ليس أمرا غريبا ولا طارئا أن يُقتل القادة في الصراعات والحروب عموما، فما بالك لو كانت تلك الحروب بين طرف محتل وبين جماعات مسلحة تقاوم الاحتلال.

والتاريخ المتصل بالصراع مع إسرائيل ليس استثناءً، بل هو تاريخ زاخر بأثمان غالية دفعتها مختلف فصائل المقاومة، بداية من عز الدين القسام إلى الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، وخليل الوزير (أبو جهاد) الرجل الثاني في حركة فتح، وأبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية. ناهيك عما جرى مؤخرا من اغتيال لقادة حركة حماس، بدءا من اغتيال صالح العاروري في لبنان، وصولا لاغتيال رئيس المكتب السياسي السابق إسماعيل هنية في طهران.

أما على صعيد لبنان، فما حدث في سبتمبر/أيلول 2024 مع حزب الله كان استثنائيا على عدة أصعدة، فإسرائيل لم تقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله فحسب، وإنما قتلت بعد أيام معدودة الرجل الثاني هاشم صفي الدين، فضلا عن تصفية ما يُرجّح أنه الصف الأول والثاني تقريبا بالكامل، ليظل نعيم قاسم الاسم البارز المتبقي الوحيد من الحرس القديم، قبل أن يعلن عن اختياره أمينا عاما جديدا للحزب نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

شاهد | كلمة نعيم قاسم في ظهوره الأول كأمين عام لحزب الله خلفا لحسن نصر الله

من هو نعيم قاسم؟

وُلد قاسم في عام 1953 ببيروت، أي أنه أكبر بسبع سنوات من حسن نصر الله، ودرس الكيمياء باللغة الفرنسية في الجامعة اللبنانية؛ ما أكسبه مهارة التحدث بالفرنسية بجوار العمل مدرسا للكيمياء في المدارس الثانوية قبل أن يحصل على درجة الماجستير عام 1977. ومن ثم كانت بداية نشاطاته في مجال العمل الطلابي على عكس حسن نصر الله الذي كانت بداياته في العمل العسكري خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

وفي المجال الديني، درس قاسم على يد عدد من علماء المذهب الشيعي الاثنا عشري، ومن أبرزهم المرجع اللبناني محمد حسين فضل الله، كما انضم إلى موسى الصدر إثر قدومه إلى لبنان بعد أن درس في الحوزات الدينية بقم والنجف، حيث أسس الصدر المجلس الشيعي الأعلى عام 1969، تبعه حركة “المحرومين”.

وبحلول عام 1975، أُعلن رسميا تأسيس الجناح العسكري لحركة المحرومين تحت اسم “أفواج المقاومة اللبنانية”، والتي اشتهرت بالاسم المختصر “أمل”. وتدرج قاسم في المناصب القيادية في حقل الثقافة والتوجيه حتى أصبح مسؤول العقيدة والثقافة بحركة أمل.

مع اختفاء موسى الصدر الغامض خلال زيارته إلى ليبيا في عام 1978، ونجاح الثورة الإيرانية في العام التالي، بدأ التمايز داخل حركة أمل بين توجهات متباينة، فنظّم مجموعة من الإسلاميين الشيعة في لبنان مظاهرات تأييد للثورة تحت اسم “اللجان المساندة للثورة الإسلامية في إيران”، وبدؤوا في التواصل مع زعيم الثورة ومرشدها آنذالك آية الله الخميني، في خطوة هي الأولى من نوعها، حيث اعتاد شيعة لبنان آنذاك على تقليد مراجع النجف (العراق)، وبالتحديد آية الله أبو القاسم الخوئي، وفي نطاق أضيق محمد باقر الصدر.

وبحسب نعيم قاسم، فقد كانت هناك فوارق بارزة بين مرجعية النجف التي ركزت على الجوانب الثقافية والفكرية، مقارنة بحوزات قم التي ركزت بشكل أكبر على السياسة وتأسيس دولة إسلامية شيعية معاصرة.

في ضوء هذه التطورات، والتي تبعها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، انفصلت مجموعة من أعضاء حركة أمل، من بينهم نعيم قاسم، ليشاركوا رفقة عناصر من “اللجان المساندة للثورة” في تأسيس “حزب الله” سرا عام 1982 برعاية إيرانية، ليتبنى الحزب أسسا عقدية وفكرية تؤمن بولاية الفقيه، ويتخذ من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي هدفا له.

وفي المقابل أرسلت طهران عناصر من الحرس الثوري إلى لبنان ليعملوا على بناء معسكرات تدريب وتأهيل لعناصر حزب الله، والذي ظل يعمل في الخفاء لمدة 3 سنوات قبل أن يعلن عن وجوده بوضوح في عام 1985 عبر طرحه لرؤيته العقائدية والفكرية والسياسية وأهدافه في “رسالة مفتوحة” قرأها الناطق الرسمي باسم الحزب آنذاك إبراهيم أمين.

خلال مسيرته في حزب الله، تولى نعيم قاسم عضوية مجلس شورى الحزب لثلاث دورات متتالية، وهو مجلس كان مكونا من 9 أعضاء يُنتخبون لمدة عام واحد من طرف عناصر الحزب الذين يشغلون مناصب رؤساء أقسام فما فوق، أي أن نعيم قاسم كان أحد القادة التسعة الكبار في الحزب عند تأسيسه.

وفي أعقاب الخلاف حول مشاركة حزب الله في الحياة النيابية، والذي أقيل على إثره الأمين العام الأول للحزب صبحي الطفيلي، وتولى المنصب بدلا منه في عام 1991 عباس الموسوي، خُفض عدد أعضاء مجلس الشورى إلى 7 أعضاء، وزادت دورة عضويتهم إلى سنتين، واستُحدث منصب نائب الأمين العام، وشغله للمرة الأولى نعيم قاسم، وظل به طول عهدَي الموسوي وخليفته حسن نصر الله. الفارق أنه في عهد قيادة نصر الله، أصبحت دورة عضوية مجلس الشورى 3 سنوات، كما تبلورت واستقرت 5 مجالس ضمن البنية التنظيمية لحزب الله، وهي المجلس السياسي، والجهادي، والتنفيذي، والنيابي، والقضائي؛ حيث يرأس كل مجلس منهم عضو من أعضاء مجلس الشورى.

خلال مسيرة نعيم قاسم التنظيمية، تقلد منصب نائب رئيس المجلس التنفيذي، ثم ترأسه لفترة، وهو المجلس المسؤول عن الأنشطة والأعمال الإجرائية داخل الحزب، وعن الوحدات الثقافية والاجتماعية والتربوية والنقابية والمهن الحرة فضلا عن مسؤولي المناطق بالحزب. وفي ضوء خبرة نعيم قاسم بالملفات الثقافية والفكرية والعمل العام، ومحدودية انخراطه في العمل العسكري والأمني، فقد أوكلت إليه خلال توليه منصب نائب الأمين العام ملفات ذات أبعاد سياسية من قبيل رئاسة هيئة “العمل الحكومي” المختصة بمتابعة عمل نواب الحزب في مجلس النواب، والإشراف على أداء الوزراء التابعين للحزب في الحكومات المتتالية، فضلا عن الإشراف على اللجنة المركزية بالحزب الخاصة بإدارة الانتخابات ميدانيا في أنحاء لبنان.

إضافة إلى ذلك، يُعرف قاسم بأنه “أبرز منظري حزب الله”، حيث نشر نحو 26 كتابا في قضايا متنوعة، ومن أهمها كتابه “حزب الله: المنهج والتجربة والمستقبل”، والذي قدم فيه تأريخا للحزب، خاصة في العقود الثلاثة الأولى منذ تأسيسه عام 1982، وعرضا لأهم المحطات في علاقته بالدولة في لبنان ومؤسساتها، وتلخيصا لأبرز منطلقات الحزب الفكرية، وعلاقاته الدولية والإقليمية، وخياراته في الداخل اللبناني.

عبء القيادة في ظرف استثنائي

واليوم يتقلد نعيم قاسم منصب الأمين العام في ظرف استثنائي وفي لحظة ربما تكون هي الأصعب في تاريخ الحزب منذ تأسيسه، فالغارات الإسرائيلية لا تتوقف على لبنان، والحرب تأخذ مسار تكسير عظام، وتهدف لإخراج حزب الله من دائرة التأثير، بالتوازي مع محاولة فرض شروط تطالب بسحب مقاتليه إلى شمال نهر الليطاني ومنع إعادة تسليحه، والسعي لنزع أسلحته الثقيلة ليصبح دوره سياسيا واجتماعيا فقط.

وفي تلك الأجواء، يُفترض بقاسم أن يقود جهود إعادة بناء الهيكل القيادي للحزب، وأن يعبر به محارق الحرب ومزالق السياسة، بينما تلاحقه في الوقت ذاته تحديات جمة من بينها التهديد الإسرائيلي الصريح باستهدافه على لسان وزير الدفاع المُقال يوآف غالانت.

يحدث ذلك بينما المقارنة بين قاسم وسلفه حسن نصر الله حاضرة في المشهد، فالأخير هو القائد الكاريزمي الأبرز في تاريخ الحزب، وربما في السياسة اللبنانية في العقود الثلاثة الأخيرة، حتى إن الوزير اللبناني السابق وئام وهاب ذهب إلى أن حجم لبنان تضاءل باغتيال نصر الله، لأنه الوحيد الذي إذا تكلم أنصتت لكلامه الأطراف الأخرى داخل لبنان وخارجه، وحين ترسم الدول الأخرى سياساتها تجاه لبنان تراعي حضور نصر الله وتأثيره، وذلك بحسب وهاب.

في المقابل، فإن نعيم قاسم لا يتسم بنفس القدر من الحضور والكاريزما من سلفه؛ ما يطرح تحديات مبكرة أمام قيادته. هذه الإشكالية سبق أن طرحها نظريا عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، مشيرا إلى أن القائد الكاريزمي يعتمد في قيادته على صفات شخصية تضمن ولاء الأتباع، لكن من يخلفه في مقعد القيادة عادة ما يكون ذا طابع محافظ فيقود بنمط يمزج بين السلطة التقليدية والروتين.

عند إسقاط مقاربة فيبر على حزب الله وقيادته الجديدة، نجد أنها تمنحنا نافذة لتوقع الشكل الذي ستبدو عليه قيادة نعيم قاسم. فقد قاد حسن نصر الله الحزب في صراعه مع الاحتلال إلى أن انسحب من المنطقة الأمنية العازلة بجنوب لبنان عام 2000، كما صمد في المواجهة خلال حرب 2006 التي قضت على المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت ووزير دفاعه عمير بيرتس ورئيس أركانه دان حالوتس.

ثم أصبح “مايسترو” ما يعرف بـ”محور المقاومة”، بالأخص بعد اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني قائد فيلق القدس مطلع عام 2020، كما قاد انخراط الحزب في سوريا بعد اندلاع الثورة، ليدشن المرحلة الأكثر جدلية في تاريخه، حيث نُظر إلى تدخل الحزب دعما لنظام الأسد كجزء من مشروع تحالفي يجمعهما بإيران.

هذا النمط القيادي الذي أظهره نصر الله من الصعب أن يضطلع به قائد بديل؛ ما يعني أن حزب الله لن يشهد فقط تغيرا في شخص القيادة، ولكن في نمطها وطريقتها أيضا، وهو ما نلمسه في كلمات نعيم قاسم نفسه، الذي أكد مرارا في خطاباته التي ألقاها منذ اغتيال نصر الله على مؤسسية حزب الله، وتوافر البدائل في صفوفه، والأهم، في قيامه بتفويض بعض المهام التي كانت تقع ضمن اختصاصات نصر الله إلى آخرين، خارج صفوف الحزب تماما في بعض الأحيان، مثل إسناده إدارة التوازنات الداخلية إلى الساحة السياسية اللبنانية، وإسناده التفاوض غير المباشر مع إسرائيل إلى نبيه بري، زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب اللبناني، في بيان رسمي متلفز.

يعد هذا فارقا مبكرا بين قيادة نصر الله وقيادة قاسم التي أبدت مرونة في التراجع خطوة إلى الخلف وتفويض جزء من القرار السياسي إلى مظلة أوسع يمثلها بري، ولعل الواقع الصعب الذي يعيشه حزب الله بعد اغتيال قيادته هو الذي فرض هذه الخطوة. لكن التحديات التي تواجه قيادة قاسم تتجاوز ذلك.

فعلى عكس حسن نصر الله، القائد القادم من ميدان العمل العسكري، تشير المصادر إلى أن قاسم لا يمتلك خبرة كبيرة بشؤون الحرب، حيث لم يكن ضمن دولاب تسيير العمل الميداني للحزب، وأن دوره كان رمزيا باعتباره نائب الأمين العام فضلا عن خلفيته التاريخية بصفته أحد مؤسسي الحزب منذ تدشينه.

ويعني ذلك أن قاسم سوف يضطر لتفويض المزيد من المهام، خاصة في الشؤون الميدانية والعسكرية داخل لبنان وخارجه لقيادات أخرى، وربما يلقي ذلك بظلال طويلة الأمد على الهيكل القيادي للحزب، وربما حتى على علاقته مع إيران راعيه الأول.

العلاقة مع إيران

شأنه شأن سلفه، يَدين نعيم قاسم بالولاية للفقيه الإيراني. وهو يوضح في كتابه “حزب الله: المنهج والتجربة والمستقبل” لوازم اتباع الحزب لولاية الفقيه، وتتلخص في أن الولي الفقيه هو ولي الأمر الواجب طاعته في الأمور العامة، بينما مراجع التقليد يُطاعون في الأمور الدينية المحضة، وفي حال اختلاف اجتهادهم عن الولي الفقيه، يقدم رأي الفقيه.

وشدد قاسم في كتابه أنه لا علاقة لموطن أو مكان إقامة الولي الفقيه بسلطته وصلاحياته، وبناء على ذلك فحينما اختلف مجلس شورى حزب الله بخصوص مشاركتهم في انتخابات مجلس النواب عام 1992 بين من رأى المنع لاعتباره النظام السياسي اللبناني لا يحتكم للشريعة الإسلامية، ومن يرى المشاركة لفوائدها بالانخراط في الحياة النيابية لتشكيل غطاء سياسي للعمل المقاوم ضد الاحتلال ولحماية سلاح الحزب؛ رفع مجلس شورى الحزب الموضوع إلى المرشد الإيراني علي خامنئي رغم أن القضية تمس شأنا داخل لبنان، فأفتى خامنئي بمشاركة الحزب في الانتخابات النيابية، وذلك بحسب ما أورده قاسم في كتابه عن حزب الله.

ويوضح قاسم أن قيادة حزب الله بما فيها مجلس الشورى تحصل على شرعيتها من الولي الفقيه، مع تخويلها بالإدارة والمتابعة التفصيلية اليومية لشؤون الحزب دون الانفراد بالقرارات في قضايا كبرى تشكل منعطفا، وبناء على تلك الأدبيات التي ذكرها نعيم في كتابه فإن القرارات التي تمس الحرب والسلم من المتوقع ألا ينفرد بها الحزب دون استشارة الولي الفقيه في إيران.

وهذه النقطة مهمة في فهم موقف حزب الله من الضغوط الإسرائيلية الداعية لفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة في الحرب الحالية، فقرار مثل هذا لا يقرره أمين عام الحزب ولا مجلس الشورى فحسب، إنما يقرره المرشد الإيراني، وهو ما كرره قاسم في عدد من لقاءاته الإعلامية.

رغم تلك الضوابط التي ذكرها نعيم في كتابه عن حزب الله، فإنه يعتقد أن حزب الله في عهد حسن نصر الله بلغ مكانة كبيرة ضمن منظومة “محور المقاومة”، لدرجة أنه كان مفوضا من قبل طهران في التعامل مع عدد من القضايا والملفات الإقليمية، مثل المساندة في تنظيم الميليشيات العراقية وتدريبها، وكذلك إدارة العلاقة مع جماعة الحوثي سياسيا وعسكريا.

وفي ضوء الضربات الواسعة التي أصابت الحزب والتغييرات التي تبعتها، ليس مستبعدا أن تعيد إيران تقييم قدرة الحزب اللبناني على الاضطلاع بالمهام الإقليمية الموكلة إليه في الوقت الراهن، فضلا عن إمكانية التدخل في عملية صنع القرار بشكل أكبر وراء الكواليس، لكن مع الحرص على ألا يمس ذلك صورة حزب الله واستقلالية قادته، خاصة في الشؤون الداخلية اللبنانية.

النظرة للصراع مع إسرائيل

من ثم، من غير المرجح أن تختلف قيادة قاسم عن سلفه على صعيد الخط الإستراتيجي للمواجهة مع إسرائيل، حيث يقدم نعيم قاسم في كتاباته المعركة مع إسرائيل على أنها معركة مفتوحة، ويعتبر أن تحرير جنوب لبنان فصل من فصول الصراع، لكن توجد فصول أخرى، مثل العمل على تحرير مزارع شبعا، فضلا عن ضرورة “ردع الأطماع التوسعية الإسرائيلية”، والتي يقول إن الجيش اللبناني غير قادر على النهوض بها في ظل اختلال موازين القوى بينه وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي.

يشدد قاسم في تنظيراته وكتاباته أيضا على أن موقع لبنان الجغرافي والسياسي يجعله بين أحد خيارين، إما أن يكون مع سوريا أو مع إسرائيل، وأن الأخيرة دائما ما تتذرع بمبررات شتى لتنفيذ اعتداءات على لبنان، من قبيل حماية سكان الشمال أو استهداف كوادر وفصائل فلسطينية داخل لبنان.

ويسوق قاسم تلك المبررات على أنها أسباب لرفض الحزب التخلي عن سلاحه أو سحب مقاتليه من الجنوب. ويشير إلى أن المقاومة هي رد فعل في مواجهة الاحتلال، وأن أي أثر يترتب عليها يكون من تداعيات الاحتلال لا المقاومة، وأن ثمن مقاومة الاحتلال مهما كبر أقل من ثمن التسليم للاحتلال.

ويقر قاسم بأن إمكانات حزب الله أضعف بكثير من إسرائيل، لكنه يشدد على أن تلك الفوارق يمكن جبرها باختيار الأساليب المناسبة لإيلام الاحتلال، وبالأخص ما يؤثر على أمنه؛ ما يثير تساؤلات حول مستقبل إسرائيل وجاذبيتها للهجرة وقدرتها على البقاء، وذلك عبر عمل مقاوم تراكمي طويل الأمد لا يقتصر على جولة واحدة أو عدة جولات من الحرب.

ويجادل قاسم بأن الصراع لا تحدده معايير القوة المادية فقط، إنما توجد عوامل أخرى مؤثرة فيه، من أبرزها الأداء الفعال والمعنويات والظروف المحلية والإقليمية والدولية، ولكنه يقر بقلق الحزب من الواقع السياسي الداخلي في لبنان، ومدى تأثيره وتوظيفه ضد الحزب خلال جولات القتال ضد إسرائيل.

ويشير قاسم في سياق مناقشته لعوامل الانتصار والهزيمة إلى أن “الكثير من الأحزاب والجماعات والمنظمات في منطقتنا العربية خسرت عندما اهتمت بأمور جزئية واستنفرت طاقاتها من أجلها، فضاعت منها القضايا الكبرى”، ويضيف: “القاعدة التي انطلق منها الحزب هي أولوية قتال إسرائيل، ورفضه لأي قتال داخلي مهما كانت مبرراته”.

ويضرب أمثلة برفض الحزب الاستجابة لضغوط المجتمع الشيعي اللبناني بالانخراط إلى جوار حركة أمل في حرب المخيمات ضد الفصائل الفلسطينية في عام 1985، وتجنبه الدخول في مواجهة مع الجيش السوري بلبنان إثر قتله سبعة وعشرين من عناصر الحزب في هجومه على ثكنة فتح الله ببيروت عام 1987، وقبول الحزب إنهاء الاقتتال الذي استمر لعامين بينه وبين حركة أمل، وتجنبه الصدام مع الجيش اللبناني إثر فض الجيش مظاهرة ضد اتفاقية أوسلو انطلقت من الضاحية الجنوبية ما أدى إلى مقتل تسعة متظاهرين وإصابة العشرات.

فيما برر قاسم تدخل الحزب العسكري في بيروت في أحداث مايو/أيار عام 2008 بأنه عمل دفاعي مؤقت لحماية شبكة اتصالات الحزب التي قررت حكومة فؤاد السنيورة تفكيكها آنذاك.

على الجانب الآخر، فإن دور الحزب في الحرب السورية ناقض وهدم كل ما سبق، وهو ما يتطلب مراجعة من قاسم وقيادة الحزب لذلك القرار في ضوء تأثيراته على الحزب سياسيا وأمنيا وأخلاقيا.

وإذا تجاوزنا التنظيرات إلى المستوى العملي، يظهر أن قاسم يتولى القيادة بين مطرقة العدوان الإسرائيلي وسندان الحاجة لمراجعة داخلية للسياقات والقرارات والممارسات الإستراتيجية والتكتيكية التي قادت الحزب إلى الوضع الصعب الذي يمر به حاليا، وسبق لقاسم أن قال بعد حرب 2006: “لقد درس حزب الله الحرب ونتائجها، واستفاد الدروس والعبر من إيجابياتها وسلبياتها”.

لكن الواقع يعضد أن إسرائيل هي التي فعلت ذلك، ومن ثم باغتت الحزب، بينما انشغل الحزب بصراعات أخرى انخرط بها في دول الجوار؛ ما أجج لهيبا طائفيا، وكشف الحزب أمنيا واستخباريا أمام تل أبيب.

إن القرارات في أوقات الحروب تكون لها تأثيرات وتداعيات استثنائية، وإن حزب الله بقيادته الجديدة وفي الخلف منها داعموها وحلفاؤها بحاجة إلى مراجعات إستراتيجية. وفي حين يُعد نعيم قاسم نظريا من دعاة “تكريس القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، وجمع الطاقات لدعمها بكل السبل المتاحة” بحسب نصوص كتاباته، فإن تفعيل تلك الدعوة يتطلب الابتعاد عن الممارسات والمواقف الطائفية، وبالأخص في الملفات التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى بؤر استقطاب وساحات استنزاف أثرت سلبا على شعوب المنطقة وقضاياها، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.

شاركها.
Exit mobile version