طهران/أنقرة/موسكو- بعد مرور نحو 40 يوما على إعلان طهران إفشال مشروع “ممر زنغزور” ردا على مطالبة تركيا لها بدعم إنشائه، عاد الملف إلى الواجهة بإعلان السفير الأميركي لدى أنقرة توم باراك، عن مقترح جديد تقوده بلاده يقضي بأن تتولى شركة لوجستية أميركية إدارة الممر، وهو ما أثار جملة من التساؤلات حول المواقف الإقليمية من هذا الطرح وتداعياته على توازنات جنوب القوقاز.

تتعامل إيران مع المقترح الأميركي باعتباره تصعيدا يستهدف إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في جنوب القوقاز، ويهدد بإشعال مواجهة مباشرة بينها وبين المحور الأميركي الإسرائيلي في منطقة لطالما اعتبرتها عمقها الإستراتيجي.

ورغم عدم صدور رد رسمي مباشر على المقترح، شدد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، في مؤتمر صحفي عقده الاثنين الماضي، على أن موقف طهران من هذا الملف “واضح وثابت”، مؤكدا أن “أي إنشاء لممرات يجب ألا يمس بسيادة الدول وسلامتها الإقليمية أو يخرق الحدود المعترف بها دوليا”.

وتتقاطع تصريحات بقائي مع مواقف سابقة للمرشد الأعلى علي خامنئي، الذي عبّر عن معارضته الصريحة للممر خلال استقباله رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في يوليو/تموز 2024، وأكد خلال لقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في صيف 2022 أن “الجمهورية الإسلامية ترفض أي سياسة تستهدف إغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا”، واصفا هذه الحدود بأنها “طريق تواصل يمتد لآلاف السنين”.

أذربيجان تسيطر على كاراباخ وتركيا تسعى لفتح ممر زنغزور.. هل تنجح؟

بين واشنطن وطهران

من جانبها، ترى الباحثة في العلاقات الدولية برستو بهرامي راد أن امتناع طهران عن التعليق العلني على المقترح الأميركي يعود لانشغالها بملفات أكثر أولوية، لكنها أكدت في حديثها للجزيرة نت أن موقف إيران الرافض لمد ممر زنغزور على حدودها لم يتغير، وتراه خطا أحمر لا يمكن تجاوزه.

وفسرت بهرامي راد الطرح الأميركي بأنه “نتاج فشل بعض الأطراف الإقليمية في فرض رؤيتها منفردة، فلجأت إلى دعم واشنطن لإضفاء شرعية دولية على المشروع”، مشيرة إلى أن أذربيجان لطالما تمكنت من الوصول إلى إقليم نخجوان عبر الأراضي الإيرانية دون عوائق.

وحذرت الباحثة الإيرانية من أن دخول واشنطن على خط إدارة الممر هدفه تطويق النفوذ الإيراني والروسي في القوقاز، والتصدي لشبكة الممرات الدولية التي تربط طهران وبكين وموسكو، مضيفة أن “هذا الطرح قد يؤدي إلى توتر إقليمي يبرر استخدام القوة من قِبل بعض الأطراف، بما فيها إيران، لضمان أمنها القومي”.

واعتبرت أن الممر “يشكل تهديدا إستراتيجيا” لإيران، إذ يقطع تواصلها المباشر مع أرمينيا، التي تُعد منفذها الوحيد نحو أوروبا الشرقية، ويعزز الوجود الإسرائيلي على حدودها عبر أذربيجان.

ركيزة تركيا

أما في أنقرة، فتتقاطع المواقف التركية والأذربيجانية حول رفض أي إشراف خارجي على الممر، رغم اختلاف الخطاب السياسي بين الجانبين. ففي حين تؤكد أذربيجان على سيادتها الكاملة على الممر باعتباره طريقا يربط أراضيها الرئيسية بجمهورية نخجوان، تصفه تركيا بأنه أحد أعمدة “الممر الأوسط” الذي يربط الشرق بالغرب ويمر عبر آسيا الوسطى.

ويتمسك الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف برفض تقديم أي “تنازلات متبادلة” لأرمينيا، مؤكدا أن مرور البضائع يجب أن يتم بحرية، دون رقابة أو جمارك، وتحت سيادة أذربيجانية خالصة.

ورغم أن المقترح الأميركي مستلهم من نماذج أوروبية تهدف إلى تقديم آليات إدارة محايدة لتقليل التوتر، رفضته باكو واعتبرته انتقاصا من السيادة، واشترطت للمضي قدما في اتفاق السلام مع أرمينيا تنازلات جوهرية، من أبرزها تعديل الدستور الأرميني والتخلي عن مواقف مجموعة مينسك.

من جهتها، ترى أنقرة أن نجاح مشروع الممر مرهون بتحقيق التطبيع الكامل بين باكو ويريفان، وتبدي استعدادها للعب دور الوسيط والمساهمة في تطوير البنية التحتية الأرمينية، لكنها ترفض توسيع صلاحيات أي شركة دولية لتشمل أراضي نخجوان أو انتزاع السيادة من أذربيجان.

من جهته، وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ممر زنغزور بأنه “تغيير في قواعد اللعبة”، مشيرا إلى أن نجاحه لا يقتصر على أذربيجان وتركيا فقط، بل سيعود بالنفع على أرمينيا وإيران وبقية دول المنطقة، داعيا إلى تحويل الممر إلى منصة تعاون إقليمي بدلا من جعله محور نزاع جيوسياسي.

وفي حديثه للجزيرة نت، رأى المحلل السياسي عمر أفشار أن مستقبل المشروع يتوقف على قدرة تركيا على لعب دور توازني بين دعمها الثابت لحليفتها أذربيجان، وبين مراعاة الهواجس الإقليمية لأطراف أخرى كإيران وأرمينيا وروسيا.

وأضاف أن نجاح تركيا في هذا التوازن قد يمكّنها من ترسيخ الممر كبنية تحتية إستراتيجية، تتجاوز مجرد كونه طريق عبور، ليصبح أداة لإعادة تشكيل خريطة الطاقة والتجارة والنفوذ في القوقاز.

شروط أرمينيا

في المقابل، ترفض يريفان مصطلح “ممر زنغزور”، وتصر على تسميته بـ”مفترق طرق العالم”، معتبرة أن المشروع لا ينبغي أن يخرق سيادتها أو يفرض ترتيبات خارجية على أراضيها.

وتؤيد أرمينيا مشروعا لربط شبكات النقل بين الأطراف عبر خط السكك الحديدية “يراسخ-جلفا-أوردوباد-ميغري-هوراديز”، الذي يربطها بكل من روسيا وإيران، ويتيح لأذربيجان الوصول إلى نخجوان.

وأكدت السلطات الأرمينية أنها مستعدة لضمان مرور البضائع والركاب الأذريين عبر أراضيها، بشرط أن تخضع كافة العمليات لرقابة وسيطرة المؤسسات الأرمينية دون منح أي امتيازات سيادية لأذربيجان.

واعتبر الخبير الأرميني هاكوب كارابيتيان في حديثه للجزيرة نت أن المقترح الأميركي يهدف إلى خلق مزيد من الضغط على روسيا، وتحويل عزلتها في جنوب القوقاز إلى “ورقة تفاوضية” في المحادثات الأميركية الروسية المستقبلية بشأن الحرب الأوكرانية.

وقال إن واشنطن وأنقرة وباكو تتقاطع مصالحها في المشروع، ما قد يفضي إلى إقصاء موسكو من معادلة الأمن الإقليمي في المنطقة وإغلاق الحدود الإيرانية.

وأشار إلى أن الرئيس الأذربيجاني علييف ورئيس الوزراء الأرميني باشينيان كانا على اطلاع مسبق على المقترح الأميركي، مرجحا أن يكون قد طرح خلال لقاءاتهما الأخيرة في أبوظبي.

ويرى كارابيتيان أن توجه باشينيان نحو الغرب وتوتير العلاقات مع موسكو يعكس إدراكه لمحدودية خيارات أرمينيا، مؤكدا أن التقارب مع أنقرة وباكو هو جزء من إعادة تموضع إستراتيجي للقيادة الأرمينية، قد يفضي إلى تقليص الاعتماد على روسيا مستقبلا.

وختم بالقول إن باشينيان يمهد لإعادة إنتاج سلطته من خلال انتخابات مقبلة، وسيواصل على الأرجح مسار الانفتاح على الغرب، حتى وإن تطلب الأمر إعادة النظر في تحالفات أرمينيا التاريخية.

شاركها.
Exit mobile version