البابا والمرأة

البابا الذي ولد في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، عاش معظم تجاربه الشخصية ككاهن في فترة كان المرشحون للكهنوت عادة ينضمون إلى السلك الكنسي في سن مبكرة، ويعيشون في بيئة يُحدد فيها التفاعل مع الجنس الآخر بشدة، لدرجة أنهم كانوا يمتنعون عن النظر إلى النساء، وهو الانضباط المعروف في لغة العالم الكهنوتي باسم “حراسة العيون”.

لكن فرنسيس الذي كان قد حصل على شهادة في الكيمياء، عمل في فترة مبكرة من شبابه تحت إدارة إيستر باليسترينو دي كارياجا، وهي امرأة شيوعية من باراغواي هربت من نظام الدكتاتورية العسكرية في بلادها واستقرت في بوينس آيرس، ليصبح فرنسيس أول بابا في تاريخ الفاتيكان يقضي فترة من حياته في العمل تحت إمرة امرأة.

وقد لعبت دي كارياجا دورًا مؤثرًا في حياة فرنسيس، فحسب تصريحات صحفية له قال إنها “حفرت في ذاكرتي أهمية الانتباه إلى التفاصيل، والعمل معها كان أحد أفضل الأشياء التي فعلتها في حياتي”، وتابع قائلًا إنه يدين “بالكثير لتلك المرأة العظيمة”.

وقبل ذلك كانت جدته روزا، فقد علمته اللغة الإيطالية إذ كانت تخشى أن تذوب هويته في الأرجنتين، خاصة أن والده كان يحدثه بالإسبانية ليندمج مع المجتمع، لكنه عاش مع جدته معظم طفولته وقضى معها لحظاتها الأخيرة ممسكًا بيديها في سكرات الموت.

تمر سنوات طويلة ولا تغادره ذكرى جدته، لدرجة أنه قال حين صار بابا للفاتيكان إن “النساء يحمين العالم ويُبقينه حيًا”. وبعد انتخابه بفترة وجيزة، أرسل إليه الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر رسالةً تذمر فيها من الحدود التي تفرضها الكنيسة على النساء في المناصب القيادية.

وفي نهاية أبريل/نيسان 2023، أراد البابا فرنسيس أن يحرز تقدمًا حين أبدى موافقته على السماح للنساء بالتصويت خلال اجتماع عالمي للأساقفة عقد في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، قبل أن يسمح للنساء بشغل بعض المناصب الاستشارية في القصر الرسولي.

لكن ذلك لم يحمه من الانتقادات، ففي مقال بمجلة “التايم” انتقد الكاتب جون ألين موقف البابا تجاه النساء، مؤكدًا على إصراره بشأن عدم رسامة النساء كهنوتيًا. ويرى الكاتب أن “جدار الشعبية الكاسحة يحمي البابا من الانتقادات” رغم أنه لم يحرز الكثير في هذا الصدد. تزعج هذه الشعبية المحافظين الذين طالما رأوا في بعض الآباء السابقين، مثل يوحنا بولس الثاني، رجلًا يتمتع بشعبية جارفة لم تمنعه من الالتزام بالخط الكاثوليكي التقليدي، بينما حصد فرنسيس تلك الشعبية وهو يناور حول هذا الخط.

لكنْ إذا كانت باباوية فرنسيس قد أحبطت طموح النسويات، فإنها تصدت للاعتداءات الجنسية التي لم يكن قد تعامل معها البابا السابق. فقد قرر البابا فرنسيس عزل كاردينال واجه اتهامات بالاعتداء الجنسي على قُصّر وبالغين، نفاها الكاردينال كلها. وفي عام 2019، وضع معايير تتطلب من الكنيسة سماع الأشخاص الذين يتهمون الكهنة بالاعتداء الجنسي، مما يضمن أن يتم “الترحيب بهم والاستماع إليهم ودعمهم”، بدلا من دفن الرؤوس في الرمال والانحياز إلى الكهنة.

تبدو باباوية فرنسيس للكثيرين وكأنها استعادة للشعبية الباباوية في ظل تناقص الدور الذي يلعبه الدين في الغرب، ولكنها تبدو لآخرين محاولة للدوران حول التقاليد، كرقصة التانغو، فلا هو يكسرها ولا هو يلتزم بها تمامًا، وكأن باباويته محاولة لرسم طريق وسَطٍ بين مشروع التقليديين الذي تركه بنديكت وبين ثورية الإصلاحيين، التي تعني الاستجابة لهذا الانقضاض على الإرث المؤسسي الكاثوليكي الروماني.

ما بعد نهاية رقصة التانغو

تعبّر محاولات البابا فرنسيس الكثيرة للتصالح مع العصر عن طبيعة شخصيته وروحه الانفتاحية أكثر مما تعبر عن أفكار تجديدية يحملها. ولذلك، يقف البابا دومًا في منتصف الطريق كوسيط يبحث عن التوازن في عالم مضطرب. لكن هذا التوازن كثيرًا ما يأتي على حساب المضطهدين والمظلومين.

فمثلًا، يبدو موقف البابا فرنسيس من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منسجمًا مع كافة مواقفه السابقة. ولا نقصد بذلك موقفه من العرب والمسلمين، الذي ربما ينظر إليه باعتباره أكثر انفتاحًا من سابقيه، لكنها تأخرت قليلا، ولم تكن بالحسم الذي كان يُتوقع من قائد ديني كبير قادم من أمريكا الجنوبية، التي اعتادت أن تُسمع إسرائيل نبرة عالية في النقد وتريها من نفسها معارضة صاخبة لجرائمها.

في مقال أفردته مجلة “نيويوركر” لموقف البابا فرنسيس من الحرب الإسرائيلية في غزة، كتب بول إيلي أن القصر الرسولي شهد جدلًا حول الموقف من إسرائيل والفلسطينيين.

ففي 13 فبراير/شباط 2024، تحدث سكرتير دولة الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، الذي كان يلاحقه الصحفيون أثناء مغادرته إحدى الفعاليات في روما، عن الضربات العسكرية الإسرائيلية على غزة، وقال: “إن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، الذي تم التذرع به لتبرير هذه العملية، يجب أن يكون متناسبا، ومع سقوط 30 ألف قتيل فهو بالتأكيد ليس كذلك”.

وسرعان ما أصدرت السفارة الإسرائيلية لدى الفاتيكان بيانا باللغة الإيطالية وصفت فيه تصريحات بارولين حول الرد “التناسبي” بأنها “مؤسفة”.

كان البابا فرنسيس قد ظهر يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد يوم واحد من هجوم المقاومة الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في محيط قطاع غزة، ليقول “فلتتوقف الهجمات والأسلحة من فضلكم، يجب أن يكون مفهوما أن الإرهاب والحرب لا يؤديان إلى أي حل، باستثناء موت ومعاناة العديد من الأبرياء”. وفي الأسبوع التالي أكد على “حق الذين يتعرضون للهجوم في الدفاع عن أنفسهم”، وطلب “إطلاق سراح الرهائن فورا”.

ثم دعا سكرتير البابا مرة أخرى حركة حماس إلى إطلاق سراح الرهائن، لكنه حذر من أنه “خلال الدفاع المشروع لإسرائيل عن النفس، لا ينبغي تعريض حياة المدنيين الفلسطينيين الذين يعيشون في غزة للخطر”. ودعا البابا فرنسيس خلال صلاة الأحد المسماة صلاة التبشير الملائكي، يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى وقف إطلاق النار قائلا: “توقفوا أيها الإخوة والأخوات: الحرب دائما هزيمة.. دائما، دائما!”.

البابا فرنسيس أثناء لقائه ببعض ممثلي الفلسطينيين في الفاتيكان في نوفمبر/تشرين الثاني 2023

استمر البابا في محاولة الحفاظ على خيط رفيع بين جميع الأطراف. ففي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وقّع أكثر من 400 حاخام وعالم منخرطين في الحوار بين الأديان على رسالة مفتوحة تحث فرنسيس على “مد يد التضامن مع المجتمع اليهودي”.

وفي الأسبوع التالي، التقى فرنسيس عشرات من أقارب الأسرى الإسرائيليين في غزة، ثم التقى 10 من أقارب الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل أو سجنتهم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول. وبعد خروجهم من الاجتماع، قال الفلسطينيون للصحفيين إن فرنسيس تحدث عن الحملة الإسرائيلية بوصفها “إبادة جماعية”، بينما نفى المتحدث باسم الفاتيكان في وقت لاحق أن يكون البابا قد فعل ذلك.

ثم ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” بعد ذلك أن فرنسيس قال للرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، خلال مكالمة هاتفية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إنه “من الممنوع الرد على الإرهاب بالإرهاب”. وفي رسالة إلى “إخوته وأخواته اليهود في إسرائيل”، بتاريخ 2 فبراير/شباط 2024، كرر البابا فرنسيس أن “العلاقة التي تربطنا بكم هي علاقة خاصة وفريدة، دون أن تحجب بطبيعة الحال العلاقة التي تربط الكنيسة بالآخرين والالتزام تجاههم أيضا”.

لكن إذا كانت إسرائيل قد رأت في خطابات البابا ميلًا نحو الفلسطينيين، فإن الفلسطينيين رأوا في كلامه حلولًا دبلوماسية لا تعبر عن حجم المأساة التي يعيشونها. كذلك، تُذكّر مواقف البابا من العدوان على غزة بموقفه من الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين، إذ رفض البابا اعتبار روسيا دولة معتدية في هذه الحرب، فاضطر مسؤولو الفاتيكان للدفاع عنه قائلين: إنه كان يأمل أن يعمل وسيطا في عملية سلام مستقبلية.

غير أن مواقف البابا لم تنته حينها، إذ طالب في مارس/آذار الماضي أوكرانيا بالتحلي بالشجاعة ورفع العلم الأبيض “الذي يعني الاستعداد للتفاوض لا الاستسلام”، وهو ما خلّف عواصف من الانتقادات.

يرى بول آيلي في مقاله بمجلة “نيويوركر”، أن موقف البابا فرنسيس من الحرب على غزة أصبح أكثر وضوحا، وهو يقف على أرضية أكثر صلابة. فعلى مدى 60 عاما، سعى الفاتيكان إلى بداية جديدة مع اليهودية، مدركا الجذور العميقة لمعاداة السامية في ماضي الكنيسة وصمت البابا بيوس الثاني عشر خلال الحرب العالمية الثانية على المحرقة النازية.

وقد تحدث البابا يوحنا بولس الثاني عن “الحق الطبيعي للفلسطينيين في وطن” خلال زيارة إلى الضفة الغربية في عام 2000؛ ومنذ ذلك الحين دعم الفاتيكان حل الدولتين، واعترف بدولة فلسطين في عام 2015. ومع ذلك، يبدو أنه حتى في هذه الحرب التي تدور رحاها في المكان الذي يعرفه المسيحيون بالأرض المقدسة؛ لا يلعب البابا الدور المنوط به.

يبلغ البابا فرنسيس الآن من العمر 86 عاما، وأعرب كثيرًا عن عدم نيته الاستقالة إلا إذا لم يعد قادرًا على أداء واجباته. لكنْ حتى لو جاوز البابا سن المئة في منصبه، فلا يزال أتباع الكنيسة الكاثوليكية قلقين من أن خليفته قد يضغط من أجل إغلاق المجال الذي ساهم في فتحه البابا القادم من الأرجنتين.

أما المستقبل، فيأمل البابا أن يكون للشباب دور أكبر في رسمه للكنيسة ويحاول مخاطبتهم بالأدوات في جعبته. ففي نهاية عام 2024 أعلن البابا فرنسيس أنه قرر الإعلان عن شخصيتين كاثوليكيتين من الشباب باعتبارهم قديسيْن. الأول هو الشاب جورجيو فراساتي، الذي توفي جراء شلل الأطفال قبل 100 عام عن عمر يناهز الرابعة والعشرين، بعد حياة قصيرة قضى الكثير منها في خدمة الكنيسة.

أما الثاني فهو كارلو أكوتيس، وهو مراهق إيطالي وُلد عام 1991 وتوفي عام 2006 بمرض سرطان الدم. كان كارلو قد علّم نفسه البرمجة واستغل جهده لخدمة الكنيسة. وقبل وفاته، أهدى كارلو آلامه ومعاناته للكنيسة وللبابا بنديكت السادس عشر، في طقس كاثوليكي يُرجى به دخول الجنة مباشرة، بلا سابقة حساب ولا عذاب. قرر البابا أن يكون الإعلان عن كارلو كقديس في صباح يوم الأحد 27 أبريل/نيسان 2025.

ورغم أنه لا يمكن التكهن بسهولة بما في جعبة البابا، أو بما قد تصبح عليه الكنيسة، فإن طريقة فرنسيس في القيادة لا يبدو أنها تسهم في إضعاف الكنيسة. فبحسب مقربيه الذين تحدثوا للصحفيين على مدار سنوات، يمكن القول إن فرنسيس قد يكون عنيدا، وقد يتدخل إلى حد بعيد في أعمال الأقسام الفاتيكانية، ولكن لا يعني كل ذلك أنه سيترك وراءه بابوية أضعف مما كانت عليه عندما دخلها.

ساهم في تحرير النص عبدالرحمن عياش

شاركها.
Exit mobile version