في مساء الثاني عشر من يناير/كانون الثاني 2022، كان الفلسطيني عمر أسعد (78 عاما) يقود سيارته عائدا من تجمع عائلي في قريته “جلجيليا” الواقعة شمالي مدينة رام الله، حين أوقفه جنود إسرائيليون في إحدى نقاط التفتيش المنتشرة في الضفة الغربية. وبحسب شهود عيان، انتزعه الجنود من السيارة بالقوة وانهالوا عليه ضربا، بلا تحذير مسبق وبلا ضرورة، ثم كبَّلوه بالأصفاد وعصبوا يديه وعينيه بشرائط من القماش، قبل اقتياده رفقة فلسطينيين آخرين جرى توقيفهم بالأسلوب ذاته إلى بناية مجاورة تحت الإنشاء، ثم دفعوه إلى الاستلقاء على بطنه فوق الأرض الباردة لأكثر من ساعة، مما أدى إلى وفاته بسكتة قلبية ناجمة عن الإجهاد.

قصة أسعد واحدة من آلاف قصص التعذيب والاضطهاد اللذين يمارسهما الاحتلال بصورة يومية ضد الشعب الفلسطيني، وكانت من الممكن أن تمر، كما يمر غيرها، فلا يصل إلينا من أخبارها إلا القليل. لكن أسعد لم يكن فلسطينيا فقط، بل كان مزدوج الجنسية ويحمل جوازَ سفرٍ أميركيا. ربما كان هذا فقط هو السبب الذي دفع قصة أسعد إلى واجهة الإعلام العالمي.

وقد أصرت وزارة الخارجية الأميركية على إجراء تحقيق جنائي شامل في الواقعة، تبين خلاله أن الجنود المسؤولين عن مقتل أسعد ينتمون إلى كتيبة تابعة للجيش الإسرائيلي تُدعى “نيتسح يهودا” (بالعربية: يهودا الأبدية). ثم شكلت لجنة خاصة تابعة لوزارة الخارجية الأميركية أواخر عام 2022 للتحقيق بشأن ممارسات هذه الكتيبة، ليصبح سجل تجاوزاتها، منذ ذلك اليوم، وجهة للإدانات المتكررة. فما “نيتسح يهودا”؟ وكيف لم تكن حادثة أسعد إلا هامشا صغيرا على متن كبير من الممارسات الدموية للكتيبة؟

نيتسح يهودا: باب خلفي لاستيعاب المتطرفين

تأسست الكتيبة عام 1999 ضمن مشروع أشرفت عليه منظمة “نيتسح يهودا” بالتعاون مع وزارة الدفاع الإسرائيلية، وهي منظمة يهودية يعود إنشاؤها إلى العام ذاته، أسسها مجموعة من حاخامات الحريديم المتشددين الذين يعملون مع قسم الأمن الاجتماعي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، مع وجود مؤشرات قد ترجح أن الهدف الأساسي من تكوين المنظمة هو إنشاء الكتيبة.

في بداياتها، كانت الكتيبة مجرد وحدة عسكرية صغيرة تحمل اسم “ناحال حريدي” (بالعربية: تيار الشباب الملتزم)، وتكونت آنذاك من 30 جنديا من الحريديم، بهدف تشجيع ذكور هذه الطائفة على تأدية الخدمة العسكرية، في وظائف غير قتالية.

وتجدر الإشارة إلى أن الحريديم (بالعربية: الخائفون من الله) تيار يهودي أرثوذكسي متشدد، نشأ في القرن الـ19 بهدف الحفاظ على التقاليد اليهودية القديمة، يعتبر أعضاؤه التوراة هويتهم الأساسية ويضعون دراستها أولوية، لذلك يرفضون المشاركة في أي نشاط يصرف انتباههم عنها، بما يدفع ذكور الطائفة إلى التفرغ للدراسة الدينية والامتناع عن أي واجبات أخرى تكسر حالة عزلتهم الروحية، بما في ذلك تأدية الخدمة العسكرية أو المشاركة في القوى العاملة داخل المجتمع الإسرائيلي.

من جهة أخرى، ينظر الحريديم إلى مبادئ الحياة العسكرية وأعرافها في إسرائيل باعتبارها مخالفة لنمط معيشتهم المتدين، نظرا لأن الاحتلال يسمح بتجنيد الإناث واختلاط الجنسين، كما لا يخصص أوقاتا للصلاة أو الدراسة الدينية داخل منشآته العسكرية، وغير ذلك من الأمور التي تعدها الطائفة متعارضة ومنهجها الأصولي.

ورغم أن إعفاء اليهود المتدينين من الخدمة العسكرية كان مقبولا مع تأسيس الدولة، بموجب ترتيب “توراتو أومانوتو” (بالعربية: دراسة التوراة هي وظيفته) الذي صِيغَ عام 1948، حين كان نحو 400 شاب حريدي فقط يدرسون في المعاهد الدينية في ذلك الوقت.

لكن تزايد أعداد الحريديم بات عاملا ضاغطا على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حيث تُشكِّل الطائفة اليوم نحو 13% من المجتمع الإسرائيلي (1,28 مليون نسمة)، مع نسبة نمو تبلغ 4% مقابل نسبة عامة للإسرائيليين تبلغ 2,3%، وبذلك يكون المجتمع الحريدي الأسرع نموا في إسرائيل، نظرا لالتزام أفراده بالحفاظ على معدلات إنجاب مرتفعة باعتبارها جزءا من قيمهم الدينية، ومن المتوقع أن تصل نسبتهم إلى أكثر من 20% من الكتلة السكانية بحلول عام 2030، كما يُمثِّل ذكورهم الذين بلغوا سن الخدمة العسكرية نسبة 16% من إجمالي المطلوبين للخدمة في إسرائيل في الوقت الحالي.

وعلى جانب آخر، يثير إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية استياء عامة الإسرائيليين، الذين يلتزمون بأداء الخدمة العسكرية وتُسهم ضرائبهم في دعم الحريديم العاطلين عن العمل، في صورة تبرعات وإعانات معيشية، مما يعزز من حالة الانقسام ويزيد من الضغوط على حكومة تل أبيب.

شبكات | من يهود "الحريديم" ولماذا يرفضون التجنيد الإجباري بجيش الاحتلال الإسرائيلي؟

 

دفع ذلك جيش الاحتلال إلى البحث عن حلول عبر إنشاء كتيبة “نيتسح يهودا” وفق ترتيبات معينة، منها: اقتصار الخدمة في الوحدة على الذكور فقط والتأكد من عدم اتصالهم بالنساء المجندات، إضافة إلى السماح بأوقات أطول للصلاة مع اتباع معايير غذائية تتوافق والشريعة اليهودية، كذلك الحرص على التواصل بين الجنود وحاخامات الحريديم من خلال زيارتهم المعسكرات دوريا، بما يحافظ على النمط الديني في حياة الجنود، ويُشجِّع المجتمع الحريدي على الدفع بأبنائه إلى الخدمة العسكرية.

توظيف التطرف: مَن المستفيد؟

يتبع مسار التجنيد في كتيبة “نيتسح يهودا” نمطا يُسمى “ييشيفاة هيسدير”، ويعني الجمع بين دراسة العلوم العسكرية والتوراتية، من خلال برنامج دراسي قتالي يدعى “تزافتا”، تأسس بالتعاون بين منظمة “نيتسح يهودا” وشبكة مدارس “هدفاتا” الدينية، وهي مدارس أُنشئت قبل عدة سنوات بهدف توسيع عدد الحريديم الذين يخدمون في مسارات قتالية داخل الجيش الإسرائيلي. وبحسب موقع منظمة “نيتسح يهودا”، يجمع برنامج “تزافتا” بين الدراسات الدينية في الصباح والتدريبات القتالية في فترة ما بعد الظهيرة.

وتشير التقارير إلى أن حاخامات جمعية “نيتسح يهودا” يحرصون على زيارة جنود الكتيبة والاجتماع بهم لمناقشة المسائل الدينية وإلقاء الدروس أسبوعيا. كما يحرصون على متابعتهم في أعقاب انتهاء مدة الخدمة، وذلك بغرض مساعدتهم على الاندماج في المجتمع مع الحفاظ على قيمهم المتشددة.

وفي هذا الصدد، يروي جوناثان روزنبلوم، مؤسس منظمة الموارد الإعلامية اليهودية، (إحدى القوى المحركة لإنشاء وحدة نحال حريدي)عن التزام الحاخام يتسحاق بار حاييم بالسفر من القدس إلى إحدى القواعد الخمس التي يتمركز فيها جنود الكتيبة يوميا على مدار أعوام عدة، حيث توجد 3 قواعد في قطاع جنين، واثنتان في وادي الأردن. ويؤكد جوناثان أن التزام الحاخام امتد ليشمل السفر إلى مواقع الدورات التدريبية حينما يكون الجنود خارج قواعدهم.

ومن جانب آخر، يذكر موقع منظمة “نيتسح يهودا” أن الفئة المستهدفة للتجنيد في الكتيبة هم شباب الحريديم المتسربين من المعاهد التوراتية، مما يعني أن المنظمة لا تُشجِّع ذكور الحريديم الملتزمين بالدراسة على الانضمام إلى الجيش.

ويحقق وجود الكتيبة لحاخامات الحريديم أهدافا عدة، حيث يمنع أبناءها المتسربين من المعاهد الدينية من الاختلاط بالمجتمع العلماني وتأثرهم به، كما أن احترام الجيش للمعايير الخاصة بالحريديم والتزامه بتوفير دراسة دينية لهؤلاء الشباب، إضافة إلى ما توفره الحياة العسكرية من انضباط، يجعل من الجيش بديلا مناسبا للمعاهد الدينية التي تركها هؤلاء.

يعني ذلك أن المستفيد الأول من إنشاء الكتيبة هو تيار الحريديم نفسه وليس الجيش الإسرائيلي. وخلافا للتصور القائم على أن الكتيبة تُمكِّن الجيش من دمج اليهود المتشددين في صفوفه، فإن الواقع يشير إلى أن الكتيبة باتت وسيلة لاستيعاب الأرثوذكس المتشددين الذين تركوا الإطار الديني إلى إطار آخر مشابه.

ومع ذلك، تشير تقارير إلى أن الكتيبة التي أُنشئت بالأساس لاستيعاب الشباب الحريدي المتسرب من التعليم باتت تضم في الواقع عددا قليلا منهم، حيث تحولت عمليا إلى كتيبة دينية – سياسية، تتسع لمستوطنين متشددين من تيارات أخرى، مثل ذكور عصابة “شبيبة التلال” الصهيونية المتطرفة، إضافة إلى آخرين لا يرغبون في مخالطة النساء خلال فترة الخدمة العسكرية.

من أسباب ذلك أن منظمة “نيتسح يهودا” التي ترعى قرابة ثلاثة آلاف شاب حريدي، ممن فشلوا في الالتحاق بالمدارس التوراتية، اتسع نشاطها في السنوات الأخيرة ليشمل استهداف شبان متطرفين لا ينتمون إلى المجتمع الحريدي، وذلك بغرض تجنيدهم في أكثر من كتيبة داخل الجيش.

وتهتم المنظمة على وجه خاص بمجتمعات المستوطنين، بما في ذلك تيارات الحردلية، وهي تيارات تجمع بين البُعد القومي الصهيوني والبُعد الديني المتشدد، مما أسفر عن انضمام أكثر من 14 ألف مقاتل صهيوني إلى المنظمة، علاوة على 700 جندي وافد من الخارج، ويتوزع هؤلاء على 6 كتائب داخل الجيش الإسرائيلي، لكن تظل كتيبة “نيتسح يهودا” الأكثر جاذبية للجنود المتطرفين.

وتضم الكتيبة في الوقت الحالي أكثر من ألف جندي، وتُعد جزءا من لواء كفير، الذي تأسس عام 2005، وهو أحد أكبر ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي، إذ يضم 5 كتائب أخرى مع وحدتين نخبويتين. وقد أوكلت للواء مهام تتعلق بمكافحة “الإرهاب” في الضفة الغربية، وتصفه قوات الاحتلال بأنه “في طليعة الحرب ضد الإرهاب الفلسطيني”، رغم أن نظرة واحدة على سجل اللواء كافية للتعرف على الإرهابي الحقيقي.

ينافسون رفاقهم: مَن الأكثر سُعارا؟!

وتشمل مهام كتيبة “نيتسح يهودا” تنفيذ عمليات في إطار حروب العصابات داخل المناطق الحضرية والمعقدة، واستباق عمليات المقاومة الفلسطينية وإحباطها، إضافة إلى إقامة نقاط التفتيش وتنفيذ الاعتقالات في الضفة الغربية. وبدأت الكتيبة العمل في المهام القتالية عام 2002، وقد ارتكز نطاق عملها منذ عام 2008 في قطاعَيْ رام الله وجنين، كما عُدّت لفترة طويلة الكتيبة الوحيدة التي لا تخضع لعمليات تدوير خارج الضفة الغربية.

ومع ذلك، نُقِلت في ديسمبر/كانون الأول 2022 إلى هضبة الجولان، حيث تمركزت على طول الحدود الشمالية للاحتلال الإسرائيلي مع سوريا، وبينما رُبط هذا القرار بالحوادث العديدة التي استخدم فيها جنود الكتيبة العنف المفرط ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة، لكن سلطات الاحتلال نفت علاقة ذلك بسلوك الجنود وأعلنت، آنذاك، أن الإجراء مؤقت ويجري ضمن عمليات إعادة انتشار اعتيادية للقوات.

يُذكر أن وسائل إعلام إسرائيلية كانت قد طالبت مرارا بنقل الكتيبة خارج الضفة الغربية للحد من احتكاكها مع المدنيين الفلسطينيين. كما أن أصواتا من وزارة الدفاع الإسرائيلية اقترحت تفكيك “نيتسح يهودا” وتوزيعها على كتائب أخرى، لكن هذا قد يكون له أسباب أخرى تتعلق بما تناقلته تقارير حول سلوك أفرادها المتمرد، وتلقيهم الأوامر من قادة المستوطنين ومن الحاخامات الذي يزورون قواعدها بصفة مستمرة، عوضا عن اتباع المبادئ والمعايير العسكرية، مما يجعلها أقرب إلى ميليشيا دينية مستقلة أكثر من كونها وحدة تتبع قيادة الجيش.

يعضد ذلك ما تداولته تقارير حول قيام منظمة “نيتسح يهودا” بجمع تبرعات وأموال، بغرض تزويد أفراد الكتيبة بالمعدات والأسلحة، التي لم يكن الجيش الإسرائيلي قادرا على تحمل تكلفتها، فيما أشارت وسائل إعلام أميركية إلى أن منظمة “أصدقاء ناحال حريدي” الأميركية غير الربحية دأبت على تقديم دعم مالي للكتيبة على مدار سنوات.

ويشير ياجيل ليفي، أستاذ علم الاجتماع والعلوم السياسية في الجامعة المفتوحة في إسرائيل، إلى أن الكتيبة باتت تمتلك ثقافة خاصة بها تميز نفسها عن الثقافة العسكرية العامة، بل وتكافح ضدها، والسبب وراء ذلك هو اعتقاد جنودها بأن إخضاع الفلسطينيين مهمة “مقدسة” دينيا، وليست مجرد مهمة عسكرية مرتبطة بقرارات صادرة عن الجيش، وهو ما صرّح به قائد الكتيبة “إيتمار ديشل” عام 2017 لصحيفة “معاريف” الإسرائيلية.

أضف إلى ذلك أن معظم جنود الكتيبة هم من الذين عانوا الفشل سابقا على المستويين الأكاديمي والاجتماعي، ومن المتسربين من مؤسسات التعليم. وحسب تفسيرات نفسية، فإن استخدامهم العنف المفرط ضد الفلسطينيين، كما يذكر ياجيل ليفي، قد يكون وسيلة لإعادة تثبيت الذات.

ومع وجود الكتيبة داخل لواء “كفير” سيئ السمعة والمعروف أيضا بارتكابه جرائم لا حصر لها بحق الفلسطينيين، تتجلى ظاهرة أخرى وهي المزايدة في العنف، حيث يتبارى أعضاء “نيتسح يهودا” في إثبات تفوقهم على أقرانهم المنتمين إلى الكتائب الأخرى التي يضمها اللواء، من خلال توجيه مستوى أعلى من العنف نحو الفلسطينيين، وهو ما يُعبِّر عنه أحد أفراد الكتيبة بقوله: “الرغبة في التفوق أخذت البعض منا إلى أقصى الحدود”، فيما يقرّ آخر بإلقائه قنابل صوتية على منازل الفلسطينيين خلال الجولات الروتينية المعتادة لمجرد الضحك، ولإثبات أن أفراد الكتيبة “قوة مختلفة”.

وتجلَّت هذه الميول العنيفة في الاستقواء على الفلسطينيين العُزل في الضفة، حيث اكتسبت “نيتسح يهودا” على مدار السنوات الماضية سمعة الكتيبة الأشد عنفا بين الوحدات العسكرية الإسرائيلية، وثبت تورطها في جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، كما أُدين عناصر منها بتعذيب السجناء الفلسطينيين والتنكيل بهم.

وأبعد من ذلك، امتد عنف “نيتسح يهودا” ليشمل مخالفيهم الرأي في الداخل الإسرائيلي، ففي يونيو/حزيران 2023، اندلعت مواجهات بين فلسطينيين ومستوطنين بالقرب من بؤر استيطانية غير مرخصة في الضفة، وحين تدخلت شرطة الحدود لفصلهم، قام جنود “نيتسح يهودا” بسبّ أفراد الشرطة وتشجيع المستوطنين على مهاجمتهم.

وتُظهِر هذه الواقعة، وغيرها، أن جنود “نيتسح يهودا” باتوا يتعاملون في المجتمع الإسرائيلي كما لو كانوا ميليشيا مستقلة تابعة للمستوطنين وليسوا جزءا من الجيش النظامي، ويبدو أن وزير المالية المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، يؤيد هذا التصور، حيث يجهر بأنه يرى ارتباطا فكريا بين جنود “نيتسح يهودا” وسكان البؤر الاستيطانية غير المصرح بها، بما يدفعه للتعبير عن سعادته، لأن هؤلاء الجنود -من وجهة نظره- يعرفون مهمتهم بالضبط.

بعض من التفاح الفاسد: هكذا تروي إسرائيل القصة

ورغم عيوبها الكثيرة، يرى قادة الجيش أن المساس بالكتيبة أو حلّها سيكون بمنزلة إعلان حرب على قيادات المستوطنين الذين يرونها إحدى ركائز مشروع الاستيطان، ومن ثم يلقى سلوك الكتيبة الإجرامي تساهلا واضحا من قِبَل المسؤولين في الجيش الإسرائيلي. ودائما ما تخلص التحقيقات في الانتهاكات التي تمارسها الكتيبة ضد الفلسطينيين إلى اختلاق الأعذار للجنود أو الاكتفاء بالتوبيخ، وربما فرض عقوبات تأديبية بسيطة في بعض الحالات التي تجلب ردود أفعال دولية وإعلامية واسعة، مثلما في حالة عمر أسعد التي أدت إلى تهديد الإدارة الأميركية بفرض عقوبات على الكتيبة.

أبعد من ذلك، كثيرا ما أشادت قيادات إسرائيلية بأداء الكتيبة. على سبيل المثال، ما أعلنه يهودا فوكس، الرئيس السابق للقيادة المركزية الإسرائيلية، من أن الكتيبة “تضم مقاتلين ممتازين ولا تُعد ميليشيا بأي شكل”. كما رصدت وسائل إعلام غربية ترقية ضباط من الكتيبة إلى مناصب عليا في الجيش الإسرائيلي، وأشارت إلى أن هؤلاء الضباط يشرفون حاليا على تدريب القوات البرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى إدارة العمليات في غزة، مما يعني أن المؤسسة العسكرية ليست لديها نية للاستغناء عن “نيتسح يهودا”.

في السياق ذاته، تشير منظمة “كسر الصمت”، وهي منظمة إسرائيلية من قدامى المحاربين ومناهضة للاحتلال، إلى أن الجيش الإسرائيلي حريص على وجود هؤلاء الجنود في صفوفه لأنه يستخدمهم كبش فداء، إذ يمكن من خلالهم أن يدّعي أمام المجتمع الدولي أن الانتهاكات هي خطأ عدد قليل من “التفاح الفاسد”، بدلا من تلقي الانتقادات بشكل واسع لممارسات المؤسسة العسكرية طويلة الأمد.

وتؤكد ذلك ناتاشا روث، أستاذة التاريخ والباحثة في منظمة تحالف الشتات، إذ ترى أن الانتقادات في مثل هذه الحالة تتركز على “نيتسح يهودا”، باعتبارها منظمة دينية عسكرية، بينما تتجاهل النظام الأوسع الذي تمارس فيه الكتيبة انتهاكاتها، وينمي هذه الأيديولوجية العنيفة. وتضيف روث أن حجة “التفاح الفاسد” باتت حجة مكررة، حيث تستخدمها إسرائيل وأنصارها كلما تصدر الإرهاب اليهودي وعنف المستوطنين عناوين الأخبار.

علاوة على ما سبق، فإن أغلبية المجندين في الكتيبة من المُلاحَظ أنهم ينتمون إلى طبقات اجتماعية أقل من أفراد النخبة الأشكنازية، ويُشكِّل اليهود الشرقيون الأرثوذوكس الكتلة الأكبر في “نيتسح يهودا”، وكما هي العادة في إسرائيل، ثمة تعمُّد دائم للاستعانة بالمجموعات الاجتماعية المهمشة لأداء أبشع الوظائف داخل جهازها الاستعماري.

وكأنما الظاهرة الاستعمارية تعيد تخليق نفسها. فكما أن إسرائيل، ذاتها، كانت أداة غربية لتوظيف فئة اليهود المهمشة اجتماعيا في الغرب لتحقيق أغراض استعمارية في المشرق العربي، فإن إسرائيل، اليوم، تعيد توظيف بعض فئاتها المهمشة للقيام بالأدوار الاستعمارية الأكثر سوءا والأشد قسوة.

شاركها.
Exit mobile version