باريس- بالتزامن مع المعارك الضارية بين فصائل المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية في عدد من محاور التوغل في قطاع غزة انطلقت معارك أخرى قضائية في المحاكم الدولية في لاهاي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وقد أصدرت محكمتا العدل الدولية والجنائية الدولية عددا من الإجراءات والطلبات، من أهمها اتهامات بارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، كما صدرت أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين.

وفي خلاصة عام كامل من الجلسات المستعجلة والمذكرات أشاد خبراء في القانون الدولي بعمل الهيئتين القضائيتين رغم كل الضغوطات الخارجية، ورغم اعتبارهم أنهما لن تحلا المشاكل بشكل فوري فإنهما تساعدان في إعادة ترتيب القطع على رقعة الشطرنج، بما يتناسب مع قواعد القانون الدولي ونظام روما الأساسي.

يذكر أن جنوب أفريقيا قدمت دعوى ضد إسرائيل لإثبات ارتكابها جريمة إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني في ديسمبر/كانون الأول الماضي، في حين رفعت نيكاراغوا دعوى أخرى ضد ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك اتفاقية 1948 لمنع الإبادة الجماعية بسبب تزويدها إسرائيل بأسلحة تستخدمها خلال العدوان المستمر في غزة.

تعرف على تفاصيل دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية

التزام نشيط

ويرى البروفيسور وليام شاباس أستاذ القانون الدولي بجامعة ميدلسكس في لندن أن المحاكم الدولية الرئيسية كانت نشطة بشكل مدهش طوال عام كامل، وذلك منذ بدء العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى”.

وأكد شاباس أنه لم يكن يتخيل أن أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة ستولي اهتماما كبيرا للقضيتين المرفوعتين من قبل جنوب أفريقيا ونيكاراغو والرأي الاستشاري القوي الذي صدر في يوليو/تموز الماضي.

من جهة أخرى، أوضح شاباس في حديثه للجزيرة نت أن سقف توقعاته في البداية لم يكن عاليا بشأن المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان، لكن الأمور شهدت تغيرا محوريا منذ مايو/أيار الماضي عندما أعلن الأخير تعرضه للتهديد من نواب أميركيين بسبب طلبه إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

بدوره، قال الخبير في القانون الدولي جيل دوفير إن اتخاذ محكمة العدل الدولية 3 قرارات عاجلة في إطار دعوى جنوب أفريقيا وإخبارها إسرائيل أنها من المحتمل اتهامها بارتكابها جريمة إبادة جماعية وأن لها الحق في اتخاذ خطوات لوقفها يعدان سابقة تاريخية تُحسب لها.

وتابع دوفير في حديثه للجزيرة نت أنه عند النظر إلى تاريخ جميع القرارات التي أصدرتها العدل الدولية يستوقفنا القرار الشهير الذي أصدرته في قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة عام 1986 حين انتصرت هذه الدولة الشيوعية الصغيرة وتم تنفيذ القرار.

كما أشار إلى أن طلب الرأي الذي تقدمت به الحكومة الفلسطينية للجمعية العامة قبل عامين لمعرفة ما إذا كان الاحتلال العسكري الإسرائيلي قانونيا أم لا وأصدرت المحكمة قرارا نموذجيا بشأنه في 19 يوليو/تموز الماضي اعتمد على جميع أسس قرار “جدار الفصل” لعام 2004، والذي نص على أن الاحتلال العسكري لا يعطي أي حق للمحتل في البقاء، وطالب إسرائيل بوقف البناء فيه.

ومن بين الإنجازات التي سلط دوفير الضوء عليها هي اعتماد كلتا السلطتين القضائيتين الدوليتين تسمية “دولة فلسطين” بدلا من “السلطة الفلسطينية” رغم أنها غير مسجلة في الجمعية العامة، بسبب الحصار الذي تفرضه الأمم المتحدة.

تأثيرات خارجية

وقدم دوفير وفريقه المكون من أكثر من 600 محامٍ من 15 دولة أول شكوى في الجنائية الدولية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تطالب بفتح تحقيق في الوقائع المنسوبة إلى جيش الاحتلال في قطاع غزة منذ عملية “طوفان الأقصى”.

وأوضح الخبير الفرنسي أن قوة الشكوى دفعت المدعي العام إلى إصدار قراره في 20 مايو/أيار الماضي بطلب أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، مشيرا إلى أنه في النظام الأساسي للمحكمة عندما يطلب المدعي العام هذه الأوامر يكون الأمر متروكا للدائرة التمهيدية، وهي لجنة مكونة من 3 قضاة لتحديد التنفيذ من عدمه.

لكن عند بداية عمل القضاة المعنيين على الملف عرقلت المملكة المتحدة الإجراءات في يونيو/حزيران واستأنفت الاختصاص القضائي، مبررة ذلك بالتزام فلسطين باتفاقيات أوسلو، والذي يمنعها من التصرف مباشرة أمام المحكمة، مما أدى إلى إبطاء أوامر الاعتقال.

ولهذا السبب، انتقد دوفير بشدة طول المواعيد النهائية التي تعد من أهم نقاط ضعف المحكمتين الدوليتين، فعلى سبيل المثال لا يزال النقاش مستمرا بشأن الإبادة الجماعية رغم إصدار الأوامر المؤقتة، وقد يستغرق ذلك من 3 إلى 4 سنوات، فضلا عن تأخير صدور قرارات الشكاوى ومذكرات الاعتقال، والتحيزات التي لا تنتهي لأطراف معينة.

وتعليقا على ذلك، وصف دوفير عمل المحكمة بـ”المتناقض”، لأن الغرفة ملزمة بالرد بالتفصيل على الاختصاص القضائي لجميع ملخصات المذكرات الـ80، والتي قدمتها الدول في أعقاب ما سماها “المبادرة الفاسدة من بريطانيا”.

في المقابل، شدد شاباس على ضرورة الاعتراف بأن المحكمتين الدوليتين لا يمكنهما أن تكونا ندا للجيش الإسرائيلي، معتبرا أن الاعتقاد بامتلاك 15 قاضيا في لاهاي عصا سحرية للقيام بذلك سيكون ضربا من الخيال.

وعن تأثير الولايات المتحدة على سير الشكاوى المرفوعة ضد إسرائيل يعتبر شاباس أن الولايات المتحدة هي آخر دولة ستتأثر بمحكمة دولية، لأنها تعتبر نفسها فوق القانون، وتضع معايير مزدوجة له وتطبقه على هواها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “لكن التفكير في إمكانية ترويض الولايات المتحدة من خلال محكمتي العدل الدولية أو الجنائية الدولية هو أمر طموح للغاية”.

وفيما يتعلق بمذكرات اعتقال نتنياهو، لفت القاضي الكندي إلى مطالبته الجنائية الدولية باتخاذ هذه الخطوة منذ أكثر من 15 عاما، قائلا “ما زلت أنتظر ما سيحدث بهذا الشأن، لكنني أتوقع معارضة شرسة من الولايات المتحدة لقرارات المحكمة رغم أنها دعمت سابقا اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”.

زيادة الدعم

وعلى الرغم من أن المحاكم الدولية لا يمكنها تحقيق العدالة وحدها فإن نضال الفلسطينيين ممتد لعقود وهم مصرّون على استرجاع الحقوق كاملة، وكما قال المناضل الحقوقي الأميركي مارتن لوثر كينغ “القوس الأخلاقي للكون طويل، ولكنه يميل نحو العدالة”.

وهي رسالة وقضية يؤمن بها البروفيسور شاباس الذي كان رئيس لجنة التحقيق الخاصة في الحرب على قطاع غزة عام 2014، قبل تقديم استقالته نتيجة الانتقادات الشديدة التي تعرض لها من إسرائيل، لأنه كان يطمح لإحالة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وبحكم تجربته في القانون والمجال الأكاديمي، ذكر شاباس أنه قبل عام كان من الصعب للغاية التحدث عن فلسطين وإسرائيل أو استخدام مصطلحات مثل الإبادة الجماعية والفصل العنصري “وإذا فعلت ذلك فستتعرض إلى ما يضر أو ينهي مسيرتك المهنية بأكملها، لكن ذلك تغير بفضل الأحكام الصادرة عن العدل الدولية”، مؤكدا أن السلطتين القضائيتين نجحتا في تعتيم صورة الاحتلال أمام العالم وزيادة عزلته الدبلوماسية أكثر من أي وقت مضى.

ونتيجة لكل مواقف الدول والشعوب حول العالم يرى جيل دوفير أن عدد الجهات الداعمة لفلسطين تزايد، وأصبح التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أكثر إيجابية، مشيرا إلى توليه العمل على اتفاقية التعاون بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي تنص على وجوب احترام حقوق الإنسان وتأكيد المحكمة على عدم قانونية المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية.

وفي السياق ذاته، يعتقد الخبير في القانون الدولي أن حلفاء إسرائيل الأوروبيين سيكونون ملزمين بتطبيق أوامر الاعتقال بحق نتنياهو الذي يلجأ إلى أوروبا بشكل كبير، وسيغيرون مواقفهم الداعمة لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

وكمحام ورجل سلام ومحب للإنسانية -كما يصف نفسه- أعرب دوفير عن صدمته بقرار محكمة العدل الدولية في 19 يوليو/تموز الماضي والمكون من 80 صفحة والذي قضت فيه أن الحل الوحيد هو إنهاء الاستعمار فورا، مضيفا “نشهد اليوم حربا غير متكافئة بين المقاومة الفلسطينية التي تدافع عن الأرض وبين القنابل والقوة الجوية بتمويل أميركي كبير، لذا لا نزال متشبثين بصوت القانون حتى الرمق الأخير”.

شاركها.
Exit mobile version