بيزنس الثلاثاء 10:26 م



يوم أدار حنظلة ظهره لماجد فرج

على جدار في أحد أزقة مخيم الدهيشة جنوب غربي بيت لحم، يدير حنظلة ظهره للعالم، متوسطًا عددًا من عبارات الغرافيتي الثائرة، أشهرها مقولة غسّان كنفاني: “لا تمت قبل أن تكون ندًّا”.

اعتاد الرجل الستيني الذي اختار لنفسه مصيرًا مخالفًا لنصيحة كنفاني، أن يمرَّ من أمام حنظلة هذا مرّة كل أسبوع وهو يدير له ظهره.

ولربّما في واحدة من زيارات المخيم، نظر الرجل الذي صار رئيسًا لجهاز المخابرات الفلسطينية وأحد أقوى المرشّحين لخلافة رئيس السلطة الفلسطينية، إلى جدار المخيم هذا، وأطال النظر، حتى رأى شخصيّة أخرى له كانت ثائرة، تعود إلى أيّام الصبا والشباب، وراح يتذكّر…

من المهد إلى السجن

كانت ليلةً باردةً أخرى في مخيم الدهيشة، يتكوَّر فيها علي فرج على نفسه؛ ذاك الرجل البسيط المهجر من قرية رأس “أبوعمار” غرب القدس، محاولًا تدفئة داره، التي لا تكاد تصمد أمام غزارة أمطار الشتاء ورياحه العاتية. بعد حينٍ، نوديَ عليٌّ لتبلغه قابلة المخيم بأن زوجته وضعت طفلهما الثاني: ماجد.

كان ذلك في الليلة الأخيرة من فبراير/شباط عام 1963، ولم تعلم القابلة ولا عليّ ولا زوجته أن الوليد الجديد لن يرث من البيت البسيط حال أبيه ولا همومه، ولكن سيشغله تحريك الخيوط التي تغيِّر مصائر البشر وتحدد مآلات مشاريعَ تتصارع وغاياتٍ تُرتَجى.

وما إن بلغ الرابعة من عمره، حتى احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967. في هذا العام، أطلق ماجد عينيه من كُوَّةٍ في جدار البيت؛ فرأى لأول مرة الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح ينتشرون في مخيمه وهم ينادون: “ممنوع التجول حتى إشعار آخر”.

مرّت السنون، وكان فرج في مستهل فتوته الحرجة شأنها شأن أي فتوة تشب عن الطوق في مكان معقد كالمخيم، يلحظُ كيف تخشوشن يداه؛ إذ أصبح عاملًا في الصدف ثم البناء ثم النجارة، وذلك ليساعد أباه في إعالة الأسرة الكبيرة والأم المريضة، حتى إذا ما بلغ الثالثة عشرة من عمره، وجد نفسه واقفًا في صف الفاقدين، يتلقى العزاء في والدته التي أذاب مرض عضال جسدها. دخل الفقد مبكرًا بيت عائلة فرج، ليسلب من ستة أبناء صغار الاجتماع حول دفء الأم التي وصفها ببلاغةٍ المثل الشعبي الدارج في فلسطين “الأم بتلِم”.

في تلك الفتوة وجد ماجد نفسه يعيش الاندفاع نحو الحياة بمزيج من الغضب والقهر من حياة محكومة بالحرمان، ومن الحلم بإمكانية الانفكاك عن بؤس حياة المخيم، لذا شكّلت له نواة العمل الثوري في المخيم حضنًا دافئًا يعوض غياب الأم وضيق الحال، ويمنحه فضاء يستوعب سخطه وغضبه، وروابط يستطيع من خلالها تحقيق ولادة أخرى لذاته سوى الفتى الفقير اليتيم المطحون في العمل وأعباء إعانة أسرته.

هكذا التحق ماجد فرج وهو لا يزال طالبًا في الثانوية العامة، بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي كانت بالتزامن مع انضمامه قد فقدت بالاغتيال عددًا من أبرز قادتها ومنظريها كغسان كنفاني ووديع حداد. وعلى إثر هذا النشاط، سيقتحم جنود الاحتلال البيتَ الذي راقبهم ماجد من كوَّتِه يومًا وينتزعونه من دفء فراشه إلى برد السجن.

الرحيل إلى “أمّ الجماهير”

في صفٍّ طويل من المعتقلين من مختلف أنحاء الضفة الغربية، يقف ماجد مقيد اليدين، ذاهلًا وهو يتلقى اللكمات والضربات من جنديٍّ مفتول العضلات، يلقي كل ما تعلمه من سبابٍ وشتائم بالعربية في وجه ماجد ورفاقه. وخلال عامٍ ونصف، هي المدة التي قضاها فرج في السجن، سيرى الجندي نفسه مرات غير معدودة، وسيسمع صراخه في وجهه ووجوه المعتقلين الآخرين: “أنت حشرة”، قالبًا الراء غينًا لثقلٍ أعجمي في لسانه لا يخطئه سمع الفلسطينيين.

كانت تلك التجربة الأولى لفرج التي يلتقي فيها الجنود الإسرائيليين بشكل مباشر، وستتبعها فيما بعد تجارب كثيرة، غير أن النَّسَق فيها سيكون مختلفًا.

في السجن أنهى ماجد الثانوية العامة، وعاد إلى مخيم الدهيشة ليتخذ قرارًا بتغيير انتمائه السياسي والالتحاق بصفوف حركة فتح. ومع عام 1982، أخذ فرج موقعه ضمن مؤسسي الذراع الطلابي لفتح في المدارس والجامعات، المعروف باسم “الشبيبة”، ثمّ تخرج في جامعة القدس المفتوحة حاملًا شهادة البكالوريوس في الإدارة.

خلال نشاطه في الشبيبة سيلتقي “أمل فرج” التي ستصبح زوجته عام 1985، وترافقه في انتقالاته بعد ذلك بين المشاريع السياسية ومواقع النفوذ والسلطة.

سيعود ماجد خلال عقد الثمانينيات إلى السجن أكثر من خمسة عشر مرة متفرقة، ليبلغ مجموع ما قضاه في السجون الإسرائيلية ست سنوات، ينضم فيها إليه بين حين وآخر واحد أو أكثر من أشقائه، وهو أمر مألوف بالنسبة لكثير من العائلات الفلسطينية.

مع حلول عام 1993 ودخول السلطة الفلسطينية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، ابتدأ مشوار فرج الأطول والأبرز بالانضمام إلى جهاز الأمن الوقائي، وهو ما عنى أنّ ابن مخيم الدهيشة لن يعود إلى السجن الإسرائيلي مرة أخرى.

“المهاجم التائب” بين يدي الأجهزة الأمنية

لإدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني، تعليق لافت يصلح لفهم شخصية فرج، كان قد علّق به على خطاب ياسر عرفات عقب توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن عام 1993، الذي شمّ منه “رائحة انتفاع” بحسب تعبيره، إذ صُوِّر الفلسطينيون أمام العالم أبعد ما يكونون عن ضحايا للصهيونية، وأُظهروا بوصفهم “مهاجمين تائبين”.

هكذا بدا فرج، مهاجمًا تائبًا يحمل مرآة محدَّبةً يرى نفسه والعالم من خلالها، ويحسم بناء عليها مساره في ظل مشروع حاول عرابوه أن يقنعوا الفلسطينيين بأنه ستصبح لهم دولة لها صلاحيات فعلية على أرض الواقع، وأنها “ستديم الكفاح ولكن على أرضية سياسية ملائمة بذهنية مختلفة”، كما وصفها أحمد قريع في كتاباته عن كواليس مفاوضات أوسلو.

مع مرور الزمن سيظل فرج يختار هذه المرآة التي تزداد تحدبًا، ففيما يبدو أن سنة الإنسان وهو ينتقل بين المشاريع المتعارضة، أن يرسل بعضًا مما نشأ عليه إلى قمقمٍ بعيدة ليتمكن من إحراز المغانم دون أن يقض مضجعه تأنيبٌ من مبادئِ ذاتٍ كان عليها يومًا.

استقبل ماجد فرج عقد الثلاثينيات من عمره بالالتحاق بجهاز الأمن الوقائي في مدينة بيت لحم، حاصلًا على ترقيات عدّة خلال وقت زمني قصير، إلى أن تولى عام 2000 قيادة الجهاز في محافظة الخليل، التي تعتبر أكبر محافظات الضفة الغربية وأكثرها تعقيدًا من نواحٍ سياسية واجتماعية، إضافة إلى ثقلها الاقتصادي الكبير، وسيكون لهذه الخبرة لاحقًا أثرٌ في تشكل آليات بسط السلطة لديه في التعامل مع سكّان الضفة الغربية.

لقد قامت عقيدة الأمن الوقائي أسوة ببقية الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة منذ تأسيسها على أن النضال الفلسطيني ضد الاحتلال ليس ردًّا طبيعيًّا في وجه القهر الاستعماري المتغلغل في أدق تفاصيل الحياة الفلسطينية، بل هو تمرّد على هدف “الدولة” المرتجى؛ ولذا لاحقت كل أفعال المقاومة السلمية قبل المسلحة، بما يتناغم مع مزاج المجتمع الدولي وإسرائيل من خلفه.

وفي عام 2002، ستقفز في وجه فرج ذكريات شخصيته الثائرة القادمة من زمن بعيد من المخيم الأحمر (أحد مسميات مخيم الدهيشة نسبة للجبهة الشعبية) حين يصله وهو في مقر جهاز الأمن الوقائي في الخليل خبر استشهاد والده بعشر رصاصات إسرائيلية اخترقت جسده وهو ذاهب يلتمس بعض الحليب والخبز أثناء حظر التجوال الذي فُرِضَ على المخيم خلال عملية “السور الواقي”.

لكن ماجد فرج يُرسل ذكرياته إلى القمقم ويواصل عمله في المؤسسة الأمنية في ركض محموم خلف وعد الدولة. وفي العام ذاته، ستقفز الذكريات ذاتها مرةً أخرى أمام ناظر فرج، وهو يرى كيف أفضت عقيدة التنسيق الأمني للأجهزة الأمنية التي هو جزء منها، إلى اعتقال أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية التي كانت أول حاضنة وطنية له، لكن مجددًا: يرسل فرج هذه الشخصية إلى قمقم، ليستعد بحلول العام التالي لتولي منصبه الجديد مستشارًا لوزير الداخلية حكم بلعاوي، في حكومة اعترض عليها مقاتلو كتائب شهداء الأقصى؛ الجناح العسكري لحركة فتح، حيث كتبوا على الجدران في الضفة الغربية “لا لكرزاي فلسطين”، مشبّهين محمود عباس الذي كان حينها رئيسًا للوزراء، برئيس أفغانستان الذي جاء على ظهر دبّابة أميركية.

أعضاء من حركة فتح الفلسطينية يشتركون في مسيرة بخان يونس تدعو إلى استمرار الانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي (رويترز)

تزامنًا مع كل التعقيدات التي شهدتها الحالة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة إبان الانتفاضة الثانية، عمل فرج على تطوير وتوسيع دائرة علاقاته برجال الأمن في أمريكا وإسرائيل، لتكون سبيله لمزيد من النفوذ في مرحلة ما بعد عرفات التي كانت تلوح في الأفق بعدما قام الأخير على نحوٍ سريٍّ بتمويل كتائب شهداء الأقصى، التي ضمَّت خلال الانتفاضة عددًا كبيرًا من أفراد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهو ما شكّل أرقًا لقيادة السلطة في مرحلة ما بعد عرفات.

لذا بدا من الضرورة بمكان البدء في إعادة تشكيل أفراد هذه الأجهزة تحت مسمى “الإصلاح الأمني”، ومحاربة فصائل المقاومة في الضفة، فكان على رأس هذه المهمة ماجد فرج، أحد اللاعبين الأساسيين في صناعة العقيدة الأمنية الجديدة، وذلك على ضوء ما امتلكه من علاقات على المستوى الأمني مع الإسرائيليين والأمريكان، وتحديدًا مع الجنرال كيث دايتون المنسق الأمني الأميركي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية.

كانت إحدى الأدوات المرجوة لتحالف فرج مع عباس الذي صار رئيسًا للسلطة الفلسطينية بعد مقتل عرفات، هي المجلس التشريعي، فترشح فرج للانتخابات عام 2006، لكن المفاجأة كانت بفوز قائمة حركة حماس فوزًا كاسحًا في الانتخابات؛ مما دفع محمود عباس إلى تعيين ماجد فرج رئيسًا لجهاز الاستخبارات العسكرية، ليواصل من موقعه متابعة تنفيذ الخطة الأمنية الأميركية التي كانت ترتكز بشكل أكثر تكثيفًا على إعادة التشكيل السياسي للأجهزة الأمنية بما يقيد حماس وذراعها العسكري، وتحجيم نفوذ المسلحين التابعين لفتح خصوصًا في مدينتي نابلس وجنين.

ملك المخابرات العامة

عام 2009، كان فرج على موعد مع تولي المنصب الذي سيعمق نفوذه أكثر على حساب بقية منافسيه السياسيين، حين أصدر عباس قرارًا بتعيينه رئيسًا لجهاز المخابرات الفلسطينية، وهو أقدم جهاز أمني فلسطيني من حيث التأسيس، إذ تعود نواته إلى ستينيات القرن الماضي، وكان الجهاز الأمني في حركة فتح ينقسم إلى الأمن الموحد والأمن المركزي، اللذين قرّر ياسر عرفات دمجهما عقب أوسلو ليكوِّنا جهاز المخابرات العامة.

حمل فرج خبرته وشيئًا من درس “المهاجم التائب”، وأخذ عبر مناصبه المختلفة التي استقرّت عند قيادة جهاز المخابرات، ينقلهما عقيدة أمنية عبر برامج أمريكية بموافقة إسرائيلية. وقد شكلت فترة ما بعد 2009 حقبة ذهبية لتعاون فرج ودايتون في بناء “رجل الأمن الجديد”، الذي تمت برمجته على أن مهمته هي المحافظة على النظام وإنفاذ سيادة القانون وعدم مواجهة “إسرائيل” ومحاربة من يحارب “إسرائيل” ومصادرة كل سلاح خارج سلاح الأجهزة الأمنية، وهو ما عنى في نهاية المطاف إصابة البنى الاجتماعية والاقتصادية لسكّان الضفة بالشلل.

هكذا ترك الناس دون أدوات تمكّنهم من تنظيم أنفسهم لمواجهة شبح المستوطنات الذي يحوم حولهم، وذلك بعد أن أنشأ ماجد فرج ومن معه “دولة بوليسية في الضفة الغربية”، بحسب تعبير “أوراق فلسطين – Palestine Papers”، وقد برز اسم الرجل لأول مرة متهمًا بالضلوع في عمليات تعذيب لفلسطينيين، حسب ما ذكرته المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا، إذ كان مسؤولًا عن الانتهاكات المتعلقة بالاحتجاز التعسفي والتعذيب المنهجي.

ولربّما، كانت حادثة التعذيب الأبرز بعد أن اتخذ محمود عباس قرارًا بإجراء الانتخابات العامة عام 2021، إذ سلَّ فرج سيفه في وجه المعارضين، فيما بدا واضحًا أنه قرارٌ بكبت أي تشكل واعٍ لمعارضة جادة في الضفة الغربية لاستفراد فتح بالحكم. فحين تقدم المعارض الفلسطيني الأبرز نزار بنات لترشيح نفسه للمجلس التشريعي، أقدمت عناصر من قوات الأمن الوقائي وجهاز المخابرات العام في 24 يونيو/حزيران على اقتحام المنزل الذي يوجد فيه وضربه بالهراوات بشكل مبرح؛ مما أدى إلى موته. ثم أتبعت الأجهزة الأمنية اغتياله بممارسات قمعية عنيفة ضد الفلسطينيين الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين بتحقيق العدالة لبنات ومحاسبة قتلته.

هكذا، راكم ماجد فرج خلال العقد الماضي، رصيدًا سيجعل اسمه يتصدر المشهد الأمني مقابل أفول أسماء كبرى، مثل جبريل الرجوب الذي وُلِّيَ شؤون الشباب والرياضة، وأحاله عباس لاحقًا إلى التقاعد مانحًا إياه رتبة فريق. وفي موازاة ذلك، عمل عباس على تقريب فرج منه، عندما أبقاه في منصبه رئيسًا لجهاز المخابرات رغم انتهاء ولايته منذ عام 2013، إلى أن أصدر مرسومًا رئاسيًّا مطلع عام 2023 يمنح ماجد فرج درجة وزير، ويبقيه في رئاسة المخابرات دون سقف زمني لنهاية ترؤّسه للجهاز.

وبينما عنى هذا كلّه مزيدًا من السلطة والنفوذ لماجد فرج، عنى كذلك درجة متقدمة في السباق المحموم نحو خلافة محمود عباس.

العودة إلى الجامعة على كبر

اندلعت “هبة القدس” عام 2015، بعد أن فجرها الطالبان في جامعة القدس ضياء التلاحمة ومهند الحلبي، وقد صاحبها دورٌ طليعيّ لطلبة الجامعات، محاولين إيجاد رافعة للفعل النضالي بعدما بدا أن الضفّة لن تشهد مقاومة بعد الانتفاضة الثانية.

شعر فرج باهتزاز في صورة جهازه الأمني، فعمد إلى شن حملة لملاحقة الفاعلين من طلبة الجامعات، بمن فيهم أولئك الذين يقومون بأعمال خدماتية لا تحمل أي طابع سياسي، سواء بتهديدهم وتهديد أهاليهم بالاعتقال أو باستدعائهم إلى المقرات الأمنية أو بمطاردتهم واعتقالهم أو بتحويل تقارير عنهم إلى مخابرات الاحتلال، وهو ما يطلق عليه الفلسطينيون “سياسة الباب الدوار”.

في مطلع عام 2016 نشرت هآرتس الإسرائيلية مقالًا يتفاخر فيه فرج بقدرة جهازه على إحباط أعمال المقاومة في الضفة الغربية، وأنه تمكن من منع حدوث مئتي هجوم ضد إسرائيل في الضفة، وهو تصريح أتى بعد حوالي ثلاثة أشهر من اندلاع “هبة القدس”.

لم يُنْسِ شيب الشعر فرج عهده حين كان مؤسسًا وقائدًا “للشبيبة”، وهي خبرة في مجتمع الجامعات وظّفها في ملاحقة الأذرع الطلابية، وضخ الميزانيات والامتيازات لكوادر محسوبة على حركته داخل الجامعات، ستشكل خزانًا بشريًّا ومعلوماتيًّا لجهاز المخابرات في تتبع أدق التفاصيل داخل الجامعات ودفن أي فعل سياسي ومقاوم في مهده.

المُنقذ من “التهميش”

في الحقبة نفسها، أدّى فرج أدوارًا هامةً على مستوى السياسة الخارجية الفلسطينية، حيث كان على رأس البعثة الفلسطينية الأولى التي زارت الولايات المتحدة الأمريكية عقب تولي دونالد ترامب الرئاسة، في وقتٍ كانت فيه السلطة الفلسطينية تخشى من احتمالات التهميش من قبل إدارة ترامب.

وقد أوردت صحيفة تايمز أوف إسرائيل مطلع فبراير/شباط 2017، أن محمود عباس حاول بطرق مختلفة التواصل مع إدارة ترامب طلبًا للقاء الأخير، دون تلقي أيِّ رد. وفي هذا المأزق مع الإدارة الأمريكية، كان فرج المُنْقِذَ، حيث توجه رفقة وفد فلسطيني إلى واشنطن وعقد اجتماعات عدة مع عدد من المسؤولين الأمنيين الأمريكيين الرفيعي المستوى.

عقب هذه الزيارة بفترة قصيرة، صرّح ترامب خلال زيارة عباس له في البيت الأبيض قائلًا: “أُشيد أيضًا باستمرار التنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية مع إسرائيل. إنهم يتعاونون بشكل لا يُصدق. حضرت اجتماعات، وفي هذه الاجتماعات شعرت بالفعل بالانبهار والدهشة من مدى جودة تعاونهم. إنهم يعملون معًا بشكل رائع”.

ومن المعروف أن فرج هو المسؤول المباشر عن كافة عمليات التنسيق الأمني مع الشاباك والسي آي أيه (CIA)، علاوةً على أجهزة المخابرات العربية والأوروبية. من ذلك مثلًا، لقاء ماجد فرج بالجنرال الأمريكي مايكل فينزل في قمة العقبة، التي عقدت في النصف الأول من عام 2023، وقد طرح الحليف الأمريكي على فرج خطةَ تدريب لرجال أمن فلسطينيين يختصون بالقتال ضد مجموعات المقاومة في شمال الضفة الغربية.

لماذا لم يأت “اليوم التالي”؟!

وعلى الرغم من أن السيطرة على حماس وشلِّ جناحها العسكري في الضفة، كانا من مشاريع فرج الأمنية الأساسية التي تعاون فيها مع دايتون، فإن اسمه كان حاضرًا بقوة في حوارات المصالحة التي دارت بين السلطة وحماس. ففي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2017، رافق فرج رئيس الوزراء آنذاك رامي الحمدلله في أول اجتماع لحكومة الحمدلله في قلب غزة، وهو اجتماع جاء في إطار مساعٍ مشتركة بين فتح وحماس لمحاولة رأب الصدع الفلسطيني والتقدم في إنجاز المصالحة.

وفي نهاية العام نفسه، ستلتقط وسائل الإعلام صورة لماجد فرج مع يحيى السنوار، لتشكل مفارقة عجيبة لمآل رجلين قادمين من المخيمات، لكن لكل منهما مرآته الخاصة التي يرى ويخاطب بها نفسه والعالم.

منذ ذلك الوقت، وحتى تاريخ كتابة هذا المقال كان قطاع غزة بالنسبة لفرج معضلة أمنية بذل في سبيل حلها وضمها إلى مشروعه، كافة السبل.

تقول حركة حماس إن ماجد فرج حاول أن يشي بالحركة لدى النظام المصري بأن الحركة ضالعة في التوترات التي اندلعت في تلك الفترة في سيناء، في محاولة لتعميق الهوة بين حماس ومصر. إضافة إلى اتهامه إياها بتدبير محاولة اغتيال له وللحمدلله، وقد نفت حماس ذلك وقالت إن المحاولة كانت بتدبير من ضباط مخابرات مقربين من فرج في رام الله.

ورغم إرهاصات تزعزع الوضع الأمني في الضفة الغربية، فإن هذا لم يشتت بصر فرج عن غزة، الجيب الساحلي الذي كانت قوته المسلحة تتنامى مع مرور الوقت.

لذا، وقبل عدة أشهر، أعلنت حركة حماس في خضم معركة “طوفان الأقصى”، أنه قد ألقي القبض على قوة أمنية تشكلت في غزة بإيعاز من ماجد فرج، في محاولةٍ لبسط سيطرته على القطاع والترتيب لـ”اليوم التالي”، وذلك بعد أن رشّحه مسؤولون إسرائيليون لذلك. فبحسب “موقع i24” الإسرائيلي، فإن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت قد رشح ماجد فرج ليكون قطاع غزة تحت سلطته في اليوم التالي لحماس في غزة، واتفق معه في هذا زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد الذي قال في مقابلة مع “كان” الإسرائيلية: “من الطبيعي ذكر اسم فرج، فهو في السلطة الفلسطينية أحد أكثر الشخصيات التي عملت معنا ضد حماس”.

وفي تفاصيل الحادثة، قالت وزارة الداخلية في غزة إن خطة فرج للسيطرة كان يراد لها أن تسير عبر ثلاث مراحل: الأولى؛ المساعدات الإنسانية، والثانية؛ العلاقة مع العشائر، والأخيرة؛ متعلقة بالأمن الشامل في القطاع. كما أشارت إلى أن الخطوة الأولى كانت تجنيد عشر مجموعات بواقع أربعة أشخاص في كل مجموعة، يدخلون مع عشر شاحنات للمساعدات عبر معبر رفح.

وحسبما قالت القناة 14 الإسرائيلية، فإن فرج قد اختار لهذه المهمة عائلات معارضة لحماس ليعتمد عليها في تشكيل فرقه الأمنية، وقد جاء ذلك على ضوء لقاء جمعه مع رئيس مجلس الأمن الإسرائيلي تساحي هنغبي بموافقة نتنياهو.

وبناء على مصادر خاصة للجزيرة نت، فإنه قد اتُّفق على أن تتخذ القوة الأمنية من مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر مقرًّا لها. وأفادت المصادر، أنه قد جرى بالفعل تكليف فرج بهذه المهمة، وطرحت مئات الأسماء لأشخاص يمكن التعاون معهم لتثبيت عمل هذه القوة في غزة، على اعتبار أنها ستتولى زمام الأمور بعد انتهاء الحرب. هذا فضلًا عن القوة التي شُكلِّت بهدف جمع معلومات عن مستشفى الشفاء قبل أسبوعين من اقتحام الجيش الإسرائيلي له، غير أن اكتشافها حال دون إتمامها مهامها، كما سيحول لاحقًا دون أن تحقق إسرائيل آمالها بأن يكون فرج صاحب السلطة في غزة في “اليوم التالي” للحرب.

فَرَج “المقاتل”

لم يؤدّ ماجد فرج دورًا جوهريًّا في التنسيق والعمل الأمني فحسب، بل أيضًا في تغريب الفعل المقاوم عن المجتمع الفلسطيني ومحاولة تفكيك الحاضنة من حوله، من خلال الهراوة والخطاب كذلك. فمثلًا خلال حملة “حماية وطن” التي شنتها الأجهزة الأمنية ضد المقاومة في مخيم جنين أواخر عام 2024، التقى فرج بوجوه عشائرية من مختلف أنحاء الضفة الغربية، وخاطبهم قائلًا: “نحن جميعًا عجزنا عن حماية غزة من أجل أجندة غير فلسطينية، لا يوجد فلسطيني يبيد شعبه من أجل أن يكون قائدًا، القائد يموت من أجل شعبه مثل ما يفعل أبناء الأجهزة الأمنية على الأقل في الأيام الأخيرة”، وأضاف: “نحن لسنا ضد جنين، لسنا ضد المخيم، هذا المخيم أيقونة، ولكن ليس المخيم وهو مخطوف”.

حاول فرج أن يحمِّل حماس مسؤولية الإبادة في غزة، وأن يشرعن العملية الأمنية في شمال الضفة الغربية ضد المقاومين هناك، وأن يكسب إلى صفه “العشائر”؛ أحد أكثر المكونات الاجتماعية تأثيرًا في السياق الاجتماعي الفلسطيني، وأن يحصل بذلك على مزيد من الدعم والتسليم بصوابية ما يفعل، خصوصًا لدى استعراض الخطة الأمنية على أنها حماية للفلسطينيين.

يتحاشى فرج الظهور في مقابلات إعلامية، غير أنه في عام 2016 وافق على مقابلة موسعة مع “The Defense News” الأمريكية، وصف فيها نفسه خلال مسيرته في التنسيق الأمني مع إسرائيل بأنه “مقاتل”.

“لقد قاتلنا لعقود بطرق مختلفة؛ والآن نحن نقاتل من أجل السلام… لذا سأواصل القتال للحفاظ على هذا الجسر ضد التطرف والعنف الذي ينبغي أن يقودنا إلى استقلالنا”، يقول فرج في المقابلة الآنفة الذكر. يعلق الموقع على هذا التصريح تحديدًا، بأن ماجد فرج سيظل يقاتل على طريقته للحفاظ على الجسر “ما دام مقتنعًا بأنه ليس جسرًا إلى اللامكان”.

يقول فرج في المقابلة ذاتها: “نشعر أننا عاجزون عندما يغزو الإسرائيليون المناطق التي نعيش فيها… ماذا يمكنني أن أقول لضباطي وللناس الذين يفترض بنا حمايتهم؟”. لن يقول لهم شيئًا، بل سيستمرّ في توجيه هراواته ناحيتهم، وسيظل يؤمن بمشروع التفاوض مع إسرائيل لتحقيق رؤيته “الدولة الواحدة، السلاح الواحد”، ولذلك فإن ملاحقة الجهاز الذي يرأسه للمقاومين، تشكل قربانًا لاستمرار هذه العملية التي تبدو في هذه المرحلة بالتحديد من تاريخ القضية الفلسطينية فيلًا ميتًا!

وأنّى له الذكرى؟

عاد الرجل الستيني من شروده في الذكرى القديمة والمسيرة المستمرّة، التي قذفها في نفسه حنظلة من الجدار.. نظر إلى نفسه، وتذكّر أنه في منصبٍ لا يسمح فيه لأحد بأن يتكلّم معه إلا وجهًا لوجه، لكن حنظلة بقي مُديرًا ظهره…

البداية
المقدمة

جبريل الرجوب.. وقائع استبدال البزة العسكرية بشورت رياضي

رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم جبريل الرجوب، رئيس اللجنة الأولمبية الفلسطينية، خلال دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024. (وكالة الصحافة الفرنسية)
في ذروة المشاحنات السياسية بين حركتي فتح وحماس، يقول المطلعون عن قرب إن “أبو رامي” اعتاد أن يحمل معه أكياس الزعتر والميرمية وزجاجات زيت الزيتون خلال رحلاته لمقابلة الشيخ صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في جميع اللقاءات التي جمعتهما ضمن مساعي التوصل إلى اتفاق مصالحة لم يبصر النور حتى الآن.
جبريل الرجوب أو “أبو رامي” كما يُكنى، صاحب الملامح الحادة والصوت الأجش، المتجرد في لقاءاته العلنية والمغلقة من ضوابط المنصب والدبلوماسية، المتحدث باللهجة الفلسطينية العامية، بصراحة ودون أي مواربة أو مداهنة في أي من المواضيع، يراه الفتحاويون قائدًا مقربًا إلى صفوف القاعدة بخطابه الشعبوي، ويعرفه خصومه كشخصية لا تخشى المواجهة، وهو مَن فتح نيرانه على الجميع، من العواصم العربية إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا”، وهو في ذات الوقت القادر على تصفير المشاكل، والحفاظ على حضوره ونفوذه في كل مكان، فالجنرال الذي يدير معركته من قلب المستطيل الأخضر اليوم، ليس رقمًا عابرًا في معادلة المشهد السياسي الفلسطيني.

طفولة صهرتها السجون

ولد جبريل محمود الرجوب في بلدة دورا الخليل يوم 14 مايو/أيار 1953، وفيها أمضى سنوات طفولته التي اصطدمت بواقع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في الأشهر الأولى التي أعقبت نكسة يونيو/حزيران، حيث اعتقل عام 1968 وهو في سن 15، بشبهة مساعدة ضباط مصريين من بقايا الجيش المصري في فلسطين، وأمضى إثر هذه التهمة 4 أشهر في السجون الإسرائيلية.

كان السجن أولى محطات لقاء الطفل الرجوب مع حركة فتح، إذ تعرف هناك على القائد الفتحاوي “أبو علي شاهين” الذي ساهم في انضمامه إلى الحركة التي كانت تعمل سرًا في الضفة الغربية، وفور إطلاق سراحه صار جبريل الرجوب أحد كوادر فتح في الخليل، وعمل ميدانيًا في تقديم المساعدة اللوجستية للخلايا والمقاتلين.

بعد عامين على إطلاق سراحه، عاد الرجوب عودته الأطول إلى السجون، بعد اعتقاله في سبتمبر/أيلول 1970 خلال تنفيذه عملية استهداف حافلة للجيش الإسرائيلي بقنبلة يدوية، وأدين من قبل المحكمة الإسرائيلية بعدة تهم، حكم عليه إثرها بالسجن مدى الحياة، لتبدأ خلف أسوار السجون، الرحلةُ التي ستصقل شخصية الرجوب وتغيّر مسارها إلى الأبد.

في سجون الاحتلال التي تنقّل الرجوب بين معظمها، تعلم اللغة العبرية وأتقنها بطلاقة، وتوّجها بترجمة كتاب “ثورة” لمناحيم بيغين، وشارك في الإضرابات عن الطعام وموجات العصيان والاشتباكات مع مصلحة السجون، والتي كانت تندلع للمطالبة بتحسين أوضاع الأسرى وانتزاع حقوقهم الآدمية.

تحرر جبريل الرجوب من سجون الاحتلال إثر صفقة التبادل التي أجرتها الجبهة الشعبية-القيادة العامة في مايو/أيار 1985 رفقة أكثر من 1100 أسير فلسطيني وعربي مقابل إطلاق سراح 3 جنود أسرى في لبنان، لكنه سرعان ما عاد إلى السجن مجددًا بعد أقل من 6 شهور على إطلاق سراحه.

تعرض جبريل الرجوب للاعتقال ثلاث مرات متتالية في سجون الاحتلال بسبب نشاطه الدائم على الأرض، وخلال هذه الاعتقالات خاض إضرابات فردية عن الطعام وتنقل بين السجون وزنازين العزل الانفرادي، إلى أن قررت سلطات الاحتلال إبعاده

إلى لبنان في يناير/كانون الثاني 1988، بعد شهر واحد من اندلاع الانتفاضة الأولى.

كان الإبعاد خارج فلسطين، المحطة التي ستنقل الرجوب للصعود في المراتب القيادية لحركة فتح، إذ انتقل إلى تونس، وعمل تحت إمرة خليل الوزير “أبو جهاد” الرجل الثاني في الحركة، وبعد اغتياله، أصبح جبريل الرجوب، من المقربين لرئيس منظمة التحرير وقائد حركة فتح، ياسر عرفات، الذي عينه مساعدًا له لشؤون الأرض المحتلة عام 1988، ثم تولى منصب أمين سر لجنة الضفة في جهاز الأرض المحتلة حتى عام 1994.

بعد توقيع اتفاق أوسلو، وعودة قوات منظمة التحرير إلى غزة والضفة، وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، عاد الرجوب ضمن قوافل العائدين، وتولى في الضفة قيادة جهاز الأمن الوقائي، الذي كان أحد المحطات المفصلية في سيرته وتاريخه

العشرية السوداء.. سنوات الصدام مع الجميع

بقيادة العقيدين جبريل الرجوب في الضفة الغربية، ومحمد دحلان في قطاع غزة، واللواء مصباح صقر -الذي اصطدم بعرفات ولم يستمر طويلًا في منصبه- تحوّل جهاز الأمن الوقائي إلى يد السلطة الضاربة ضد خصومها السياسيين في الداخل.

كان الأمن الوقائي رأس حربة الحملة الأمنية التي شنتها السلطة الفلسطينية ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي عام 1996، والتي جرى خلالها اعتقال المئات من قادة وكوادر الحركتين، ضمن التزام السلطة الفلسطينية بتطبيق اتفاق أوسلو، وكبح العمليات التفجيرية داخل العمق الإسرائيلي.

كان الأمن الوقائي بجناحيه الرجوب ودحلان، في عين عاصفة الصراع المباشر مع حركة حماس، التي اتهمت الجهاز بممارسة التعذيب والتصفية الجسدية ضد كوادرها، وتعدى ذلك إلى إصدار بيانات مباشرة تتهم الرجوب بتسليم “خلية صوريف” التابعة لكتائب القسام إلى الجانب الإسرائيلي عام 1997، واغتيال القيادي في الكتائب محيي الدين الشريف عام 1998 تحت التعذيب في سجون الأمن الوقائي، وهي الاتهامات التي ردت عليها السلطة الفلسطينية بروايات مضادة في حينه، ودأب الرجوب شخصيًا على نفيها.

مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وانفلات عقال المواجهة مع “إسرائيل” واستعادة حماس والجهاد الإسلامي لحضورهما العسكري، وإطلاق سراح المعتقلين في سجون السلطة، خاض الرجوب مواجهات شرسة مع الجميع، ابتداءً بالرئيس ياسر عرفات، وصولًا إلى حماس والجهاد الإسلامي مجددًا. وكان الرجل كما أظهرت تسجيلات صوتية منسوبة له، يرى أنه مستهدف من الجميع.

في أبريل/نيسان 2002، وفي ذروة الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية في عملية “السور الواقي”، اقتحم الجيش الإسرائيلي سجن بيتونيا التابع لجهاز الأمن الوقائي، واعتقل عددًا من كوادر كتائب القسام المحتجزين داخله، وهو ما اعتبرته حماس في حينه “تسليما مباشرا”، وفقًا لشهادة عدد من عناصرها، من بينهم سليم حجة الذي اعتقل من داخل السجن، بينما أبدى الرجوب حينها استعداده للمثول أمام لجنة تحقيق مستقلة، موزعًا الاتهامات على جميع أركان السلطة الفلسطينية وفي مقدمتهم الرئيس ياسر عرفات. وقد انتشر في حينه بين الفلسطينيين تسجيل صوتي لمكالمة يقال إنها بين الرجوب والقيادي في حركة حماس عبد العزيز الرنتيسي، دارت حول تفاصيل ما جرى في بيتونيا، وقد ظهر الرجوب حينها متمسكًا برفضه أي اتهام له “بتسليم المعتقلين”، مشددًا على موقفه الوطني الذي لا يقبل الطعن أو التشكيك فيه.

بحلول عام 2003، شهدت الضفة الغربية عددًا من الحوادث المفصلية التي تزامنت مع حصار الرئيس ياسر عرفات في مقر المقاطعة، منها اقتحام مئات الفلسطينيين لسجن الأمن الوقائي في الخليل وتحرير 17 معتقلًا من قيادات وكوادر حماس والجهاد الإسلامي، واقتحام محكمة جنين التي يحرسها الأمن الوقائي، وقتل 3 من المتهمين بالتعاون مع الاحتلال خلال جلسات محاكمتهم. كانت هذه الأحداث القطرة التي أفاضت كأس العلاقة المتدهورة بين عرفات والرجوب، وانتهت بمرسوم يعلن إقالته من منصبه في قيادة الجهاز في يوليو/تموز 2002، وتعيينه محافظًا لمدينة جنين.

لم يكن قرار إقالة الرجوب في حينه عابرًا، فالرجل الذي قاد الجهاز طوال سنوات، بعقلية الأخ الأكبر أو الأب إن شئت، كان قد صنع له ولاءً واسعًا في صفوف ضباط وقيادة الجهاز، الذين أعلن المئات منهم نيتهم الاستقالة احتجاجًا على إقالة الرجوب، ومنَع آخرون خلَفَه العميد زهير مناصرة من دخول المقر الرئيسي للجهاز، في حين اختار وفد من ضباط الأمن الوقائي التوجه إلى مقر المقاطعة لمقابلة الرئيس المحاصر ياسر عرفات، للإعراب عن رفضهم إقالة قائدهم الرجوب.

اختار الرجوب تجنب الصدام مع عرفات في حينه، وخرج في تصريحات صحفية بعد لقاء استمر ساعتين مع الرئيس أبو عمار، ليعلن أنه يقبل القرار الذي وصفه “بالمقدس ولا يقبل النقاش”، مؤكدًا أنه لن يسمح لأي ضابط في الوقائي بالتمرد على قرار عرفات.

بعد عام من إقالته، أصدر عرفات مرسومًا رئاسيًا بتعيين العقيد جبريل الرجوب في منصب مستشار الرئيس للأمن القومي، وترقيته إلى رتبة عميد في أغسطس/آب 2003، وقد جاء هذا القرار في أوج المواجهة على الصلاحيات بين عرفات ورئيس الوزراء الأول في تاريخ السلطة، محمود عباس.

عقب وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وفوز محمود عباس بالرئاسة مرشحًا عن حركة فتح، قدم الرجوب في يناير/كانون الثاني 2005 استقالته من منصبه، قائلًا في نص بيان الاستقالة التي قدمها لعباس إنها تأتي “لتكون لكم فرصة كاملة متاحة لتعيين مستشاريكم الذين تتوسمون فيهم القدرة والنفاذ”، مقدمًا مجموعة من التوصيات للرئيس الجديد حول ضبط الحالة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

شهدت الأشهر الأولى من عهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، موجة انفلات أمني واسعة في الضفة الغربية، نتيجة قراراته بحل كتائب شهداء الأقصى وإبعاد المطاردين من داخل مقر المقاطعة، وإجراء إعادة هيكلة كاملة لقيادات الأجهزة الأمنية. وخلال هذه الفترة وقعت مواجهات مسلحة عنيفة طالت مقر الرئاسة في المقاطعة، وتسببت في إقالة عدد من قادة الأجهزة الأمنية، بينهم قائد قوات الأمن الوطني في رام الله، يونس العاص، وقائد قوات الأمن الوطني الحاج إسماعيل جبر في غزة والضفة، الذي خاض ملاسنات حادة مع الرجوب في حينه.

في أكتوبر/تشرين الأول 2005 أصدر الرئيس عباس مراسيم رئاسية متتالية، بترقية العميد جبريل الرجوب إلى رتبة لواء، وتشكيل مجلس الأمن القومي الفلسطيني، الذي انضم إليه الرجوب بصفته “مقررًا”، إلى جانب قيادات الصف الأول سياسيًا وأمنيا في السلطة الفلسطينية ومن بينهم محمد دحلان، ووزير الداخلية نصر يوسف، وأحمد شنيورة، وناصر القدوة وسلام فياض والطيب عبد الرحيم وصائب عريقات وأحمد قريع.

استمر اللواء جبريل الرجوب في منصبه مستشارًا للأمن القومي حتى يناير/كانون الثاني 2006، حيث تقدم باستقالته من المنصب في حينه، للترشح ضمن قوائم حركة فتح للانتخابات التشريعية، وهي الانتخابات التي خسر فيها الرجوب فرصة دخول المجلس، وخسرتها حركته فتح بشكل قاسٍ أمام حركة حماس التي اكتسحت البرلمان الفلسطيني وشكلت الحكومة برئاسة إسماعيل هنية.

بعد الانتخابات التشريعية، قال الرجوب إنه يعكف على مواصلة دراسته الجامعية في كلية الدراسات العليا بجامعة القدس، وإنه رفض كل العروض التي قدمها له الرئيس عباس لتولي مناصب أمنية في السلطة الفلسطينية، رافضًا التعليق في حينه على تعيين غريمه محمد دحلان خلفًا له في منصب مستشار الأمن القومي، لكنه لم ينقطع في اللقاءات الإعلامية عن تصريحاته شديدة اللهجة ضد خصومه في قيادة الأجهزة الأمنية وحركة فتح.

الكابتن الجنرال.. رحلة العودة من ألف باب

بعد عام ونصف من الاقتتال الداخلي، والتحريض والإعدامات والاتفاقيات ولجان التواصل، انفجر برميل البارود بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالكامل منتصف يونيو/حزيران 2007، وطُردت السلطة الفلسطينية وقوات أمنها، وبدأ ما سيعرف بعدها “بالانقسام الفلسطيني”.

كان للرجوب في حينه مواقفه المنفلتة عن حالة الإجماع الفتحاوي، إذ لم يتردد خلال مقابلة مع تلفزيون فلسطين الرسمي، في مهاجمة قادة الأجهزة الأمنية في غزة، والإشارة بشكل مبطن إلى غريمه محمد دحلان، محملًا مسؤولية ما جرى لتصرفاتهم ضد الفلسطينيين عمومًا في القطاع. وخلف المواقف الإعلامية، تداول الفلسطينيون بشكل واسع في حينه، مكالمة مسلجة يُزعم أنها للرجوب مع أحد ضباط الأمن الوقائي في رفح، الذي اتصل به مستنجدًا، فكال خلالها الرجوب شتائم ثقيلة لكل من محمد دحلان ورشيد أبو شباك وغيرهما، متهمًا إياهم بالهرب من غزة إلى فندق “غراند بارك” في رام الله، والتصرف وكأن شيئًا لم يحدث.

محمد دحلان يمين الصورة ومحمود عباس وإسماعيل هنية (رويترز)

شهران فقط عقب الحدث المفصلي في التاريخ الفلسطيني المعاصر، وحالة الشحن الإعلامي والسياسي، والإجراءات الانتقامية المتبادلة في غزة والضفة الغربية، كان جبريل الرجوب القيادي الوحيد في فتح الذي يفتح قنوات اتصال مع قيادات في حماس سعيًا لإنهاء الانقسام، مستمرًا في الدعوة إلى الحوار مع الحركة، دون أن تلقى دعواته أي آذان صاغية في قيادة السلطة وفتح، التي كانت حينها تتعامل مع حماس “كتنظيم محظور” في الضفة الغربية، قبل أن تبدأ رحى المصالحات المكوكية بالدوران دون جدوى في عواصم العالم بعدها بسنوات قليلة.

في مايو/أيار 2008، فجر اللواء جبريل الرجوب أولى مفاجآت عودته إلى المشهد السياسي مجددًا، ولكن من بوابة الرياضة هذه المرة، بعدما أعلن ترشحه لمنصب رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم في دورته الأولى 2008-2012، وانتزع الرئاسة بالتزكية بعد انسحاب منافسه الوحيد.

الرجوب في حينها قال إن ترشحه للمنصب جاء بطلب مباشر من الرئيس محمود عباس، ومفوضية التعبئة والتنظيم في حركة فتح، مؤكدًا أن احتلاله لهذا المنصب “مهمة وطنية” وأن “الحراك في الشارع الفلسطيني لمطالبته بالترشح له يعكس أهمية هذا الموقع وهذه المهمة”.

منذ ذلك التاريخ، يسيطر الرجوب على مقاليد الاتحاد لأكثر من ثلاث ولايات متعاقبة، إلى جانب إحكام قبضته على رئاسة المجلس الأعلى للشباب والرياضة، واللجنة الأولمبية الفلسطينية، وجمعية الكشافة والمرشدات الفلسطينية.

انهمك الرجوب في إدارة شؤون المنتخب الفلسطيني لكرة القدم، وهو القادم من مقرات الأمن الوقائي وإرث العمل الأمني، بينما بدأت حركة فتح في الضفة الغربية وبعد خسارة غزة؛ محاولات لملمة صفوفها واستعادة حضورها، أو إن شئت فقل، إحكام قبضة الرئيس محمود عباس على كافة المفاصل السياسية والتنظيمية، فجرى عقد المؤتمر العام السادس عام 2009، والذي انتخب فيه جبريل الرجوب لعضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، ونائبًا لأمين سر اللجنة حتى عام 2017.

كان جبريل الرجوب يومها واحدًا من ضمن 14 وجهًا جديدًا ينتخبون لعضوية اللجنة المركزية، أبرزهم محمود العالول، ومروان البرغوثي، ومحمد دحلان، ومحمد اشتية، وحسين الشيخ، وتوفيق الطيراوي، إلى جانب من احتفظ بمنصبه من الأعضاء القدم، ليشكلوا بالمجموع 19 عضوًا.

بالعودة إلى ملاعب الساحرة المستديرة، كان قدوم الرجوب من رئاسة جهاز أمني ليكون ثاني رئيس في تاريخ الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، نقطة فارقة في مسيرة الاتحاد والمنتخب، فالرجل الذي ظن الكثيرون أنه سيعامل لاعبي كرة القدم كجنود وضباط الوقائي، استطاع تحقيق اختراقات تاريخية، وحصد إنجازات واضحة للكرة الفلسطينية، التي شهدت ولا تزال في عهده انتظام البطولات والمسابقات، وتدشين دوري المحترفين الفلسطيني، ودوري السيدات، وتطوير البنية التحتية والمرافق ومقرات النوادي المختلفة.

حقق الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم إنجازات غير مسبوقة في عهد الرجوب، من بينها اعتماد “الملعب البيتي” لمنتخب فلسطين ومنحه حق استضافة البطولات والمنتخبات، والتتويج ببطولة كأس التحدي عام 2014 التي منحته بطاقة التأهل إلى نهائيات كأس آسيا 2015، وجائزة أفضل اتحاد وطني ناشئ من “الفيفا” عام 2009، ومنح الرجوب جائزة الهرم الذهبي لأفضل شخصية رياضية عام 2011، وجوائز دولية وإقليمية أخرى.

كما تجاوز الرجوب رياضيًا عقبات الانقسام الفلسطيني، بإعادة تفعيل دوريات كرة القدم في قطاع غزة، وضم أنديته مجددًا إلى الدوري الفلسطيني، وعقد المباريات النهائية بين أندية القطاع والضفة، عبر تنسيق مباشر مع عبد السلام هنية، الشخصية الرياضية الأبرز في غزة ونجل قائد حركة حماس إسماعيل هنية، الذي صدر قرار رئاسي بتعيينه مساعدًا للرجوب في المجلس الأعلى للشباب والرياضة، كما مُنح عضوية اللجنة الأولمبية الفلسطينية التي يرأسها الرجوب أيضًا.

هذه السيرة الحافلة للرجوب، لم تصنع طريقًا ورديًا، فالرجل الذي يتبنى العفوية المطلقة، دون أي اعتبارات بروتوكولية أو مجاملات سياسية، أثار العواصف داخليًا وخارجيًا مرارًا وتكرارًا خلال قيادته للاتحاد، عبر الاصطدام مع الأردن في إحدى المحطات بعد اتهامه بالتصويت لجوزيف بلاتر ضد الأمير علي في انتخابات رئاسة الفيفا، وهو ما نفاه الرجوب علنًا وأجبر الرئيس محمود عباس على السفر إلى الأردن ولقاء الأمير علي في بيته لنزع فتيل الأزمة، عدا مشاحنات أخرى قوبلت بردود من نواب وشخصيات أردنية، خلال بطولات قارية.

كما كان الرجوب عام 2015 هدفًا لدعوات تطالب بإقالته من منصبه، انضمت إليها حركتا حماس والجبهة الشعبية ومنظمات فلسطينية مثل “حركة المقاطعة”، بعد إقدامه على سحب الطلب المقدم للفيفا بإسقاط عضوية “إسرائيل” من الاتحاد الدولي بسبب انتهاكاتها ضد الرياضة والرياضيين الفلسطينيين، وقد قال الناطق باسم حركة حماس في حينه، فوزي برهوم، إن الرجوب “خيّب آمال الفلسطينيين وآمال أصدقاء فلسطين وكل المحبين الداعمين لشعبنا وعدالة قضيته”، مطالبًا برحيله من رئاسة الاتحاد ومحاكمته على تصرفاته، في حين اكتفى الرجوب حينها بالقول إنه جاهز لأي مساءلة فلسطينية، متهمًا من أسماهم “أشخاصا لا يريدون التطور والنهوض للرياضة الفلسطينية” بقيادة “الحملات المشبوهة ضده”، ومؤكدًا أن الموضوع برمته “شأن رياضي لا علاقة للسياسة به”.

تحت ظل الرئيس.. جمر يشتعل بصمت

في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عقدت حركة فتح مؤتمرها السابع، الذي احتفظ فيه 12 عضوًا من اللجنة المركزية بمقاعدهم في حين انضم ستة أعضاء جدد إلى اللجنة، وفي هذه الانتخابات حل جبريل الرجوب في المركز الثاني بعد الأسير مروان البرغوثي، متمسكًا بمقعده في اللجنة المركزية التي أعلنت مطلع فبراير/شباط 2017 تكليفه بمنصب أمين سرها.

كان محمد دحلان، العنوان الأهم في المؤتمر السابع، حيث تمسك الرئيس الفلسطيني، وزعيم حركة فتح، محمود عباس، برفض توصيات الرباعية العربية “الإمارات، السعودية، مصر، الأردن” بالتصالح مع دحلان، وطي صفحة الخلاف الذي وصل ذروته بطرد الأخير وعشرات من مؤيديه من حركة فتح، وإسقاط عضوياتهم وإحالة ملفاتهم إلى القضاء، وقد ذكرت بعض المصادر في حينه، أن الرجوب كان أحد المتشددين في رفض عودة دحلان، وهو من أقنع الرئيس الفلسطيني برفض الضغوط العربية.

بعد قرابة أسبوعين من تكليف الرجوب بمنصب أمين سر اللجنة المركزية، منعته مصر من دخول أراضيها بعد وصوله مطار القاهرة لحضور اجتماع دعت إليه الجامعة العربية، وهو الحدث الذي تزامن مع عقد محمد دحلان مؤتمرين موسعين لكوادر وأنصار تياره “تيار الإصلاح الديمقراطي” على الأراضي المصرية في تلك الفترة. وقد عزت مصادر عدة منع الرجوب إلى غضب مصري متصاعد من رفض قيادة حركة فتح دعوات القاهرة إلى المصالحة مع دحلان، والاتهامات المباشرة للرجوب في هذا الصدد.

كان دحلان خلال ذلك العام، في عين عاصفة تصريحات الرجوب للإعلام المحلي، حيث رد الرجوب على سؤال حول إمكانية عودة دحلان إلى الحركة بأنه فصل بسبب “قضايا لها علاقة بالقتل أو المشاركة بالقتل والاستقواء بالإقليم”، مضيفًا في ذات التصريح أن “مدخل دحلان للرجوع إلى الحركة ليس من خلال الدول العربية، وليس من خلال أموال الخليج”، في إشارة إلى دولة الإمارات التي يقيم فيها دحلان ويعمل مستشارًا لرئيسها.

الرجوب هاجم في تصريحات أخرى “الرباعية العربية”، متهمًا إياها بالسعي للتدخل في المعادلات الداخلية الفلسطينية، معتبرًا أن هذا التدخل “مرفوض بالنسبة لمؤسسات حركة فتح”، مُصعدًا في تصريحاته لمهاجمة ضباط الأمن المكلفين من الرباعية للقاء قيادة فتح حيث اعتبرهم “ضباط مخابرات لا يفهمون شيئًا”.

الرجوب في حينه هاجم القرار المصري، وعاد بعد قرابة عام كامل ليجدد هجومه على الدور المصري في ملف المصالحة الفلسطينية، متهمًا القيادة المصرية بتجاهل حركة فتح والرئيس محمود عباس، والسعي لفرض اتفاق للمصالحة بين حركتي فتح وحماس وفقًا للمتطلبات المصرية ودون استشارة فتح.

من مصر إلى الفيفا، امتدت صراعات الرجوب مع الجميع، في ذلك العام، بعدما قرر الاتحاد الدولي لكرة القدم فرض عقوبة الإيقاف عن العمل الرياضي بحق الرجوب لمدة 12 شهرًا، وغرامة بنحو 20 ألف دولار، بتهمة “التحريض على الكراهية والعنف”، بعدما أطلق دعوات إلى حرق صور وقمصان نجم المنتخب الأرجنتيني، ليونيل ميسي، ردًا على نية المنتخب لعب مباراة ودية مع المنتخب الإسرائيلي جرى إلغاؤها قبل موعد انعقادها.

وفي يوليو/تموز 2020، وخلال مؤتمر صحفي مشترك عبر “اجتماع عبر الفيديو” من رام الله والضاحية الجنوبية، بثه التلفزيون الرسمي الفلسطيني وكبرى القنوات الإخبارية، ظهر اللواء جبريل الرجوب، مع صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، للإعلان عن اتفاق فتح وحماس على “استراتيجية موحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة” للتصدي لمخططات ضم الضفة الغربية.

لقاء الرجوب-العاروري توسع لاحقًا إلى زيارات شخصية أجراها الرجوب لمقر إقامة العاروري في تركيا، وجمعت الرجلين علاقة مودة شخصية، كما يروي عدد من الشهود على اللقاءات أن الرجوب اعتاد إحضار “الزعتر وزيت الزيتون والميرمية” من الضفة الغربية كهدايا للعاروري في كل اللقاءات التي جمعتهما ضمن مساعي التوصل إلى اتفاق مصالحة بين حركتي فتح وحماس.

هذه اللقاءات المكوكية بين الرجلين آتت ثمارها الأولى بالتوصل إلى اتفاق عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، وإصدار الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 15 يناير/كانون الثاني 2021 مرسومًا رئاسيًا بعقدها على التوالي ابتداءً بالانتخابات البرلمانية في 22 مايو/أيار، ثم الرئاسية في 31 يوليو/تموز، وانتهاءً بانتخابات المجلس الوطني في 31 أغسطس/آب من ذات العام.

وفي نهاية مارس/آذار 2021، أصدر الرئيس محمود عباس، قرارًا بترقية اللواء جبريل الرجوب إلى رتبة فريق في قوى الأمن الفلسطينية، وإحالته إلى التقاعد. وكانت رتبة الفريق التي منحت للرجوب هي الثانية التي تُمنح لضابط فلسطيني منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، وكان القرار في حينه تمهيدًا لترشح الرجوب رفقة محمود العالول لرئاسة قائمة حركة فتح للانتخابات التشريعية.

تسارع الزخم الانتخابي في الأراضي الفلسطينية بإعلان تشكيل 36 قائمة لخوض الانتخابات التشريعية، وبينما أعلنت حركة حماس عن قائمة موحدة للانتخابات، انقسمت حركة فتح على نفسها مشكلة 3 قوائم، الأولى يرأسها محمود العالول وجبريل الرجوب، والثانية برئاسة ناصر القدوة الذي صدر قرار بفصله من حركة فتح ولجنتها المركزية مع فدوى البرغوثي زوجة الأسير مروان، والثالثة شكلها تيار الإصلاح الديمقراطي الذي يقوده محمد دحلان.

في 29 أبريل/نيسان 2021، أعلن الرئيس الفلسطيني بعد لقاء طارئ للقيادة الفلسطينية؛ عن تأجيل عقد الانتخابات التشريعية، متذرعًا بالرفض الإسرائيلي لإجرائها في القدس. وخلف الكواليس كان جبريل الرجوب أشد المعارضين لإلغاء الانتخابات، بينما دافع ماجد فرج وعزام الأحمد عن قرار الإلغاء، وسط أحاديث متصاعدة من داخل حركة فتح عن خوف واضح من تلقي هزيمة جديدة أمام حركة حماس في هذه الانتخابات.

وروت مصادر مطلعة أن الرجوب في حينه اعتبر أنه تعرض للتغرير في ملف المصالحة، وأن جهات تعمدت إفشال جهوده بهدف الانتقاص من قوته في الشارع الفلسطيني، وتحييده عن دائرة الصراع حول خلافة محمود عباس داخل حركة فتح، وقد انعكس ذلك بعزوف الرجوب لفترة من الوقت عن الظهور الإعلامي أو الإدلاء بأي تصريحات كما اعتاد خلال جهود عقد الانتخابات وتعزيز المصالحة مع حركة حماس.

من سيف القدس إلى طوفان الأقصى

فجر قرار الرئيس الفلسطيني إلغاء الانتخابات التشريعية، موجة جديدة من القطيعة والسجال بين حركتي فتح وحماس، ودشن تراشقًا إعلاميًا تصاعد بعد اندلاع معركة “سيف القدس” التي أطلقتها الحركة بعد 10 أيام فقط من مرسوم عباس، واستمرت 11 يومًا اشتعلت فيها جبهات غزة والضفة الغربية والداخل المحتل عام 48، وشكلت محطة فارقة في تاريخ المواجهات بين حماس والاحتلال.

الرجوب الذي هاجم رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، خالد مشعل، بتصريحات صحفية في يناير/كانون الثاني 2022، أشاد في ذات التصريحات التي وصفتها حماس “بالتوتيرية المؤسفة” بالقيادي صالح العاروري، وأجرى زيارة جديدة له في تركيا، ضمن المساعي لعقد مصالحة جديدة في الجزائر لم يترجم على الأرض في حينه.

مضت الأيام والسنوات سريعة، وجاء صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليقلب كل الموازين والمعادلات، ويضع المنطقة برمتها في أتون معركة لم تهدأ رحاها حتى الآن، توسعت لتمتد من طهران وصنعاء إلى سيناء وبيروت، مرورًا بغزة ودمشق وبيروت، لكن السلطة الفلسطينية وقيادة فتح التزمت الصمت المطبق منذ تلك اللحظة بانتظار ما ستؤول إليه الأمور.

بعد أسابيع من الصمت الذي لف أركان السلطة وفتح، اختار أن يكسره كل من محمود العالول وجبريل الرجوب في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بتصريحات حملت إشادات علنية بعملية “طوفان الأقصى” التي وصفها الرجوب خلال مؤتمر له في السفارة الفلسطينية بالكويت بأنها كانت “زلزالًا وحدثًا غير مسبوق، وحربًا دفاعية مليئة بالملاحم والبطولات التي يخوضها الشعب الفلسطيني”.

وفي يوليو/تموز 2024، قال الرجوب خلال ندوة عقدت في رام الله، إن عملية 7 أكتوبر “حطمت مساعي تصفية القضية الفلسطينية وتعزيز مكانة إسرائيل كقوة إقليمية”، مضيفًا أن “طوفان الأقصى” أظهر أن “إسرائيل” مجرد “أكذوبة” بعدما “كشف ضعفها في توفير الحماية الأمنية لذاتها ومستوطنيها، وخلق لها أزمة وجودية غير مسبوقة”.

في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2025، سيُتم الرئيس الفلسطيني محمود عباس عامه التسعين، ومنذ سنوات تتلاطم أمواج الصراع على خلافة الرجل الممسك بتلابيب الرئاسات الثلاث، السلطة وحركة فتح ومنظمة التحرير. وخلف أسوار المقاطعة، يبدو الصراع محتدمًا، بينما لم ترجح الكفة حتى الآن لمن سيوصف بالرجل الأقوى وخليفة عباس المحتمل، لكن جبريل الرجوب، الذي يتولى الآن منصب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، لا يبدو في موضع القوة الذي وضعته فيه تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية عام 2016، بكونه صاحب الحظوظ الأكبر من محمد دحلان ومروان البرغوثي في خلافة عباس، لأن وجوهًا أخرى صعدت بشكل صاروخي نحو الدائرة اللصيقة لمحمود عباس، وتبدو اليوم المهيمنة على القرار الرئاسي.

ولعل هذا التيار الذي يضم أمين سر اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات، ماجد فرج، يشكل المحور المضاد لأمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب، ومحمود العالول نائب رئيس حركة فتح، اللذين يمثلان تيار الصقور والحرس القديم في فتح اليوم، وآخر وجوه العهد العرفاتي الباقية حتى الآن في الصف القيادي الأول.

واليوم، لا يملك المحللون السياسيون والمطلعون على المشهد الفلسطيني عن قرب؛ القدرة على الفصل في تحديد الشخصية المرشحة لخلافة محمود عباس، في ظل مجموعة من الأسماء الثقيلة الحاضرة في المشهد، والصراعات الممتدة منذ عقدٍ وأكثر، ومكانة عباس الذي يمسك بثلاثة مناصب ثقيلة، لا يبدو أحد من خلفائه قادرًا على الجمع بينها مجددًا.

وبين هذه الأسماء، تبدو حركة فتح -كحال غيرها- مترقبة لمن سيؤول إليه قرار الحركة، ومن هو أو هم الذين سيرثون تركة محمود عباس، في ظل كم المتغيرات المتسارع بشكل مطرد منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، والمراسيم الرئاسية المتتالية التي تعيد تشكيل المشهد والتوازنات في السلطة الفلسطينية وحركة فتح، في ظل التحديات الداخلية وموقف القوى السياسية الفلسطينية، والمتغيرات العالمية والإقليمية، وتهديدات نتنياهو بضم الضفة الغربية، وجهود “إسرائيل” لتحييد مكانة ونفوذ وكيان السلطة الفلسطينية، وحالة انسداد الأفق والمستقبل المجهول.
البداية
المقدمة

فتح المخطوفة.. هل ينجح العالول ورفاقه في تحريرها؟

صمت مطبق لف أركان قيادة السلطة الفلسطينية وحركة التحرير الوطني الفلسطينية (فتح) عقب تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، نسبته مصادر صحفية إلى تعليمات مباشرة من الرئيس محمود عباس لقادة الصف الأول في الحكومة واللجنة المركزية لحركة فتح، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعدم إصدار أي تصريحات لوسائل الإعلام حول الأحداث في قطاع غزة.

تيار أضعف الإيمان

لم يكد يمضي الأسبوع الأول، حتى كسر القيادي في حركة فتح وعضو اللجنة المركزية، عباس زكي، الصمت حول ما يجري في القطاع، مشيدًا بعملية طوفان الأقصى التي قال إنها أعادت النهوض بالقضية الفلسطينية، موجهًا الشكر لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس) وسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي على النجاح الذي حققته العملية، وهو ما قوبل برد فوري من حركة فتح التي قالت في بيان منسوب لمصدر لم يصرح باسمه عبر وكالة الأنباء الرسمية “وفا” إن تصريحات زكي تمثل نفسه ولا تعبر عن موقف حركة فتح أو منظمة التحرير.

مع مرور الأسابيع والشهور، وتصاعد الجدل في قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير عن الموقف من حرب الإبادة الجماعية المتواصلة في قطاع غزة، وانقسام الآراء في الدور المنوط بالحركة، لوحظ إعلاميًا انقسام الصف الفتحاوي إلى تيارين: يضم الأول كلًا من عباس زكي، محمود العالول، وجبريل الرجوب، الذين أطلقوا في نهاية 2023 ومطلع 2024، تصريحات إعلامية تشيد بعملية طوفان الأقصى دون التطرق لحركة حماس تلميحًا أو تصريحًا.

وتزعم حسين الشيخ وماجد فرج التيار الثاني الذي سعى إلى ترسيخ النأي بالنفس عن كل ما يجري، بل ودفع السلطة الفلسطينية إلى قمع أي حراك مناصر لغزة على الأرض، وتصعيد المواجهة أمنيًا ضد الشارع الفلسطيني والتي بلغت ذروتها بإطلاق الحملة الأمنية ضد مجموعات المقاومة في مخيم جنين.

وبالعودة إلى الانقسام من عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد تواترت تصريحات لمحمود العالول في ديسمبر/كانون الأول 2023، قال فيها وعبر التلفزيون الرسمي للسلطة الفلسطينية، إن “ما جرى في 7 أكتوبر، مبرر بسبب الاحتلال وجرائمه المتواصلة”، وسبق ذلك التصريح، لقاء للعالول مع صحيفة القدس العربي في نوفمبر من ذات العام نفسه تمنى فيه أن “يتعلّمَ الجميع درس 7 أكتوبر”، مضيفًا أن ما حصل سيتكرر بعد عامين أو خمسة أعوام إن لم يُعط الأمل للشعب الفلسطيني والسعي نحو أفق سياسي للحل”، وفي ذات الفترة وصف عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، جبريل الرجوب عملية “طوفان الأقصى” بأنها “زلزال وحدث غير مسبوق، وحربا دفاعية مليئة بالملاحم والبطولات ، يخوضها الشعب الفلسطيني”.

ابن الجرمق.. رجل فتح التوافقي

حتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان ينظر إلى العالول في سيناريوهات ما بعد عباس، بأنه قد يكون المرشح التوافقي لأقطاب حركة فتح لتولي رئاسة السلطة الفلسطينية، وإبقائها ضمن نفوذ وسيطرة حركة فتح، وتجنيب الحركة مواجهة داخلية واقتتال قد يفضي إلى تمزق سيطرتها على المشهد الفلسطيني، وضياع مكتسباتها أمام صعود الغريم السياسي المتمثل في حركة حماس.

إذ إن مجرد توزيع المناصب التي كان يمسك عباس بزمامها على عدد من قيادات الحركة، لا يعني نزع فتيل المواجهة المرتقبة بعد رحيله بين هؤلاء القادة، في معركة الخلافة، وهو ما يقود للاعتقاد بأن خطاب الرجل الإعلامي، مرتبط بتعزيز حضوره الميداني لدى قواعد حركة فتح، وتقديمه كشخصية توافقية تحظى بإجماع الكل الفتحاوي، إذا ما كان إقصاء بعض وجوه المشهد الحالي، أو تصاعد حالة الرفض التنظيمي والشعب لها، خيارًا واردًا في قادم الأيام.

ولد محمود عثمان راغب العالول في الحادي عشر من ديسمبر /كانون الأول عام 1950 سليلًا لعائلة من أعيان مدينة نابلس، وتلقى تعليمه الأساسي والثانوي في مدارسها، قبل أن يرتحل إلى بيروت لينال درجة البكالوريوس في الجغرافيا من جامعة بيروت العربية.

والتحق مبكرا بصفوف حركة فتح، ونشط داخل الأرض المحتلة، حتى اعتقاله عام 1968 ثلاث سنوات في سجون الاحتلال، الذي قرر عام 1971 إبعاده إلى الأردن، ليلتحق هناك بقواعد الحركة، ويتولى مناصب قيادية، قبل أن يغادرها قسرًا نحو لبنان عام 1973، بعد تدهور العلاقة بين الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير إثر أحداث أيلول الأسود.

وهناك شارك في تأسيس وقيادة الكتيبة الطلابية “كتيبة الجرمق” إحدى التشكيلات العسكرية التابعة لحركة فتح، التي ضمت نخبة الطلاب الفلسطينيين في جامعات العالم، وخاضت معارك شرسة ضد جيش الاحتلال وعملائه منذ السبعينيات، كان أشهرها معركة “الطيبة” و”قلعة شقيف” إبان الغزو الإسرائيلي للبنان.

وفي بلاد الأرز، تدرج “أبو جهاد” في المناصب القيادية لحركة فتح، حيث عمل برتبة عميد ضمن القطاع الغربي تحت إمرة الشهيد خليل الوزير وتولى إدارة مكتبه، كما كان أحد أعضاء المجلس العسكري لمنظمة التحرير بين أعوام (1975 – 1982).

خلال معارك اجتياح لبنان عام 1982، تولى العالول قيادة مجموعة فدائية لحركة فتح في البقاع وطرابلس، وتمكنت من أسر 8 جنود من جيش الاحتلال، تم إطلاق سراح 6 منهم في صفقة تبادل أسرى جرى بموجبها إطلاق سراح 4700 أسير فلسطيني ولبناني من سجن الخيام في لبنان، و65 أسيرًا فلسطينيًا من سجون الاحتلال داخل الأرض المحتلة.

عقب مغادرة قوات منظمة التحرير الفلسطينية لبنان، واصل العالول عمله برفقة الشهيد خليل الوزير في تونس، وكُلف برئاسة مكتب حركات التحرير الذي يضطلع بالتنسيق مع حركات التحرر العالمية، وتولى بعد اغتيال أبو جهاد عام 1988، منصب أمين سر لجنة الأرض المحتلة المكلفة بدعم الانتفاضة الأولى حتى عام 1994.

تلاشي السراب

بعد عام كامل من توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، عاد العالول إلى الضفة الغربية بعد أن كان اسمه ضمن لائحة القيادات الفلسطينية الذين رفض الاحتلال عودتهم إلى قطاع غزة والضفة الغربية، وبدأ فصل جديد في سيرة الرجل ومسيرته، بتعيينه أول محافظ لمدينة نابلس في عهد السلطة الفلسطينية عام 1995 واستمر في منصبه لمدة 10 سنوات كاملة، إضافة لتوليه مسؤولية مفوضية التعبئة والتنظيم في حركة فتح، ورئاسة التنظيم في الضفة الغربية.

ولم تكد تمضي 5 سنوات على تولي “أبو جهاد” منصب محافظ نابلس، حتى كان الرجل في أتون شرارة انتفاضة الأقصى التي انفجرت أحداثها على امتداد الأراضي الفلسطينية، ليودّع في ثالث أيامها بتاريخ الأول من أكتوبر/تشرين الأول نجله البكر جهاد، الذي ارتقى برصاص جيش الاحتلال في مواجهات على نقاط التماس في المدينة.

أصبحت نابلس في عين عاصفة الاجتياحات الإسرائيلية، وهدفًا دائمًا لعدوان الاحتلال الذي كان يصنفها كـ “عاصمة للإرهاب” في شمال الضفة، نظرًا لعدد العمليات الفدائية التي انطلقت منها، فتوالت عليها الإغلاقات وأيام الحصار ومنع التجول، ومنع وصول المنتجات الزراعية والمواد الخام، أو السماح بنقل منتجاتها، إضافة إلى تدمير مئات البيوت والمحال التجارية والمدارس والمساجد، واستهداف بلدتها القديمة.

خلال سنوات الاشتباك في نابلس، كان العالول إضافة إلى كونه محافظ المدينة، أحد مؤسسي “اللجنة الأهلية لدعم انتفاضة الأقصى”، والتي تشكلت كجهد شعبي تكافلي، لتقديم المساعدات لأهل المحافظة، والعمل على ترميم ما دمره الاحتلال، ودعم ورعاية عائلات الشهداء والجرحى.

وفي ذات السياق، كانت نابلس عنوانًا ونقطة انطلاق لكل محاولات وأد الانتفاضة والسيطرة عليها ميدانيًا، إذ شهدت منذ أواخر التسعينيات وحتى الشهور الأولى من انتفاضة الأقصى، ضربات قاسية للعمل العسكري، وكان سجن

الجنيد (الفلسطيني) في المدينة، محطة اعتقال وتوقيف ومحاكمة مرّ عليها السواد الأعظم من مطاردي شمال الضفة الغربية بتهم الانتماء للأجنحة العسكرية وتصنيع المتفجرات وحيازة السلاح، وحفظت جدرانه لشهور طويلة أسماء العشرات من الشهداء من محمود أبو الهنود* مرورًا بالجمالين(جمال منصور وجمال سليم) ودروزة والسركجي ومهند الطاهر وغيرهم الذين انطلقوا من الزنازين إلى حياة المطاردة والاشتباك والاستشهاد، بعد أن أطلقت السلطة الفلسطينية سراحهم عقب الغارات التي شنها الاحتلال على مقراتها مطلع الانتفاضة.

سجن الجنيد المركزي، سيعود مجددًا للذاكرة الفلسطينية بعد رحيل العالول عن منصب محافظ نابلس، كعنوان لضرب البنية التحتية لحركة حماس في شمال الضفة بعد أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، حيث شهد اعتقال المئات من أنصار الحركة وكوادرها، وشهد وفيات منها فادي حمادنة من حركة حماس الذي قالت الحركة إنه قتل تحت التعذيب في أغسطس/آب 2009، بينما زعمت رواية السلطة أنه انتحر داخل زنزانته، إضافة إلى حادثة قتل “أبو العز حلاوة” ضربًا على يد أفراد من الأمن الفلسطيني عقب أحداث مخيم بلاطة عام 2016.

الحرس القديم.. صعود الرجل الثاني

برحيل عرفات وانتهاء انتفاضة الأقصى، وتولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، واصل محمود العالول صعوده إلى قمة الهرم السياسي الفلسطيني، بمراحل متتابعة، كانت بدايتها فوزه بمقعد في المجلس التشريعي عن حركة فتح في دائرة نابلس عام 2006، ثم توليه في مارس 2007 حقيبة وزارة العمل ضمن حكومة الوحدة الوطنية “حكومة هنية الثانية” التي أقالها عباس بعد 3 شهور إثر سيطرة حماس على قطاع غزة، وكلّف سلام فياض بتشكيل حكومة طوارئ، تسلّم فيها سمير عبد الله حقيبة العمل من العالول، الذي عاد إلى ممارسة مهامه التنظيمية داخل أطر حركة فتح، لتكون هذه آخر محطات العالول في المناصب الرسمية ضمن هيكل السلطة الفلسطينية حتى هذه اللحظة، وعودته إلى العمل التنظيمي في حركة فتح.

مع انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح في أغسطس 2009، انتُخب العالول عضوًا في اللجنة المركزية للحركة، ومفوضًا للتعبئة والتنظيم في المحافظات الشمالية، ليصبح أحد وجوه الحرس القديم ضمن اللجنة المركزية إلى جانب أبو ماهر غنيم وسليم الزعنون وعثمان أبو غربية وآخرين، في مقابل “كوتة” الحرس الجديد التي ضمت حسين الشيخ وجبريل الرجوب ومحمد اشتية وغيرهم، وحافظ العالول على هذه العضوية لدورة ثانية عقب المؤتمر السابع الذي انعقد في نوفمبر 2016، قبل أن يخطو خطوة متقدمة بانتخابه نائبًا لرئيس حركة فتح عام 2017 وهي المرة الأولى التي يُستحدث فيها هذا المنصب داخل حركة فتح، غير المرتبط برئاسة السلطة الفلسطينية.

“اتفاقية أوسلو انتهت ولم يبق منها إلا الاسم، وأن كل شيء مع هذا الاحتلال انتهى”

– محمود العالول

استحداث منصب نائب رئيس حركة فتح، جاء في حينه وسط تكهنات بإعلان الرئيس عباس عن استحداث منصبي نائب رئيس الحركة ونائب رئيس السلطة الفلسطينية، كمحاولة لتقسيم سيطرته على مفاصل منظمة التحرير وحركة فتح والسلطة الفلسطينية وتفرده بقيادة هذا الثالوث منذ سنوات، وشاع في حينه -أي قبل انعقاد المؤتمر- أن منصب نائب قائد الحركة سيسند للأسير مروان البرغوثي كعنوان جامع لتيارات حركة فتح، وتحدثت مصادر صحفية أن عباس يفكر في تكليف اللواء ماجد فرج قائد جهاز المخابرات بمنصب نائب رئيس السلطة الفلسطينية، وأن هذا القرار قوبل باعتراض أوروبي، ونفت مصادر من حركة فتح صحة هذه الأقاويل.

صعود العالول إلى منصب الرجل الثاني داخل حركة فتح، تقاطع مع سيل من التصريحات الحادة التي كان يطلقها الرجل تعليقًا على أحداث المشهد الداخلي الفلسطيني، فقد وصف في ديسمبر 2017، قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة بأنه “اغتيال لكل المعاهدات السابقة”، مضيفًا في تصريحات صحفية أن “اتفاقية أوسلو انتهت ولم يبق منها إلا الاسم، وأن كل شيء مع هذا الاحتلال انتهى”.

وهو التصريح الذي قوبل بهجوم إسرائيلي على العالول، واتهامه بـ “التحريض على العنف والإرهاب”، وصل حد التهديد المباشر من منسق أعمال حكومة الاحتلال، يوآف مردخاي الذي خاطب العالول بالاسم في منشور على حسابه بموقع “فيسبوك” قائلًا له “ممنوع التفوه بتصريحات تندم عليها لاحقًا”.

غير أن مفردات “التمسك بكافة أشكال المقاومة”، باعتبارها حقًا مشروعًا للشعب الفلسطيني، بقيت تتكرر في تصريحات نائب القائد العام للحركة، علاوة على موقفه الثابت بالدعوة إلى إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية مع حركة حماس، ودعوتها والجهاد الإسلامي إلى حضور اجتماعات مركزية لحركة فتح في عدة محطات، رغم أن العالول سبق ووصف في أبريل/نيسان 2019، ما اصطلح على تسميته بـ “تفاهمات إنهاء مسيرات العودة” التي توصلت لها حماس بوساطات قطرية مصرية مع الاحتلال بأنها “مقدمة لتمرير صفقة القرن”

خريف السلطة.. زمن الكتيبة والعرين

يواظب “أبو جهاد” على تعزيز حضوره وتواجده الميداني على الأرض، ولا تغيب عن الأخبار المحلية، تصريحاته في اللقاءات أو الفعاليات الرسمية والتنظيمية، حيث يشكل الرجل ما يمكن وصفه بالرافعة الشعبوية لحركة فتح، على نقيض وجوه الحرس الجديد، المرتبطين بالسلطة الفلسطينية، ومهامهم الرسمية، وارتباطاتهم محليًا وإقليميًا، وليس أدل على ذلك من تبعات جريمة اغتيال الناشط نزار بنات في يونيو/حزيران 2021، وانفجار مظاهرات حاشدة وغير مسبوقة في رام الله ضد السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية.

وقد ردت عليها حركة فتح بالمشاركة المباشرة في قمع المظاهرات بعنف مفرط، والاستعانة بأبناء التنظيم والشبيبة على الأرض بزيهم المدني للمشاركة في مواجهة المتظاهرين على المنارة، ليأتي تعليق العالول على هذه الأحداث بإطلاق تهديد علني لمعارضي السلطة الذين وصفهم بـ “الآخرين”، قائلًا في مظاهرة مضادة نظمتها حركة فتح في رام الله بتاريخ 10-07-2021، “نرجوكم ألا يستفز أحدكم فتح، وإذا استفززتم فتح فإنها لن ترحم أحداً”، والتي عاد العالول للاعتذار الخجول عنها في منشور على حسابه بموقع “فيسبوك”، قائلًا “إنّنا لسنا أنبياء، فنحن بشر، وواردٌ أن نخطئ، وجاهزون لأن نصلح الخطأ”.

حضور العالول على الأرض، تواصل مع اشتداد زمن الاشتباك، وتمدد مجموعات المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وظهور تشكيلات “كتيبة جنين” و”عرين الأسود” التي شكّل أبناء فتح ثقلا نوعيًا فيها، وسجلوا حضورًا بارزًا في صفوف المقاتلين وقوائم الشهداء، وبينما كانت السلطة تجرب خيارات معالجة ظاهرة العرين، بالمساومات والاعتقالات، ومحاولات شق الصفوف وكسر النواة الصلبة لهذه التشكيلات، كان العالول حاضرًا بتصريحاته الداعية إلى تصعيد المقاومة ضد الاحتلال بكافة الوسائل، موجهًا رسائله إلى كوادر “فتح” بالدرجة الأولى.

وكانت لافتة زيارته إلى بيوت عزاء الشهداء الثلاثة في مسقط رأسه نابلس “مبروكة والدخيل والمبسلط” 2022/8/2، ونقله عبر هاتفه الشخصي كلمة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى أهالي الشهداء وحضور بيت العزاء، توعد فيها بـ “رد الصاع صاعين للعدو الصهيوني الغاشم”. وهي الخطوة التي نظّر لها محللون في حينه بأنها قد تحمل إشارات غير معتادة من قيادة السلطة تجاه تصاعد اعتداءات الاحتلال، والتي عاد الواقع ونسفها بعد مشاركة السلطة في قمتي العقبة وشرم الشيخ، ممثلة بالوجه الصاعد للحرس الجديد، حسين الشيخ، أمين سر اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأحد عناوين مرحلة ما بعد أبو مازن.

ما بعد عبّاس

في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وتعقيبًا على مجزرة الاحتلال في نابلس والتي ارتقى فيها 5 شهداء، منهم القيادي في “عرين الأسود”، الشهيد وديع الحوح، استضاف تلفزيون فلسطين محمود العالول للتعليق على الحدث، وطوال 46 دقيقة من عمر اللقاء، لفّ الغموض والحذر أجوبة العالول عن الأسئلة، مشيرًا في إجابته عن سؤال عن الرد الفلسطيني المتوقع، بأن لجنة من أعضاء تنفيذية المنظمة ومركزية فتح ووزراء حكومة اشتية، ستسلم الرئيس عباس توصيات حول اعتماد قرارات سابقة للمجلس الوطني بخصوص العلاقة مع الاحتلال، وسحب الاعتراف بـ “إسرائيل” ووقف التنسيق الأمني.

لكن ما أثار الانتباه في حديث العالول، إشارته لمن وصفهم بـ “البعض” من اتخاذ وتطبيق القرارات، وحملت إشارة إلى خلاف حقيقي داخل قيادة السلطة وفتح، وتعدد الوجهات والقناعات في الموقف من الاحتلال والمقاومة المسلحة، وهو أمر لا يخفى على الشارع والمراقب للأمور، ولوجوه السلطة التي تقود مساعي التهدئة، وإحياء التنسيق الأمني مع الاحتلال، وإعادة المشهد إلى مربعه الأول.

الخلافات ذاتها، هي محو نظرة الاحتلال وغيره لمرحلة ما بعد عباس، والترشيحات والافتراضات الإسرائيلية للشخصية التي يمكن أن تتولى مقاليد رئاسة السلطة بعد موت أبو مازن، لا يحضر العالول فيها بصفته من الأسماء الثقيلة في هذا الصراع، إلا أن تقارير إسرائيلية كانت قد أشارت إلى فرصة محتملة له على لسان المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل عام 2018، الذي أشار في مقال له إلى أن تخمينات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، تشير إلى العالول ضمن ثلاثة أسماء تمتلك فرصًا منطقية منها جبريل الرجوب، وماجد فرج صاحب الحظوظ المتدنية في المنافسة على خلافة عباس.

وترى تقارير أخرى أن الأسماء المرشحة فعليًا هي حسين الشيخ بعد أن أسند إليه الرئيس عباس عام 2022 منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وروحي فتوح رئيس المجلس الوطني الذي قد يتولى رئاسة المرحلة الانتقالية كما تولاها سابقًا عقب وفاة الرئيس ياسر عرفات، تمهيدًا لإسنادها للاسم الذي يمكن الاتفاق عليه لاحقًا، غير أن صعود أسهم الشيخ وفرصه، ليست بعيدة عن صراع الأجنحة في حركة فتح، والذي أشار إليه تقرير لقناة الحرة الأميركية وصفت فيه العالول بأنه “لا يقل أهمية ولا تأثيرًا” عن حسين الشيخ، مضيفة أنه “يتقلد موقع نائب رئيس حركة فتح، التي لن تخرج الرئاسة من تحت مظلتها، ويراه فتحاويون أكثر قوة داخل الحركة، وأكثر تعبيرا عن مواقفها، وخطها التاريخي”.

سيناريوهات ما بعد عباس، تفترض مشهدين أولهما رئيس يمسك بكافة السلطات والمناصب في الحركة والمنظمة والسلطة كحال “أبو مازن” اليوم، وهو ما يطمح إليه الشيخ، والثاني يقتضي توزيع التركة على قادة فتح والسلطة، بفصل منصب قائد الحركة عن منصبي رئيس منظمة التحرير ورئيس السلطة الفلسطينية سعيًا لتفتيت محاور صراع المتنافسين، وهي الرؤية التي يتبناها العالول -الذي يعتقد أنه الأولى تاريخيًا وتنظيميًا بخلافة عباس من حسين الشيخ- وتتضمن عودة جميع المفصولين، وجمع الشتات الفتحاوي، وتقاسم المناصب بين القيادات الفتحاوية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* 18 مايو 2001، كان محمود أبو الهنود يقضي عقوبة بالسجن لـ 12 عامًا في مقر المقاطعة في نابلس بتهمة الانتماء لكتائب القسام وبعد اعتقاله فور إصابته من السلطة الفلسطينية عام 2000، حيث تعرض مقر المقاطعة لقصف من طائرات “إف-16” في محاولة لاغتيال أبو الهنود، قتل فيها 11 شرطيًا فلسطينيًا، وتمكن أبو الهنود من النجاة حيا من تحت الأنقاض والعودة لحياة المطاردة.

البداية
المقدمة

بنادق مصابة بالحَوَل.. معالم سيرة نضال أبو دخان

يُعرف اختصارًا وشهرة بـ “قائد القوات” نسبة إلى قوات الأمن الوطني الفلسطينية، ويحضر اسمه مع كل عملية أمنية تشنها السلطة الفلسطينية في مناطق الضفة الغربية، يرى فيه بعضهم شخصية عسكرية بحتة دون أي أطماع سياسية، وينظر إليه آخرون على أنه اسم من الأسماء الحاضرة في سؤال اليوم التالي لرحيل الرئيس محمود عباس، كان هذا قبل القرار المفاجئ القاضي إحالته للتقاعد يوم السبت الموافق 1 مارس/آذار 2.

ولد نضال علي أبو دخان عام 1968 في ولاية تبسة الجزائرية، ويتحدر من عائلة هجّرها الاحتلال من مدينة حيفا المحتلة عام 1948، واستقرت في قرية فقوعة قضاء جنين التي غادرها والده إلى الجزائر ليعمل في سلك التعليم، وينضم هناك إلى صفوف حركة فتح التي أصبح ممثلها في تبسة.

حصل نضال أبو دخان على البكالوريوس في العلوم العسكرية من كلية شرشال في الجزائر، وعاد مع عائلته إلى الضفة الغربية بعد توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، وهناك التحق بجهاز الأمن الوقائي الذي تولى فيه منصب مدير الأمن والحماية.

حصل اللواء على سلسلة من الدورات العسكرية المتخصصة في الولايات المتحدة وفرنسا وسويسرا منها حماية الشخصيات والمواكب، مكافحة الإرهاب، حماية الشخصيات المهمة، العمليات الخاصة، مستشار أمني، التدخل السريع، وغيرها.

ثم انتقل إلى جهاز الحرس الرئاسي، وهناك تدرج في الرتب العسكرية وصولًا إلى رتبة عقيد، وتولى عددًا من المناصب الهامة داخل صفوف الجهاز منها، مدير التدريب والتخطيط، مدير العمليات، قائد التدخل السريع، وقائد العمليات الخاصة، إلى جانب رئاسته الاتحاد العام للرياضات العسكرية بقرار صادر عن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس عام 2007.

الوجوه الأمنية الجديدة!

في أيلول /سبتمبر 2009، وضمن مرحلة إعادة بناء وهيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية وفقًا للرؤية الأميركية عقب مباحثات “أنابوليس”، أصدر الرئيس محمود عباس سلسلة قرارات لتصعيد وجوه جديدة لقيادة الأجهزة الأمنية وإقصاء الحرس القديم المحسوب على عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات.

تضمنت قرارات عباس وقتها، ترقية العقيد نضال أبو دخان من جهاز الحرس الرئاسي إلى رتبة عميد، وتكليفه بقيادة جهاز الاستخبارات العسكرية خلفًا للواء ماجد فرج الذي تقرر بمرسوم رئاسي تكليفه بقيادة جهاز المخابرات العامة.

عقب سلسلة الترقيات وقرارات إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، شهدت الضفة الغربية تصاعدًا غير مسبوق في حملات الاعتقالات التي شنتها أجهزة الأمن على كوادر وأنصار حركة حماس، ورصدت منظمات حقوقية أرقامًا قياسية في حالات التعذيب داخل سجون ومقرات هذه الأجهزة، كان عدد ضحاياها وفاة 3 معتقلين من التعذيب خلال عام واحد فقط.

ورغم إعلان السلطة الفلسطينية اتخاذها إجراءات لوقف تعذيب معتقلي حماس في سجونها، فقد أفادت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أنها سجلت 202 شكوى عن التعذيب في سجون السلطة عام 2010 مقابل 164 شكوى عام 2009.

واتهمت “المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا” في تقرير لها صدر عام 2010 كلًا من مدير المخابرات العامة الفلسطينية،

مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج
(مواقع التواصل الاجتماعي)

اللواء ماجد فرج، ورئيس جهاز الأمن الوقائي، اللواء زياد هب الريح، والعميد نضال أبو دخان، قائد جهاز الاستخبارات العسكرية، بـ “المسؤولية المباشرة عن اعتقال المواطنين الفلسطينيين وتعذيبهم في مراكز تقع خارج رقابة القانون”.

قاد العميد نضال أبو دخان جهاز الاستخبارات العسكرية عامين، قبل أن يُرقى بمرسوم رئاسي في ديسمبر 2011، إلى رتبة لواء ويكلف بقيادة قوات الأمن الوطني خلفًا للواء ذياب العلي الذي أحيل إلى التقاعد.

بندقية قِبلتها صدور الشعب

يقود اللواء نضال أبو دخان، أكبر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، تسليحًا وعتادًا وعددًا، إذ تضم قوات الأمن الوطني 9 كتائب موزعة على مدن الضفة الغربية، وقد حظيت هذه القوات -التي يتراوح عدد أفراد الكتيبة الواحدة منها من 600 إلى 1000 منتسب- لتدريبات عسكرية في الأردن على يد خبراء من إيطاليا وبريطانيا وتحت إشراف أميركي مباشر.

نسب اللواء أبو دخان في مقابلة عام 2013، الفضل للمساعدات الأميركية التي تضمنت الدعم المالي والدورات التدريبية، في رفع مستوى أفراد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتطوير قدرات الجاهزية والأداء الاستخباري، مضيفًا أن أثرها ينعكس إيجابيًا على “التنمية السياسية في فلسطين”.

تولّت قوات الأمن الوطني، تحت قيادة اللواء نضال أبو دخان، مهمات “فرض القانون والنظام ومحاربة الفلتان الأمني” وفقًا لما كانت توصف به في البيانات الرسمية الصادرة عن السلطة الفلسطينية، حيث شرعت هذه القوات منذ عام 2013 في مهمات متتالية لـ “فرض القانون والنظام” وملاحقة المجموعات المسلحة.

شهد عام 2013، مواجهات دامية بين مجموعات مسلحة تابعة لحركة فتح وقوات الأمن الوطني، ابتداءً من مخيم بلاطة، وصولًا إلى مواجهات البلدة القديمة في مدينة نابلس عام 2016، التي أشرف عليها اللواء أبو دخان شخصيًا ونفذتها الكتيبة 101 في قوات الأمن الوطني.

أسفرت مواجهات نابلس آنذاك عن مقتل 2 من أفراد الأمن والوطني و3 مواطنين منهم أحمد حلاوة “أبو العز” أحد وجهاء البلدة القديمة ومتزعم إحدى التشكيلات المسلحة التابعة لحركة فتح، وقد قضى ضربًا على يد أفراد من قوات الأمن الوطني داخل سجن جنيد في مدينة نابلس بعد ساعات من اعتقاله.

السلطة في حينه اتهمت حلاوة بأنه العقل المدبر لعملية إطلاق النار التي أسفرت عن مقتل 2 من عناصر قوات الأمن الوطني، مضيفة في بيان لها أنه “استفز رجال الأمن الذين اعتقلوه بشتمهم، فانهالوا عليه ضربًا حتى قُتل”، بينما اتهمت عائلته في بيان صادر عنها، اللواء أبو دخان بـ “التورط المباشر والمسؤولية الكاملة عن إعدامه”، مطالبة بإقالته من منصبه.

عام 2020، شنت قوات الأمن الوطني من جديد حملة على مخيم بلاطة هدفت إلى “بسط سيادة القانون ومحاربة السلاح غير الشرعي والقضاء على الفئات الخارجة على القانون” وفقًا للبيانات الرسمية، وأسفرت هذه الحملة عن مقتل مواطن وإصابة آخرين وعناصر من القوات، وقد حظيت هذه الحملة أيضًا بإشراف مباشر من اللواء أبو دخان الذي زار غرفة عمليات قوات الأمن الوطني في نابلس وأشاد بجهودها في حفظ الأمن والنظام العام.

وسائل الإعلام الإسرائيلية وقتها، أشارت إلى أن الحملات الأمنية التي تشنها قوات الأمن الوطني على المخيمات، تأتي ترجمة للتكليف الذي تسلمه قائدها اللواء نضال أبو دخان من الرئيس محمود عباس باستهداف مساعدي محمد دحلان في الضفة الغربية،

وأن العمليات في مخيمات بلاطة والأمعري هدفت إلى سحق المجموعات المسلحة المحسوبة على القيادي في حركة فتح، جمال الطيراوي، المقرب من محمد دحلان، وأنها تشكل جزءًا من طبيعة الصراع المبكر فتحاويًا عن مرحلة ما بعد عباس.

ديسمبر 2024، شنت السلطة الفلسطينية حملة أمنية على مجموعات المقاومة المسلحة في مخيم جنين أطلقت عليها اسم عملية “حماية وطن” استمرت عدة أسابيع وانتهت قبل ساعات من بدء جيش الاحتلال الإسرائيلي هجومًا واسعًا على المخيم لا يزال مستمرًا للشهر الثاني على التوالي.

الحملة التي قادها على الأرض جهاز المخابرات العامة وقوات الأمن الوطني، كانت الأكبر التي تشنها السلطة الفلسطينية على مجموعات المقاومة المسلحة، وشهدت استخدام المصفحات والقذائف الصاروخية لأول مرة، وحصار المخيم وقطع الماء والكهرباء عنه كاملا، ومنع دخول الإمدادات الغذائية.

السلطة أكدت في عدة بيانات لها أن الحملة تهدف إلى فرض القانون واعتقال الخارجين عليه ونزع سلاحهم، كما أكدت الأجهزة الأمنية أنها ستواصل “ملاحقة المسلحين ومن يقف خلفهم وأنها لن تتراجع أو تخضع لأي تسويات أو صفقات” رغم مساعٍ حثيثة قادتها جهات وفصائل وطنية منهم قادة وكوادر من حركة فتح في المخيم.

خلال الحملة، قتل عدد من عناصر الأجهزة الأمنية، وأظهرت مقاطع مصورة من داخل المخيم، استهداف مصفحات قوات الأمن الوطني بالعبوات الناسفة، وإيقاع خسائر بشرية ومادية فيها، لكن الحملة استمرت أسابيع، في ظل دعم سياسي وإعلامي مطلق لها من قيادة السلطة، وزيارات لماجد فرج ونضال أبو دخان لغرفة عمليات الحملة ضد المخيم.

الدور الإقليمي الغامض

لا يقتصر دور اللواء نضال أبو دخان على قيادة قوات الأمن الوطني، المكلفة فرضَ هيبة ووجود السلطة الفلسطينية وفقًا للبيانات الرسمية، بل تعداها إلى أدوار إقليمية ودولية، فقد كان عام 2015، على رأس وفد أرسلته قيادة السلطة إلى مخيمات لبنان ضم إلى جانب أبو دخان، عزام الأحمد، المشرف على الساحة اللبنانية في الحركة، لضبط الأوضاع الأمنية في المخيمات بعد سلسلة من عمليات الاغتيالات والمواجهات المسلحة.

زيارة اللواء أبو دخان مخيمات لبنان، تلاها قيامه بإيفاد عدد من ضباط قوات الأمن الوطني من رام الله إلى لبنان، وتكليفهم ضبطَ الحالة العسكرية لحركة فتح في المخيمات، والعمل على إعادة هيكلة وبناء القوات العسكرية للحركة، وربطها بغرفة العمليات المشتركة لقوات الأمن الوطني في رام الله، وإعادة تأهيل أفرادها بإخضاعهم لدورات عسكرية.

يتمتع اللواء نضال أبو دخان بعلاقات دولية تتخطى حضوره المحلي، فقد كان عام 2017 أول ضابط فلسطيني يُكرم بـ “وسام الشرف الفرنسي من الدرجة الأولى”، وهو أعلى وسام يمنح للشخصيات العامة في فرنسا، حيث قلده إياه القنصل الفرنسي العام على الأراضي الفلسطينية، نيابة عن الرئيس فرانسوا هولاند.

وللواء أبو دخان، اتصالات وعلاقات مباشرة مع الجانب الأميركي، لم تبدأ بالدورات العسكرية التي حصل عليها في الولايات المتحدة، ولم تقف عند حدود علاقاته المباشرة مع المنسقين الأمنيين الأميركيين الذين تولوا عملية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، سواء الجنرال كيث دايتون، أو خلفه الجنرال فريدريك روديشايم.

حظوظ الوراثة

في الحديث المتجدد دومًا عن مرحلة ما بعد محمود عباس “أبو مازن”، والأسماء المرشحة لخلافته، لا يظهر نضال أبو دخان كأحد المرشحين ذوي الحظوظ العالية في تولي المنصب، فالرجل العسكري، المبتعد عن المشهد السياسي، والنادر في ظهوره الإعلامي، توصف حظوظه بتولي منصب الرئاسة بـ “المعجزة” كما قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية في تقرير مطول لها.

قد لا يبدو نضال أبو دخان ذا حظوظ تنافسية على تولي منصب الرئاسة، وربما يعزف الرجل نفسه عن المنافسة لهذا المنصب مكتفيًا بدوره الأمني العسكري، إلا أنه وفي أي مرحلة قادمة، سيشكل عنصر ثقل للشخصية التي يدعمها من بين الأسماء المتصارعة على وراثة المقاطعة، متسلحًا بخبرته وشخصيته وعلاقاته الممتدة عبر الحدود.

بتاريخ 1 مارس/آذار 2025، أصدر الرئيس الفلسطيني قرارًا بإحالة اللواء نضال أبو دخان، قائد قوات الأمن الوطني في الضفة الغربية إلى التقاعد بعد 14 عامًا من توليه هذا المنصب، وتعيين اللواء العبد إبراهيم عبد السلام خلفًا له في قيادة القوات، وهي خطوة مفاجئة تجاه الرجل الذي وإن لم يكون ذو حظوظ تنافسية في مسمى “اليوم التالي لرحيل عباس”، إلا أن الكثيرين كانوا ينظرون لكونه سيشكل عنصر ثقل للشخصية التي سيدعمها من الورثة المحتملين، متسلحًا بخبرته وشخصيته وعلاقاته العابرة للحدود.
البداية
المقدمة

رئيس الشواغر.. سيرة روحي فتوح

يتذكر الفلسطينيون جيدًا اسم روحي فتوح، رئيسا مؤقتا أدار دفة السلطة لمدة شهرين عقب وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات، ويعرفونه قياديا في حركة فتح ووزيرا سابقا، وربما لا يعرف كثير من الأجيال الصاعدة اسم منصبه الحالي رئيسا للمجلس الوطني أو ما يعنيه هذا، لكن الإعلان الدستوري الذي صدر أواخر العام الماضي بإسناد مهمة الرئاسة المؤقتة له من جديد حال شغور المنصب، أعاد طرح اسم الرجل سياسيًا وإعلاميًا في عمق النقاش المستمر عن اليوم التالي لرحيل الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس، وشكل ومستقبل وطبيعة الأسماء التي لم ترجح كفة أحدهم حتى الآن في حسم قرار التنظيم الأكبر في اختيار الرئيس القادم للحركة والسلطة.

من المخيم إلى المنفى

ولد أحمد روحي فتوح في مخيم مدينة رفح جنوب قطاع غزة بتاريخ 23 أغسطس/آب 1949، لعائلة هجّرت من قرية برقة المحتلة قضاء غزة، التي احتلتها العصابات الصهيونية في مايو /أيار 1948، وفي مخيم رفح ومدارسه أكمل دراسته الأساسية، متنقلًا بين العريش ورفح حتى وقوع نكسة حزيران 1967، التي قررت على إثرها عائلته النزوح إلى الأردن.

في الأردن حصل روحي على شهادة الثانوية العامة من إحدى مدارس مدينة الزرقاء، وارتحل إلى دمشق ملتحقًا بجامعتها التي تخرج منها عام 1979 حاصلًا على البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، وفي سوريا، كانت انطلاقته السياسية.

في الأردن ايضا، انضم روحي فتوح مبكرًا إلى صفوف حركة فتح منذ عام 1968، ملتحقًا بصفوف قوات العاصفة، وفي العراق تلقى تدريبًا عسكريًا في الكلية العسكرية، قبل عودته من جديد إلى قواعد الثورة في كل من الأردن وسوريا ولبنان لاحقًا.

خلال سنوات إقامته في سوريا، تولى روحي فتوح عددًا من المناصب الحركية والطلابية في صفوف حركة فتح، منها أمين سر التنظيم والمكتب الحركي للطلاب، ورئاسة الهيئة الإدارية في فرع سوريا من الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وصولًا لعضوية الهيئة التنفيذية للاتحاد في نهاية السبعينيات.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأ روحي فتوح رحلة صعوده في قيادة حركة فتح، بانضمامه بداية إلى مكتب التعبئة والتنظيم، تلاها حصوله على عضوية المجلس الوطني الفلسطيني عام 1983، ثم انتخابه عضوًا في المجلس الثوري خلال المؤتمر الخامس لحركة فتح عام 1989.

العودة على أجنحة أوسلو

عاد روحي فتوح إلى قطاع غزة عقب تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية وتوقيع اتفاق أوسلو، ليبدأ أول مهامه بالإشراف على تنظيم حركة فتح في فلسطين في الفترة 1994-1997، ثم عضوية لجنة الطوارئ بالحركة في أعوام 1998-2000، وفي هذه السنوات حصل على عضوية المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم انتخب لعضوية المجلس التشريعي عن محافظة رفح في انتخابات 1996، وتولى رئاسة كتلة حركة فتح البرلمانية، وأمانة سر المجلس التشريعي حتى عام 2004، كما أسندت له رئاسة لجنة المنظمات الشعبية في المجلس الثوري لحركة فتح.

عُين روحي فتوح وزيرًا للزراعة عام 2003 ضمن حكومة الطوارئ التي قادها أحمد قريع بعد استقالة حكومة محمود عباس وظل في منصبه شهرا واحدا قبل أن يعود إلى المجلس التشريعي من جديد حيث انتخبته كتلة فتح البرلمانية لمنصب رئيس المجلس التشريعي خلفًا لرفيق النتشة الذي استقال من المنصب، وخسر المواجهة أمام فتوح، الذي انتخب رئيسًا للمجلس التشريعي في مارس/آذار من عام 2004 بأغلبية متفوقًا على منافسه الوحيد نبيل عمرو.

بعد بضعة أشهر على توليه منصب رئيس المجلس التشريعي، تولى روحي فتوح دستوريًا منصب الرئيس الفلسطيني لـ60 يومًا بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات، وضمن المرحلة الانتقالية التي انتهت بإجراء الانتخابات الرئاسية التي فاز بها محمود عباس “أبو مازن”.

عاد فتوح من جديد إلى رئاسة المجلس التشريعي، واستمر في منصبه حتى عام 2006 الذي شهد إجراء الانتخابات التشريعية الثانية منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، وأسفرت عن فوز كاسح لحركة حماس وسيطرتها على رئاسة المجلس التشريعي وأغلبية مقاعده.

حظوة العهد الجديد

انكفأ روحي فتوح على ممارسة مهامه التنظيمية داخل صفوف حركة فتح بعد تشكيل حماس للحكومة الفلسطينية وما أعقبها من صدامات عسكرية وسياسية بينها وبين فتح ومؤسسة الرئاسة الفلسطينية وقوى الأمن، وغاب الرجل الذي كُلف بمنصب الممثل الشخصي للرئيس محمود عباس عن مشهد الاقتتال الفلسطيني الدامي، وسيطرة حماس على غزة عام 2007.

في 18 مارس/آذار 2008، تسبب روحي فتوح في هزّة غير مسبوقة بتاريخ السلطة الفلسطينية وحركة فتح، بعد إعلان السلطات الإسرائيلية ضبط 2000 هاتف خليوي داخل سيارته القادمة من الأردن، خلال محاولة تهريبها إلى الضفة الغربية، مهددة بسحب بطاقة الـ “VIP” من فتوح الذي يستخدمها للتنقل داخل وخارج الضفة.

تداعيات الحدث، دفعت اللجنة المركزية لحركة فتح إلى إصدار قرار بإعفاء روحي فتوح من كافة مسؤولياته الرسمية والتنظيمية في السلطة الفلسطينية وحركة فتح على حد سواء، إلى حين البت في تفاصيل القضية، بينما قال فتوح إنه يضع نفسه بتصرف النائب العام والقضاء الفلسطيني، متمسكًا باتهام سائقه الشخصي بالمسؤولية الكاملة عن قضية التهريب.

بعد عام كامل على الواقعة وبتاريخ 13 مارس/آذار 2009، ظهر الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال أدائه صلاة الجمعة في مقر المقاطعة بمدينة رام الله متوسطًا كلًا من محمد دحلان وروحي فتوح، والذي كان ظهوره مفاجئًا في ظل استمرار قرار إعفائه من أي مهام رسمية، لكن المفاجئة لم تطل إذ أصدر النائب العام في ذات اليوم قراره بتبرئة فتوح من تهمة التهريب، وتوجيه تهم التهريب واستغلال الوظيفة لسائقه الخاص.

يذكر آنذاك أن صحيفة الرسالة المحلية المحسوبة على حركة حماس، زعمت في تقرير لها أن عملية تبرئة فتوح صاغها محمد دحلان في لقاء ثلاثي جمعه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس وروحي فتوح في القاهرة بعد 5 أشهر من فضيحة تهريب الهواتف، وقد كان لافتًا مسارعة نواب المجلس التشريعي المحسوبين على تيار دحلان إلى تهنئة فتوح بتبرئته من القضية بعدها بشهور، والإشادة بدوره الوطني والتنظيمي.

ظهور فتوح ودحلان إلى جانب الرئيس محمود عباس في حينه، حمل إشارات ثقيلة عن نية عباس “إعادة تأهيل” الثنائي فتوح-دحلان، استعدادًا لعقد المؤتمر السادس لحركة فتح، وقد ترافق هذا الظهور في تدخل عباس لعقد جلسة مصالحة بين فتوح والقيادي في حركة فتح، وعضو لجنتها المركزية، حكم بلعاوي، كان قد طرد فتوح ومنعه من حضور اجتماعات المجلس الثوري كونه موقوفًا عن أي مهام تنظيمية إلى حين البت في اتهامه بقضية التهريب.

خضع بلعاوي لضغوط الرئيس محمود عباس، وعاد دحلان إلى صدارة المشهد دون أن يمتلك أي صفة رسمية، ورغم حالة الرفض والمعارضة في صفوف قيادات وكوادر فتحاوية دأبت على تحميله مسؤولية ما حدث في غزة وسيطرة حماس عليها بالقوة العسكرية في حزيران 2007.

صحيفة القدس العربي وصفت في تقرير لها خطوات عباس نحو الثنائي دحلان-فتوح تظهر استعدادًا من رئيس السلطة وحركة فتح للمرحلة المقبلة، وإشهارًا لكون هذا الثنائي يتمتع بـ “ظل الرئيس وحمايته”، مضيفة أن عباس “يخطط جيدا لتجنب أي مفاجآت حركية إذا ما انعقد المؤتمر الحركي”.

حكاية الثنائي فتوح-دحلان، انفرط عقدها بانفجار المواجهة بين محمود عباس ومحمد دحلان عام 2011، وقرار مركزية فتح فصله من الحركة وطرده من الضفة الغربية، حيث لم يتخذ روحي فتوح أي موقف داعم لمحمد دحلان، مفضلًا الاصطفاف إلى الرئيس محمود عباس، على عكس عدد من المقربين من دحلان في الحركة والذين فصلوا تباعًا ووصفوا بـ “المتجنحين” في بيانات الحركة الرسمية.

بعد مرور 7 سنوات على انعقاد مؤتمرها العام السادس، عقدت حركة فتح عام 2016 مؤتمرها السابع، والذي انتخبت فيه أعضاءً جددا للجنة المركزية والمجلس الثوري، وقد حصد روحي فتوح في هذا المؤتمر مقعدًا في اللجنة المركزية لحركة فتح، وتولى مفوضية العلاقات الخارجية، رفقة عدد من الوجوه الجديدة، وأخرى حافظت على مقعدها، بينما استمر إقصاء محمد دحلان من اللجنة التي كان قد انتزع عضويتها في المؤتمر السادس.

سنوات عدة مضت، منذ ذلك التاريخ، حافظ فيها روحي فتوح على منصبه عضوًا للجنة المركزية، وممثلًا شخصيا للرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي قرر عام 2020 تعيينه رئيسًا لدائرة المغتربين بمنظمة التحرير خلفًا لنبيل شعث، وليس انتهاء بانتخابه في فبراير/شباط 2022 رئيسًا للمجلس الوطني الفلسطيني، وتعيينه عضوًا في مجلس أمناء جامعة الاستقلال الأمنية بقرار من الرئيس عباس في أغسطس/آب من العام ذاته.

لا يُعرف عن روحي فتوح تصدره المشهد الإعلامي السياسي أو الفصائلي في فلسطين، ولا يعد ضمن الأسماء الثقيلة التي تشكل أجنحة وتيارات مركزية داخل حركة فتح كمحمد دحلان وحسين الشيخ وجبريل الرجوب ومحمود العالول وغيرهم، لكن الرجل لم يكن غائبًا تمامًا وإن اختار جوار محمود عباس عمّن سواه واكتفى به.

طوال السنوات الماضية، دأب روحي فتوح على إصدار تصريحات رسمية تتعلق بالقضية الفلسطينية، وحضورها الإقليمي والعالمي، وحضر العديد من جلسات المصالحة في عواصم العالم موفدًا عن عباس وضمن وفود حركة فتح، في كافة المحطات التي لم يكتب لها النجاح في إحداث اختراق يذكر في ملف المصالحة الوطنية.

هاجم فتوح في عديد المرات حركة حماس إعلاميًا، لكن الرجل المتماهي تمامًا مع الموقف الرسمي للرئيس عباس داخليًا وخارجيًا، أبقى تصريحاته تبعًا لحالات المد والجزر السياسي الفلسطيني، فاتهم على سبيل المثال حركة حماس عام 2020 بـ “خداع الرأي العام” و”التنكر لكل تفاهمات المصالحة”، وأواخر العام الماضي هاجم حركات حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية بسبب إدانتهم للحملة الأمنية التي تشنها السلطة الفلسطينية على مخيم جنين قائلًا أن بعض القوى الفلسطينية “إما مغيبة وإما فعلاً لديها أجندة أخرى” رافضًا وصف العملية في جنين بالاقتتال الفلسطيني، مؤكدًا أنها عملية لـ “حفظ النظام العام ومنع للفوضى وفرض الأمن وسيادة القانون”.

حالة المد والجزر انعسكت على العلاقة بين حماس وفتوح أيضًا، فقد منع من قبل أمن حركة حماس من دخول مسقط رأسه قطاع غزة عام 2013 لحضور مناسبة عائلية وفقًا لبيانات حركة فتح وناطقيها الرسميين، وهو ما نفته حماس في حينه، وسمح له قبلها وبعدها بدخول القطاع لعقد لقاءات مع قيادات حماس أو لإنجاز مهمات تنظيمية تخص حركة فتح في قطاع غزة بإيعاز مباشر من الرئيس عباس، وقد تعرض خلال إحدى هذه الزيارات عام 2023 لإشكال مع أنصار محمد دحلان تخلله إطلاق نار واعتقال عدد منهم احتجاجهم على زيارة فتوح والحاج اسماعيل جبر مستشار عباس للشؤون العسكرية لقطاع غزة.

رئيس الشواغر.. أسلم الحلول الانتقالية

في أوج العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتاريخ 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، مرسومًا دستوريًا يقضي بتولي رئيس المجلس الوطني، روحي فتوح، مهام رئيس السلطة الفلسطيني حال شغور المنصب.

ونص المرسوم على أن تولي رئيس المجلس الوطني للسلطة لمدة لا تزيد عن 90 يومًا تجري خلالها الانتخابات الرئاسية، وفي حال تعذر إتمامها تمدد المدة لفترة أخرى ولمرة واحدة فقط، وهو مرسوم يخالف نص القانون الأساسي الفلسطيني الذي ينص على تولي رئيس المجلس التشريعي مهام الرئيس مؤقتًا ولمدة لا تزيد عن 60 يومًا كما سلف وحدث مع فتوح ذاته بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات، لكن المجلس الحالي الذي تقوده حماس كان قد جرى حله بقرار من المحكمة الدستورية عام 2018.

أعاد المرسوم الدستوري، حضور روحي فتوح للمشهد مجددًا، ومضى الرئيس الفلسطيني محمود عباس في قراره رغم التشكيكات الدستورية والقانونية في متن إعلانه الدستوري، والمشهد السياسي غير الواضح فلسطينيًا، وأعاد كما في قرار انتخاب فتوح رئيسًا للمجلس الوطني قبل عامين، تفجير الجدل لمفاهيم السلطة ومنظمة التحرير والشرعيات وتمثيل المنظمة للكل الفلسطيني.

بعيدًا عن النقاش الدستوري والقانوني المطلق للإعلان الدستوري الصادر عن الرئيس محمود عباس، كشف إسناد مهمة الرئاسة المؤقتة لفتوح مجددًا – هو كما أشير سابقًا في هذا الملف، غير محسوب على أي من القوى والتكتلات داخل حركة فتح – عن رغبة مباشرة من الرئيس الفلسطيني بتأمين المشهد بعد رحيله وقد بلغ التسعين من عمره.

ومع كل محطة يفرضها النقاش حول خليفة عباس في الرئاسة، ومستقبل ثلاثية الرئاسة وفتح والمنظمة التي يقبض عليها بيديه متفردًا، وحظوظ المنافسين وماهية الأسماء الثقيلة المرشحة لخلافته، وفشل فتح حتى اللحظة في اختيار نائب للرئيس، أو الاتفاق على اسم معين لوراثة عباس في اي استحقاق انتخابي قادم، ينشغل المحللون والمختصون في تشريح المشهد والأسماء المرشحة للمنصب، ويكتفي روحي فتوح بحضوره الإعلامي والسياسي، رئيسًا للمجلس الوطني، ورئيسًا مؤقتًا لمرحلة انتقالية مرة ثانية، دون أن يشكل الاسم موقع إجماع أو بحث في إمكانية كونه مرشحًا توافقيًا لحركة فتح لاحقًا في خوض الانتخابات الرئاسية.
البداية
المقدمة

شاركها.
Exit mobile version