أنقرة- وسط تصاعد التوتر في المشهد السياسي التركي، يجد رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو نفسه في قلب عاصفة قضائية، بعدما فتحت النيابة العامة تحقيقين منفصلين ضده بتهم الفساد المالي والتواطؤ مع منظمة إرهابية.

وبينما تؤكد الحكومة أن القضاء يتحرك وفق القانون، تتهم المعارضة السلطات بتوظيفه لإقصاء إمام أوغلو، الذي يُنظر إليه كأحد أبرز منافسي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وعلى وقع هذه التطورات تتكشف تفاصيل التحقيقات وسط تساؤلات عن التداعيات المحتملة على مستقبل إمام أوغلو والخريطة السياسية لتركيا.

الشرطة التركية تعتقل رئيس بلدية إسطنبول وحزب الشعب الجمهوري يصف الاعتقال بالمحاولة الانقلابية

ما التحقيقات الجارية؟

أفادت وسائل إعلام محلية بأنه تم البدء باستجواب إمام أوغلو والمشتبه بهم الآخرين. ووفقا لبيان صادر عن مكتب المدعي العام في إسطنبول، فإن التحقيقات تستهدف شبكة فساد مزعومة داخل بلدية إسطنبول الكبرى، يُعتقد أنها استفادت من المناقصات والعقود العامة بشكل غير قانوني، إلى جانب تحقيق منفصل بشأن ارتباطات محتملة بحزب العمال الكردستاني.

وبحسب تحقيقات النيابة، فإن إمام أوغلو يواجه 7 تهم رئيسية، تشمل قيادة منظمة إجرامية، وعضويتها، والاحتيال الشديد، والرشوة، والاستحواذ غير القانوني على البيانات الشخصية، وتزوير المناقصات، والمحسوبية واستغلال الوظيفة العامة.

وتستند النيابة في اتهاماتها إلى أدلة تشمل وثائق مالية، وتحويلات بنكية مشبوهة، وتسجيلات مصورة ومواد رقمية، إضافة إلى شهادات بعض المسؤولين الذين جرى استجوابهم في القضية.

وفي السياق، أفادت مصادر صحفية بأن رئيس بلدية بيليك دوزو المعتقل محمد مراد تشاليك، قد يصبح شاهدا رئيسيا في التحقيقات، بعدما طلب المساعدة قبل أشهر في أنقرة، معترفا بارتكاب مخالفات بمشاركة إمام أوغلو، وبتوجيه مباشر منه.

ووفقا للمعلومات المتداولة، سلمت جهات داخل بلدية إسطنبول الكبرى وثائق مهمة للسلطات، ما أدى إلى اعتقال رئيس بلدية بشيكتاش رضا أكبولات، الذي قرر التعاون مع المحققين. وتشير التقارير إلى أنه كتب اعترافات تفصيلية من 40 صفحة، تضمنت معلومات دقيقة حول المخالفات داخل الحزب.

“فضيحة عدّ النقود”

أحد أبرز التطورات التي أسهمت في تسريع التحقيقات كان انتشار مقاطع فيديو مسربة قبل نحو عام، تُظهر أشخاصا داخل مقر تابع لحزب الشعب الجمهوري في إسطنبول، وهم يخرجون مبالغ نقدية ضخمة من حقائب سوداء ويعدّونها على الطاولات.

وأثارت هذه المقاطع ضجة كبيرة في الأوساط السياسية، ودعت الحكومة إلى فتح تحقيق موسع لمعرفة مصدر الأموال وطريقة إدارتها.

وتوصلت النيابة إلى أن هذه الأموال تعود إلى تحويلات مالية غير مشروعة من شركات متعاقدة مع بلدية إسطنبول الكبرى، والتي حصلت على مناقصات مشبوهة.

وتُشير التحقيقات إلى أن 14 عقارا في منطقة “أياغزا” في ساريير بإسطنبول تم بيعها في ديسمبر/كانون الأول 2019 لصالح حزب الشعب الجمهوري، وأن هذه العمليات تمت بتنسيق بين شخصيات بارزة في البلدية ورجال أعمال على صلة بالحزب.

وشملت الاعتقالات التي تلت هذه الفضيحة مسؤولين بارزين في بلدية إسطنبول الكبرى، من بينهم نجاتي أوزكان مدير حملة إمام أوغلو، ومدير عام البلدية جان أكين شاغلار، ومدير عام الثقافة في البلدية مراد عباس، إضافة إلى رجال أعمال ومتعهدين يشتبه بتورطهم في عمليات غسل أموال ورشاوى.

التواطؤ مع منظمة إرهابية

إلى جانب تحقيقات الفساد، يواجه إمام أوغلو اتهامات منفصلة تتعلق بعلاقته بحزب العمال الكردستاني، وذلك في إطار ما يُعرف بـ”الاتفاق الحضري”، الذي جرى خلال الانتخابات المحلية الأخيرة بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي (الذي يُنظر إليه على أنه مقرب من حزب العمال الكردستاني).

ووفقا لتحقيقات النيابة، فإن هذا الاتفاق أتاح لأشخاص مرتبطين بحزب العمال الكردستاني الترشح ضمن قوائم حزب الشعب الجمهوري للمجالس البلدية، مما مكّنهم من الوصول إلى مناصب إدارية داخل البلديات الكبرى.

وقد أدى هذا الملف إلى اعتقال عدد من نواب رؤساء البلديات ومسؤولي المجالس المحلية، فيما يُحقق مع إمام أوغلو حول دوره في الموافقة على هذه القوائم، وما إذا كان على علم بالعلاقات المفترضة لبعض المرشحين مع الحزب المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا.

وفقا للبيانات التي حصلت عليها السلطات، فإن 10 مسؤولين في بلدية إسطنبول الكبرى، بينهم نائبا رئيس بلدية كل من “أتاشهير” و”كارتال”، و8 أعضاء في مجلس البلدية، وردت أسماؤهم في قاعدة بيانات حزب مؤتمر الشعوب الديمقراطي، وأثبتت التحقيقات أن بعضهم مرتبط بشكل مباشر بمنظمة العمال الكردستاني.

إلى أين وصلت التحقيقات؟

أعلن مكتب المدعي العام في إسطنبول عن التحفظ على شركة “إمام أوغلو للإنشاءات” المملوكة جزئيا لأكرم إمام أوغلو، وذلك بناء على قرار قضائي مرتبط بتحقيقات في جرائم مالية.

ووفقا للتحقيقات، حصلت شركة “إيستكون” المملوكة لرجل الأعمال علي نوح أوغلو، المقرب من إمام أوغلو، على مناقصة بقيمة 2.1 مليار ليرة (55.26 مليون دولار) من شركة كيب تاش التابعة لبلدية إسطنبول، وذلك قبل 15 يوما فقط من اعتقال رئيس البلدية.

كما أظهرت الأدلة أن مليوني دولار نقدا تم سحبها بتفويض من شخص يدعى محمد غفران غولسيرين، الذي كان يعمل سابقا سائقا في شركتي “إيستكون” و”نوح أوغلو للإنشاءات”.

وفي سياق آخر، تشير الوثائق المالية إلى أن شركة “إمام أوغلو للإنشاءات” كانت محور تدفقات مالية غير مبررة، من بينها صفقة شراء 3 فيلات فاخرة بقيمة سوقية تبلغ 50 مليون دولار، تم بيعها لإمام أوغلو مقابل 15 مليون ليرة (394 ألفا و736 دولارًا) فقط، ما أثار تساؤلات حول مصدر هذه الأموال وطبيعة العلاقة المالية بينه وبين شركائه.

كما كشفت التحقيقات عن تحويلات مالية مشبوهة من شركة “إيه تي زِد إنِرجي”، التي حصلت على عقود بمليارات الليرات من بلدية إسطنبول بين 2019 و2024، إلى شركة “غلوجة للزراعة”.

وفي 1 مارس/آذار 2024، ارتفع رأس مال الشركة بشكل مفاجئ من 50 ألف ليرة (1316 دولارًا) إلى 46.75 مليون ليرة (1.23 مليون دولار)، قبل أيام من بيع حصتها بالكامل إلى شركة “إمام أوغلو للإنشاءات”، التي يملكها إمام أوغلو بنسبة 60% ووالده بنسبة 40%.

وتشير التحقيقات إلى أن حجم الفساد المالي المتورط فيه مسؤولون داخل بلدية إسطنبول الكبرى يبلغ 560 مليار ليرة تركية (14.74 مليار دولار)، حيث  تورطت شركات تابعة للبلدية في مخالفات تشمل التلاعب بالمناقصات، والاحتيال المالي.

وفي قضية أخرى، كشفت التحقيقات الجارية بشأن عن قضية مثيرة تتعلق بمحاولة ابتزاز وطلب رشوة من مالكي مركز “كاباسيتي مول” التجاري، وهو أحد أبرز مراكز التسوق في المدينة.

ووفقا لوثائق الادعاء، فإن إرتان يلدز، رئيس لجنة الشراكات في المجلس البلدي لبلدية إسطنبول، وسليمان أتيك، أحد المسؤولين المتهمين في القضية، طالبا إدارة المركز التجاري بدفع رشوة قدرها 5 ملايين يورو، مقابل عدم إصدار قرار إداري يفيد بأن المبنى غير مقاوم للزلازل.

وعندما رفضت إدارة المركز التجاري الاستجابة لمطالب الرشوة، قامت البلدية بفرض غرامة مالية ضخمة بقيمة 197 مليون ليرة تركية (5.18 ملايين دولار) على المول.

وتشير التحقيقات إلى أن سليمان أتيك استخدم نفوذه داخل البلدية للضغط على أصحاب المركز، حيث وجه لهم تهديدا مباشرا قائلا “بعد سنتين، سيكون الشخص الذي سيصبح رئيس الجمهورية أمامكم، ولا ترغبون في مواجهته”، في إشارة ضمنية إلى نفوذ إمام أوغلو السياسي المتوقع.

ما السيناريوهات المحتملة؟

يرى المحلل السياسي علي أسمر أن الاتهامات الموجهة لإمام أوغلو قد تُضعف موقفه السياسي، مما قد يحدّ من قدرته على لعب الدور الذي شغله سابقا في المعارضة التركية.

وأشار أسمر، في حديث للجزيرة نت، إلى أن هذا الوضع قد يدفع الأضواء نحو منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة، الذي كان منافسا قويا لإمام أوغلو في الانتخابات السابقة، ويحظى بشعبية واسعة خاصة بين القوميين.

من جهته، اعتبر المحلل السياسي مراد تورال أن التطورات الجارية يجب قراءتها أيضا في سياق الصراعات الداخلية داخل حزب الشعب الجمهوري، إذ رأى أن بعض القيادات داخل الحزب لم تكن راضية عن سيطرة إمام أوغلو على المشهد السياسي المعارض.

واستدل على ذلك بتصريح رئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، الذي قال تعليقا على القضية “لا أحد فوق القانون، كل شخص يمكن أن يُحاكم، وإذا ثبتت إدانته يعاقب وفق القانون”.

وتوقع تورال، في حديث للجزيرة نت، أن يجري الحزب الانتخابات التمهيدية المقررة يوم الأحد المقبل باعتبارها انتخابات ليست رسمية ولا تشترط حضور إمام أوغلو بشكل شخصي لإجرائها.

شاركها.
Exit mobile version