“الحقيقة هي أن الدولة العميقة نشرت جيشها في وزارة الدفاع و”إف بي آي” ووزارة العدل. لقد حوَّلت العدالة إلى سلاح، وسيَّست المخابرات، وأبعدت الرجال والنساء الوطنيين عن وزارة الدفاع وشوَّهت سمعتهم”.

  • كاش باتيل، مرشح دونالد ترامب لرئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي”

 

في يوم السبت الموافق 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب على حسابه بمنصة التواصل الاجتماعي التي أنشأها “تروث سوشيال” أنه رشح القانوني والسياسي الأميركي ذا الأصول الهندية “كاش باتيل” لتولي قيادة مكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي”، وهو الرجل الذي اشتهر بدعم الرئيس المنتخب في كل وقت وحين، وكان أحد مستشاريه خلال ولايته الرئاسية الأولى.

أثار هذا الاختيار للرجل المُشتهِر بعدائه المعلن لما يسميه ترامب “الدولة العميقة” الكثير من الجدل، إذ يرى معارضو ترامب أن تلك الخطوة من شأنها أن تكون بمنزلة عودة لـ “العصر المظلم” للمكتب الفدرالي تحت قيادة “إدغار هوفر”، قائد المؤسسة الشهير الذي أدارها في الفترة 1924-1972، وأصبح رمزا في التاريخ الأميركي لسوء استخدام السلطات المخابراتية، إذ اشتهر باستخدام المراقبة والوسائل غير القانونية للسيطرة على السياسيين والناشطين.

ما قد يُثير القلق أكثر هو أن سياسات هوفر سيئة السمعة لم تكن أداة في يد سلطة تنفيذية بعينها بقدر ما كان يستخدم تلك “الأساليب غير القانونية” لإمضاء الأجندة اليمينية التي يؤمن بها، في حين أن باتيل هو مؤيد صارخ وعلني لترامب، وقد صرَّح سابقا بما يفيد بأنه يريد تعقُّب خصومه وأعدائه، ومن ثم يرى البعض أن ترشيحه طريقة لتعزيز سلطات الرئيس في مواجهة خصومه، وتقويض “الآليات البيروقراطية” التي رأى ترامب أنها أعاقت الكثير من سياساته خلال ولايته الأولى لدرجة أنه وصفها بـ”الدولة العميقة” التي تعمل ضد إرادته وإرادة الأميركيين.

أكثر من ذلك، يُعد تعيين ناشط موالٍ للرئيس في منصب حساس مثل هذا المنصب سابقة من نوعها، إذ جرت العادة على الحفاظ على استقلالية مكتب التحقيقات الفدرالي وعدم ربطه بالبيت الأبيض، ولذلك فإن مدة خدمة مديري مكتب التحقيقات الفدرالي هي 10 سنوات، والهدف من تلك المدة هو ألا يصبح مدير المكتب متأثرا أو مهددا في عمله من قِبَل السلطة الرئاسية المنتخبة.

ويعني ذلك أنه يتعين على المدير الحالي للمكتب “كريستوفر راي”، الذي يشغل منصبه منذ عام 2017، أن يستقيل أو يُبعد قبل إتمام مدته المفترضة. اللافت هنا هو أن راي عيَّنه ترامب نفسه خلال ولايته الأولى، لكنه أثار غضب الرئيس المنتخب بسبب موقفه من عدة مسائل، على رأسها تأكيده عدم وقوع تزوير واسع النطاق لانتخابات 2020 كما يزعم ترامب وأنصاره.

كما يرى ترامب أن راي لم يُسرع في إجراء التحقيقات المطلوبة حول الأنشطة المالية الخارجية لهانتر بايدن، نجل الرئيس جو بايدن، وهو ما عدّه ترامب إجراء حمائيا لسمعة المرشح الديمقراطي السابق أثناء حملته الانتخابية عام 2020.

وعموما حافظ راي على إظهار أن ولاءه للمؤسسة وليس للرئيس الذي عيَّنه كما تفرض عليه تقاليد منصبه، لذا فإنه لم يستجب لدعوات ترامب المتكررة بتطهير المكتب الفدرالي، باعتباره إحدى مؤسسات “الدولة العميقة” التي تحاربه.

وبلغت الأزمة بين الرجلين ذروتها بعد الدور المهم الذي لعبه “إف بي آي” في التحقيقات المتعلقة بالهجوم على الكابيتول من قِبَل أنصار ترامب (الترامبيين) في 6 يناير/كانون الثاني 2021، والتحقيقات حول الوثائق السرية التي اتُّهم ترامب بإخفائها بعد مغادرته البيت الأبيض.

مكتب التحقيقات الفيدرالي يعتبر اقتحام الكونغرس إرهابا محليا

رغم ذلك، لن تكون تلك المرة الأولى التي يُقيل فيها رئيس الدولة مديرا للمكتب الفدرالي أو يدفعه للاستقالة، فقد حدث ذلك أكثر من مرة في العقود الأخيرة، لكن الأسباب كانت غالبا متعلقة بممارسات بعينها، وبالنسبة للكثير من منتقدي الرئيس ترامب فإن تلك ستكون المرة الأولى التي يُستبدل فيها مدير “إف بي آي” قبل انتهاء ولايته لأسباب سياسية، في حين يرى مناصرو ترامب أن ما يحدث هو العكس تماما، ويرون تعيين باتيل خطوة نحو تطهير مؤسسات “الدولة العميقة” التي سيَّست الاستخبارات والأجهزة الأمنية الأميركية.

أزمة “إف بي آي”

في السنوات الأخيرة، لم يعد بالإمكان النظر إلى مكتب التحقيقات الفدرالي دون الإشارة إلى الاستقطاب الحاد الذي بات سائدا في الولايات المتحدة منذ صعود ترامب، فالموقف من تلك المؤسسة يعتمد غالبا على الموقع السياسي والحزبي لصاحبه، إذ يميل الديمقراطيون في أميركا إلى رؤية “إف بي آي” إيجابيا بسبب تمسُّكه بـ”التقاليد المهنية الديمقراطية” وعلى رأسها الفصل بين السلطات، ورفضه إثر ذلك الانصياع لرغبات ترامب التي تنتهك هذه المبادئ.

بينما على الجانب الآخر بلغت نسبة تأييد “إف بي آي” بين الجمهوريين أدنى مستوياتها على الإطلاق في السنوات الأخيرة بحسب مجلة “تايم”، لأنهم يرون المكتب الفدرالي رأس حربة للدولة العميقة التي تحارب ترامب.

لكن بعيدا عن الاستقطابات السياسية، من الواضح أن مكتب التحقيقات الفدرالي كان يعاني من مشكلات واضحة في السنوات الأخيرة، فقد كانت الثقة في قدراته وفاعليته تتناقص بشكل حاد في الشارع الأميركي، وبحسب استطلاع رأي أجرته شبكة “إن بي سي” عام 2023 كان 37% فقط من الناخبين المسجلين بالولايات المتحدة يستحسنون أداء المكتب وفاعليته.

إدراكا لهذه المعضلة، كتبت العميلة الخاصة السابقة في “إف بي آي” نيكول باركر ورقة بحثية في إبريل/نيسان الماضي تشرح خلالها من واقع عملها في المكتب الذي امتد إلى 12 عاما أزمة المؤسسة الداخلية، ورغم أن نيكول حاليا مؤيدة لكاش باتيل، فإن حديثها السابق عن أزمة المؤسسة ربما يكون مهما لفهم موقع المؤسسة وأزماتها من منظور داخلي.

وبحسب نيكول، فإن عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي في السنوات الأخيرة باتوا يعانون بوضوح من نقص واضح في المعنويات، وإحساس ملموس بالانقطاع بينهم وبين القيادة في واشنطن، كما تندر زيارات مدير المؤسسة لمكاتب العملاء ويغيب التواصل بين الطرفين، مما يزيد الهوة ويؤثر على كفاءة الجهاز، بحسب رأيها. وأكثر من ذلك، تظهر الخلافات ومؤشرات سوء الأداء داخل الوكالة بسبب تفضيل مديري المؤسسة العمل داخل مكاتبهم في واشنطن العاصمة بدلا من الاحتكاك بالعمليات اليومية للمكتب.

تعمَّقت أيضا نيكول في توضيح إشكاليتين ساهمتا من وجهة نظرها في تكثيف مشكلات المكتب، الأولى هي الثقافة السائدة في “إف بي آي” التي تشدد على أن يكون الجميع في خدمة المكتب لا في خدمة احتياجات الشعب الأميركي، وهو ما يُترجم أحيانا إلى فكرة أن يكون الجميع في خدمة أجندة المشرف الشخصية التي قد لا تتفق بالفعل مع الاحتياجات الأمنية الحقيقية، إذ يُفضِّل المشرفون في بعض الأحيان التركيز على القضايا الجاذبة للاهتمام الإعلامي بدلا من القضايا ذات الأولوية الأكبر لكنها أقل بريقا.

أما الإشكالية الثانية، التي لا يمكن فصلها بحال عن الأولى، فهي تركيز “إف بي آي” مؤخرا على تحقيق الإنجازات الإحصائية ليحصل المشرفون على تقييمات عالية من رؤسائهم، بدلا من التركيز على القضايا النوعية المعقدة وإن احتاجت إلى وقت أطول في التعامل معها، حيث سادت ثقافة في “إف بي آي” تُفضِّل الكم على حساب النوع، بحسب نيكول.

وبغض النظر عما إن كان تقييم نيكول عادلا بشكل كامل لأداء ومشكلات “إف بي آي” أم لا، فالواضح من استطلاعات الرأي الأميركية أن ما تقوله يُعد مقنعا بالنسبة للعديد من الأميركيين الذين يرون أن الجهاز أصبح مُسيَّسا بدرجة بات يصعب معها أداء المهمة المنوطة به بكفاءة وفعالية.

هذا الشعور، سواء كان صائبا أم لا، هو ما يجعل ترشيح كاش باتيل “عدو الدولة العميقة” لقيادة المكتب يجد قطاعا من الداعمين والمتحمسين سواء بين العملاء داخل المؤسسة ذاتها أو في الشارع الأميركي عموما.

عدو “الدولة العميقة”.. مَن هو باتيل؟

وكاش باتيل هو قانوني أميركي من أصول هندية يتمتع بعمر صغير نسبيا، فهو من مواليد عام 1980 في نيويورك، وللمفارقة فإن باتيل الذي يعتنق أيديولوجيا يمينية معادية للمهاجرين قد فرَّ والداه من أوغندا خلال حكم الرئيس عيدي أمين الذي رفع شعار “أوغندا للأوغنديين”، وطرد الآسيويين من بلاده، ومنهم أسرة باتيل التي استقر بها المقام في الولايات المتحدة.

عمل باتيل مدعيا عاما في قضايا الإرهاب بوزارة العدل الأميركية عام 2013، وتقلَّد مناصب رفيعة على رأسها منصب المساعد الأول لرئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب، ثم المستشار الأول للجنة شؤون مكافحة الإرهاب.

وفي عام 2018 شارك باتيل في صياغة “مذكرة نونيز”، وهي مذكرة سرية أعدَّها النائب الجمهوري ديفن نونيز رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأميركي، وقد اتهمت مكتب التحقيقات الفدرالي مباشرة بإساءة استخدام صلاحياته خلال التحقيق حول حملة ترامب في عام 2016، متهمةً “إف بي آي” بتسييس القضية.

وثمرةً لهذا الموقف على ما يبدو، عيَّن ترامب باتيل في فبراير/شباط 2019 موظفا في مجلس الأمن القومي، ثم أصبح المدير الأول لمديرية مكافحة الإرهاب، وهو منصب أُنشئ خصوصا لأجله.

ووفقا لصحيفة “وول ستريت جورنال”، قاد باتيل مهمة سرية إلى دمشق في أوائل عام 2020 للتفاوض على إطلاق سراح الطبيب السوري الأميركي مجد كم الماز والصحفي الأميركي أوستن تايس، وكلاهما كان محتجزا لدى النظام، وهي مهمة لم تُكلَّل بالنجاح كما يظهر، حيث تبيَّن لاحقا وفاة كم الماز تحت التعذيب في محبسه، فيما لا يزال مصير تايس مجهولا، حيث تُكثِّف إدارة “الشؤون السياسية الجديدة” التي تولَّت السلطة بعد سقوط بشار الأسد جهودها للبحث عنه.

وبحلول فبراير/شباط 2020، انتقل باتيل إلى مكتب الاستخبارات الوطنية، حيث عمل نائبا لمدير المكتب بالإنابة “ريتشارد غرينيل”. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، عُيِّن باتيل رئيسا لموظفي وزير الدفاع وقائدا للفريق التنفيذي للوزير كريستوفر ميلر، الذي تولى المهمة عقب إقالة ترامب للوزير السابق “مارك إسبر”.

ويُعتقد على نطاق واسع أن باتيل حاول إعاقة تواصل فريق بايدن الجديد مع مسؤولي البنتاغون خلال الفترة الانتقالية بعد انتخابات عام 2020، حتى إنه منع بعض المسؤولين والخبراء المهنيين من إعطاء معلومات حول قضايا الدفاع الرئيسية لفريق بايدن، وفق ما أوردته شبكة “إن بي سي”.

ومع رحيله عن المناصب الحكومية بعد تولي بايدن الرئاسة، أسَّس باتيل “مؤسسة كاش” لدعم أفراد الجيش الأميركي وموظفي إنفاذ القانون والمحاربين القدامى، التي قدَّمت -بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”- مساعدات مالية لعائلات أنصار ترامب المتهمين في هجوم 6 يناير/كانون الثاني 2021 على مجمع الكابيتول.

بالإضافة إلى ذلك، انشغل باتيل بالمشاريع التجارية، إذ أسَّس شركة استشارية استطاعت أن تربح 456 ألف دولار أميركي من خلال تقديم الاستشارات لشركة وسائل التواصل الاجتماعي واللجنة السياسية التابعتين لترامب.

في غضون ذلك، عمل باتيل أيضا في تجارة التجزئة عبر الإنترنت تحت العلامة التجارية “K$H”، وهي العلامة التي يُبرزها غالبا على ملابسه أثناء فعاليات ومؤتمرات ترامب، وقد تاجر كاش تحديدا في الخشب والمكملات الغذائية التي يُسوِّقها باعتبارها وسيلة لتعزيز المناعة وتغني عن اللقاحات، بالإضافة إلى تربُّحه من بيع القمصان التي تظهر عليها عبارات ورسومات تأييد ترامب، ويرتديها أنصار الرئيس المنتخب في مؤتمراته الجماهيرية.

خلال السنوات الماضية أيضا، كثَّف باتيل من الظهور في المؤتمرات والمقاطع المصورة الداعمة لترامب التي تهاجم ما يسميه “الدولة العميقة”، وأصدر سلسلة كتب للأطفال بعنوان “المؤامرة ضد الملك” التي يقدم فيها شخصيته باعتباره العرّاف الذي يكشف المؤامرة الشريرة التي تُحاك ضد الملك “ترامب” من “الدولة العميقة”، وفي هذه السلسلة يحاول باتيل أن يشرح للأطفال من وجهة نظره الصراع الذي دار بين ترامب و”الأشرار” أعداء الديمقراطية منذ عام 2016.

وفي عام 2023، نشر باتيل كتابه “عصابات الحكومة.. الدولة العميقة والحقيقة والمعركة من أجل ديمقراطيتنا”، الذي يزعم فيه حدوث اختراق على أعلى مستويات الإدارات والوكالات والجهات الحكومية في الولايات المتحدة من قِبَل الدولة العميقة المعادية للديمقراطية التي تحارب ممثلي الشعب الحقيقيين (مثل ترامب).

ومن ثم يمكن تعريف مفهوم الدولة العميقة بالنسبة لباتيل بأنها “مجموعة الموظفين رفيعي المستوى الأشرار في وكالات إنفاذ القانون والاستخبارات والهيئات العسكرية الذين يعملون وفق أجنداتهم الشخصية والأيديولوجية سرًّا ضد إرادة الشعب الأميركي ودون أن يتعرضوا للمساءلة”.

في كتابه، يحاجج باتيل بأنه يكشف الستار عن تلك الدولة العميقة ولاعبيها الرئيسيين، ويشرح من وجهة نظره طبيعة التكتيكات المتَّبعة من قِبَلها التي تُجرِّد الشعب الأميركي وقادته المنتخبين من السلطة بمهارة وفي سرية، وقد قدَّم باتيل اقتراحات لتفكيك الدولة العميقة كان من أهمها طرد الموظفين الكبار من “إف بي آي”، واستبدال كل العاملين في مجال الاستخبارات والأمن القومي لصالح آخرين لن يعملوا على تقويض أجندة الرئيس المنتخب ديمقراطيا.

باتيل الذي كان قد تحدَّث في بداية هذا العام عن أنه لو كان الأمر بيده لأغلق المبنى المركزي لـ”إف بي آي” في واشنطن فورا وحوَّله إلى “متحف للدولة العميقة” إعلانا للانتصار على الأجهزة المسيَّسة التي تقوِّض الديمقراطية الأميركية خلف الستار، ها هو الآن على بُعد خطوات قليلة من أن يصبح مديرا للجهاز الذي قال إنه سيُحوِّله إلى متحف، فكيف سيكون مستقبل هذا الجهاز في حال توليه المنصب؟

هل يعود شبح إدغار هوفر؟

حين أعلن ترامب باتيل مرشحا لرئاسة “إف بي آي” من خلال منصته “تروث سوشيال”، برَّر ذلك قائلا إن “كاش محامٍ بارع ومحقق ومناضل من أجل أميركا أولا”، وإنه “أمضى حياته المهنية في فضح الفساد والدفاع عن العدالة وحماية الشعب الأميركي”، وأضاف أنه “أدَّى عملا مذهلا خلال ولايتي الأولى.. مهمته ستكون إنهاء وباء الجريمة المتنامي في أميركا وتفكيك العصابات الإجرامية وإنهاء الآفة الخبيثة المتمثلة في الاتجار بالبشر وتهريب المخدرات عبر الحدود”.

لكن هذه الأدوار ليست هي ما ينتظره المعارضون للرئيس ترامب، المتخوّفون بشدة من أن اعتلاء كاش لعرش “إف بي آي” الذي ربما سيعني بحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية “عصرا مكارثيا جديدا”، تعمل فيه الأجهزة الأمنية لصالح الرئيس وضد معارضيه، والتجربة الأقرب للأذهان في الولايات المتحدة الأميركية حين يأتي الحديث عن تجاوزات “إف بي آي” هي تجربة الجهاز في حقبة إدغار هوفر، الرئيس الذي تربَّع على عرش المكتب الفدرالي لخمسة عقود.

في حقبة هوفر عانت المنظمات الحقوقية واليسارية والجماعات المعادية لحرب فيتنام من التنصُّت على المكالمات الهاتفية، وتشويه سمعة قادتها من خلال نشر “إف بي آي” أخبارا زائفة عنهم وتهديدهم بفضح المعلومات الشخصية المتعلقة بحياتهم الخاصة، فضلا عن تدبير المؤامرات داخل تلك الجماعات بهدف إشعال الفتن داخلها، هذا بالإضافة إلى تعاون هوفر مع السيناتور جوزيف مكارثي من خلال تقديم المعلومات له لإرساء المكارثية، التي تم من خلالها تدمير المسيرة المهنية للعديد من النشطاء والفنانين في الولايات المتحدة الأميركية ووضعهم على القوائم السوداء بسبب ميولهم اليسارية.

ولم يُكشَف عن الدور السياسي الذي لعبه “إف بي آي” في عهد هوفر إلا بعد وفاته في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما ترتب عليه إصلاحات قانونية لمراقبة عمل الجهاز.

يخشى الكثير من المحللين الآن أن باتيل قد يعيد تلك الأيام أو أسوأ منها إذا ما ربح المنصب، خاصة أنه لا يُخفي عداءه لخصوم الرئيس ترامب السياسيين، ولم يُخفِ حاجة البلاد إلى تطهير مؤسساتها من الذين يعرقلون تطبيق ترامب لبرنامجه، وقد ذهب باتيل في الواقع إلى ما هو أبعد من ذلك قبل الانتخابات الأخيرة، إذ أشار إلى ضرورة ملاحقة هؤلاء الذين استخدموا وسائل الإعلام لنشر “الأكاذيب” حول ترامب وكذبوا عموما على المواطنين الأميركيين، وأضاف أنه في حال فوز ترامب “سنلاحق” هؤلاء الذين ساعدوا بادين على ما يصفه كاش بأنه “تزوير الانتخابات الرئاسية في عام 2020”.

وقد وصل الأمر إلى حد أن وسائل الإعلام الأميركية بدأت تسأل مسؤولين رفيعي المستوى ذُكِروا في كتاب باتيل عن الدولة العميقة باعتبارهم من قائمة المفسدين للحياة السياسية الأميركية، ومنهم جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الحالي لبايدن، عما إن كانوا قلقين على سلامتهم الشخصية في الفترة القادمة إذا ما تسلَّم باتيل المنصب.

إن التخوف الرئيسي من تعيين باتيل في منصب إدارة “إف بي آي” عند معارضي الرئيس ترامب هو أن هذا سيعني من وجهة نظرهم تحوُّل قوة تنفيذ القانون إلى أداة في يد البيت الأبيض والرئيس الذي يُعلي قيمة الولاء التام، ومن ثم بحسب تعبير المجلة الأميركية “ذا أتلانتيك” “سيُحقق إف بي آي في عهد ترامب أو يمتنع عن التحقيق، ويُوجِّه الاتهامات أو يمتنع عن توجيه الاتهامات، بحسب رغبات الرئيس”.

ما زال باتيل الذي ضغط من أجل الحصول على هذا المنصب لم يتقلد الإدارة بعد، وربما يتغير معطى أو آخر فيَحُول بينه وبين المنصب الذي يريده، لكنه منذ أن طُرح اسمه، انقسم بشأنه الأميركيون إلى شقين، شق يراه الرجل المناسب الذي سيقضي على التسييس داخل “إف بي آي” ويُنهي البيروقراطية الفاسدة في الجهاز، في حين يراه الشق الآخر الرجل ذا الميول الدكتاتورية الذي سيكون يد ترامب اليمنى في حملته لملاحقة معارضيه، وتقويض الأعراف والتقاليد الديمقراطية الأميركية في سبيل تحقيق ذلك إذا لزم الأمر.

شاركها.
Exit mobile version