جنين- لم يتمالك الشاب الفلسطيني شريف العزب نفسه وسارع لمحاولة إنقاذ الصحفية شيرين أبو عاقلة غير آبه بموت محقق، وكان ورغم زخات الرصاص أول الواصلين لها بعد إصابتها مباشرة وأول من حاول إسعافها رغم اعتقاده أنها فارقت الحياة منذ اللحظة الأولى.

ومتمسكا باحتمال بقائها على قيد الحياة، انطلق العزب (22 عاما) نحو شيرين، ثم سحبها رغم نحالته وضعف بنيته الجسدية وسحبها إلى حيث مركبة مدنية تقف على بعد أمتار، مستبقا ذلك بإنقاذ زميلتها شذا حنايشة.

كانت خطوة العزب أولى المحاولات لإنقاذ حياة شيرين بعد استهدافها بالرصاص الإسرائيلي على مدخل مخيم جنين صباح 11 مايو/أيار 2022. ولدى وصولها مستشفى ابن سينا القريب بالمدينة، وعلى السرير رقم 5 المواجه للباب الرئيس في قسم الطوارئ وُضعت شيرين، وسارع الطاقم الطبي الذي كان مستعدا كعادته مع كل اقتحام إسرائيلي لإسعاف الجرحى وإنقاذ من يمكن إنقاذه.

إصابة قاتلة

وكأي طبيب، استقبل توفيق الشوبكي رئيس قسم الجراحة والطوارئ في مشفى ابن سينا وطاقمه من الممرضين والفنيين المصابة، دون أن يعرفها أحد. فالإشارة الطبية كانت تؤكد وجود مصابين فقط، وعلى الفور باشر بإسعافها عبر ربطها بجهاز “المونيتور” الطبي لأخذ العلامات الحيوية والمباشرة بتقديم العلاج.

يقول الشوبكي (36 عاما) للجزيرة نت التي التقته داخل قسم الطوارئ حيث وقع الحدث “للأسف كانت الإصابة بليغة في الرأس، والشق الأيمن من الوجه مهشم بالكامل، وليس هناك أية علامات حيوية من نبض وتنفس وغيرها، ورغم ذلك بذلنا جهدا كبيرا لإنقاذها”.

ويضيف أن كل ذلك جرى “دون أن نعرف أنها شيرين أبو عاقلة” حتى صرخ الصحفي علي سمودي وهو المصاب الآخر الذي كان يرقد على سرير بجانبها “هذه شيرين، هذه شيرين، فسألته هل أنت متأكد فرد: نعم”.

حينها يتابع الطبيب: تضاعف حجم المسؤولية، على الطاقم الطبي -وعليه تحديدا- وزاد تعلقه بأمل النجاة رغم يقينه طبيا بأن ذلك مستحيل، ويضيف “مكثنا أكثر من نصف ساعة حتى أعلنا الوفاة، بعكس أية حالة مشابهة والتي لا تستغرق أكثر من ربع ساعة”.

البحث عن الأمل

لم يستسلم الشوبكي وزملاؤه للصدمة التي انتابت الجميع، وعملوا كخلية نحل وبرباطة جاش وتشبثوا بالأمل حتى آخر لحظة لإنقاذ “الأيقونة شيرين”.

وزادت حرقته لقاءات سابقة بشيرين وهي في كامل عنفوانها “فدفعني ذلك لبذل أقصى جهد، لكن إرادة الله كانت نافذة” يعلق قائلا.

ولكي ينجح الطبيب ورفاقه تعاملوا وفق النصيحة الطبية الداعية لسلخ المريض من شخصيته، ولذا كان عليه العمل وكأنه لا يعرف شيرين ولم يلتقِ بها، وحتى أنه رد على دعوات البعض لنقلها لمشفى آخر أن “حياة شيرين انتهت بهذا المشفى، ولن تجدي أي محاولة أخرى”.

وخلال عامين من افتتاحه، استقبل مشفى ابن سينا أكثر من 350 مصابا فلسطينيا، جلهم من مدينة جنين ومخيمها القريب منه، واستشهد العشرات منهم، فأحدثوا أثرا كبيرا بين طواقمه.

ومثل الشوبكي شاء القدر للممرضين أحمد زكارنة وريم الظاهر أن يكونا ضمن الفريق الطبي الذي حاول إنقاذ شيرين، ولم يبخلا بتقديم أية مساعدة، لكنهما صُعقا حين عرفا هوية المصابة، فقد تعاملا مع إصابتين وصلتا عند السابعة صباحا، وهو أمر اعتيادي في المشفى وقسم الطوارئ تحديدا.

مشهد خالد رغم الألم

ويقول زكارنة (27 عاما) -بينما اقتادنا إلى حيث كان يقف بالقرب من سرير إنقاذها- إنه عرف هويتها من زملائها الذين ضجّ المكان بصراخهم وبكائهم لحظة استشهادها. وأضاف “لم أتمالك نفسي وبكيت، وأبكاني كل شهيد ارتقى في هذا القسم وفوق أسرَّته التسعة، حيث لم يخل أي منها من استقبال شهيد أو مصاب منذ بدأ العمل بالمشفى قبل عامين”.

أما الممرضة التي استدعيت من منزلها باكرا لخطورة الوضع، فقد أدركت أن عليها التعامل بمسؤولية في ظل صعوبة المشهد وتوافد المئات إلى المشفى بعد إعلان خبر استشهاد شيرين. وتقول ريم “كنا نعتصر ألما عليها، فقد نشأنا على صورتها وصوتها خلف الشاشة، وفجأة جاءت مضرجة بدمائها أمامنا ولم نتمكن من إنقاذ حياتها”.

وهذا المشهد الرهيب لشيرين بينما كان رأسها يقطر دما، آلم بالأكثر ميس جرار، مشرفة رعاية المرضى بمشفى ابن سينا، والتي طالما اقتصرت علاقتها بالمرضى وليس الأموات والشهداء، لكن كانت مهمتها هذه المرة تجهيز جثمان شيرين وتضميد رأسها بالشاش الطبي، والذي ظل ينزف رغم الإسعاف، ثم لفّها بعلم فلسطين “وحرصت أن تخرج بأبهى صورة، لتظل شيرين القوية والشامخة التي نعرف”.

وأكثر من غيرهم يعيش الشوبكي وفريقه الطبي حالة من الحزن “بأثر رجعي” على شيرين وعشرات الشهداء الذين فارقوا الحياة أمامهم.

ولم يبخل طاقم المشفى في تقديم المعلومات لكل من يقصدهم ليعرف حقيقة إصابة شيرين وفحص ملابسات محاولة إسعافها ثم إعلان استشهادها، والأهم أنهم يرددون دوما جملتها الشهيرة التي علقت في آذانهم صغارا وشبّوا عليها كبارا “التغطية مستمرة.. شيرين أبو عاقلة”.

شاركها.
Exit mobile version