء هذه الوكالة وجعلها مؤسسة تابعة لرئاسة الحكومة كان تحولا نوعيا في مسار محاربة الأمية.

ويقول الصمدي للجزيرة نت “كانت الجهود مشتتة، فجاءت فكرة تجميعها تحت سلطة واحدة وببرامج موحدة ضمن الوكالة، ووضعت الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الأمية في أفق 2035”.

ويوضح الصمدي أن الوكالة عوض أن تمارس صلاحياتها القانونية والتشريعية والمالية والتدبيرية، أصبحت تقوم بمهام التنسيق فقط بين القطاعات الوزارية التي ظلت تشتغل على محاربة الأمية بالمنهجية والبرامج ذاتها والأسلوب ذاته، ولم تستطع هذه المؤسسة الجديدة معالجة الإشكالات الحقيقية.

بدوره، أشاد الناجي بإحداث هذه الوكالة وعدّها خطوة مهمة، إلا أنه يرى أن ضعف الانسجام بين المتدخلين يؤدي إلى تبديد بعض الجهود أثناء المرور من التخطيط إلى التنفيذ.

تفسيرات

ومن الأسباب الأخرى التي يراها خالد الصمدي مسؤولة عن هذا الوضع ما يتعلق بالجهات المشرفة على تنفيذ برامج محو الأمية. ويشير إلى أن المؤسسات الحكومية غالبا ما تتعاقد مع جمعيات مدنية لا تتوفر على تكوين إداري وتواصلي وبيداغوجي وتربوي يؤهلها للاشتغال في هذا الميدان.

ويقول إن برامج محو الأمية “تستند من الناحية البيداغوجية على برامج تعليم الكبار وهذا تخصص مختلف، فلا يمكن تعليم مواطنين في الأربعين والخمسين من عمرهم في مدارس مجهزة لتعليم الصغار وبعاملين لا يتوفرون على تكوين خاص للتعامل مع هذه الفئة”.

ويضيف أن العدة البيداغوجية والتربوية الموجهة لهذه الفئة ينبغي أن تزاوج بين الجانب البيداغوجي التربوي العلمي والجانب التكويني المهني، لذلك يرى أن نجاح برامج الأمية في المساجد يرجع إلى ربطها محو الأمية بالتفقه في الدين وحفظ القرآن، فكان الحافز مهما للإقبال عليها.

يؤكد الناجي أيضا أهمية الربط بين برامج محو الأمية والمنفعة التي سيجنيها منها المستفيدون في حياتهم الشخصية والمهنية، لأنه في غياب هذا الربط تفقد البرامج الموضوعة القدرة التحفيزية التي تساعد على انخراط عدد أكبر من الأميين، وفق قوله.

ويشير المتحدث إلى العامل البنيوي الذي يعدّه الأخطر في نظره، والذي يتمثل في ضعف المنظومة التربوية التي من جهة لا تنجح في إكساب كثير من المتعلمين المهارات الأساسية اللازمة إلى درجة اعتبار بعضهم شبه أميين حتى بعد إنهاء مرحلة التعليم الإلزامي، ومن جهة أخرى يغادرها سنويا أكثر من 300 ألف متعلم من دون إتمام التعليم الإلزامي.

ويضيف “في كلتا الحالتين، نحن أمام وضع يفضي إلى الارتداد إلى الأمية إن عاجلا أو آجلا خاصة أن أكثر من نصف هؤلاء لا يستفيدون من برامج التربية غير النظامية كما أنهم لا يستفيدون من برامج محو الأمية لأننا نفترض أنهم غير أميين”.

الظاهرة نفسها، أي الارتداد نحو الأمية، يحذر منها خالد الصمدي ويشير إلى أن العديد من كبار السن استفادوا من برامج محو الأمية لمدة معينة وتعلموا قراءة الحروف والأرقام لكن بسبب غياب المواكبة والتتبع عادوا إلى وضعهم السابق، وذلك يفسر برأيه “تسجيل أرقام متقدمة في بعض السنوات، والثبات عليها، كأننا في المكان نفسه”.

الأولويات والحلول

وصار من اللازم منح الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية كل الصلاحيات للإشراف على الملف، حسب خالد الصمدي، وتوفير التكوين والاستقرار الوظيفي للعاملين في هذا المجال.

كما يؤكد المتخصص بالمجال أهمية البحث العلمي في تسريع إنهاء الأمية القرائية، وفي نظره فإن التشخيص السوسيولوجي من طرف فرق البحث في الجامعات يوفر الحاجات الحقيقية وفق الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية لكل منطقة، ويضيف “على الجامعات أن تنخرط حتى تكون عملية التقييم والاستشراف مبنية على أساس علمي منطقي وليست فقط انطباعات”.

من جهته، يرى عبد الناصر الناجي أن التنمية اليوم تتطلب موارد بشرية مؤهلة قادرة على الابتكار وليس فقط تعلم القراءة والكتابة، ويلفت إلى أن تعريف الأمية نفسه أصبح محل تساؤل ولم تعد تعني فقط الأمية الأبجدية بل أصبحت تعني عدم التوفر على المؤهلات الضرورية لمواجهة التحديات التنموية والحضارية.

لذلك يشدد على أن الأولوية في بلد مثل المغرب لم تعد هي محو الأمية “بل بناء نظام تعليمي قادر على تأهيل العنصر البشري لمواجهة تحديات المستقبل. وإذا نجح في ذلك فإن رهان القضاء على الأمية بمعناها الشامل سيصبح سهل المنال”، وفق تعبيره.

شاركها.
Exit mobile version