أنقرة- بينما تشهد سوريا تحولات ميدانية كبيرة، تجد تركيا نفسها أمام اختبار جديد يعيد رسم معادلات الصراع الإقليمي. فمع التقدم السريع لفصائل المعارضة المدعومة منها شمال البلاد، تتزايد التساؤلات حول دور أنقرة في تحريك الملف السوري، خصوصا في حلب وحماة.

وكثف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مشاوراته الدولية، متلقيا سلسلة من الاتصالات مع نظرائه حول العالم لتقييم الوضع المتأزم وبحث الخطوات اللازمة لاحتوائه.

كما استقبل نظيره الإيراني عباس عراقجي في أنقرة وأكدا أهمية التعاون الإقليمي، مع الاعتراف بوجود خلافات تحتاج إلى حلول مشتركة. وشدد فيدان على ضرورة التوصل إلى تسوية بين الحكومة السورية والمعارضة، بينما أكد عراقجي أهمية الحفاظ على مكتسبات مسار أستانا واستقرار المنطقة.

الموقف الداخلي

من جانبه، قال الرئيس رجب طيب أردوغان إن بلاده ستتخذ كافة التدابير لحماية أمنها القومي، مؤكدا متابعة التصعيد العسكري شمال سوريا “لحظة بلحظة”. وأضاف أن أنقرة مستعدة للتحرك لإخماد “الحريق المشتعل في منطقتنا”، مع التأكيد على موقفها الراسخ بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية والتوصل إلى حل سياسي ينهي حالة عدم الاستقرار الممتدة منذ 13 عاما.

رغم الخلافات السياسية الداخلية، فإن مواقف المعارضة التركية تجاه الأحداث الجارية في سوريا لا تختلف كثيرا عن الموقف الرسمي. ووصف أحمد داود أوغلو رئيس حزب المستقبل المعارض شروط الرئيس السوري بشار الأسد لقبول التطبيع مع أنقرة -والتي تضمنت انسحاب القوات التركية من سوريا- بأنها “موقف متعجرف”.

وقال داود أوغلو “الأسد يدفع الآن ثمن الردود المتعجرفة التي قدمها على دعوات الرئيس أردوغان للتطبيع. لو اختار التفاهم مع تركيا، لكان بإمكانه الحفاظ على نفوذه في دمشق بشكل أكبر”.

من جانبه، أعرب رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو عن حزنه العميق تجاه التصعيد الأخير قائلا “لقد اندلعت الصراعات مجددا في سوريا ونحن نتابع هذه التطورات بحزن شديد”.

أما حزب السعادة فأعلن معارضته أي عمليات عسكرية تركية تستهدف “النظام السوري” أو الجماعات الإيرانية في المنطقة، محذرا من أن مثل هذه الخطوات تخدم “المصالح الصهيونية والإمبريالية العالمية”.

ووصف رئيس الحزب الجديد محمود أريكان -في منشور على منصة إكس- التطورات الأخيرة في الشمال السوري بأنها “أكبر تهديد أمني في تاريخ الجمهورية التركية”، معربا عن قلقه من تصعيد قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وخلق موجة نزوح جديدة للمدنيين.

دعم محسوب

وفق الباحث في الشأن التركي علي أسمر، كانت أنقرة على مدار سنوات لاعبا رئيسيا في دعم المعارضة السورية عبر التدريب العسكري واللوجستي حيث افتتحت أكاديمية عسكرية شمال سوريا قبل عدة أشهر، لافتا إلى أنها لم تتدخل بشكل مباشر في الهجوم الأخير على حلب واختارت إدارة الوضع من مسافة بعيدة دون عرقلته، بينما تدعم بشكل واضح الجيش الوطني السوري في العمليات الجارية في تل رفعت والمرتقبة في منبج.

وأكد أسمر -للجزيرة نت- أن تركيا تتخذ خطوات إستراتيجية لمنع تزايد نفوذ حزب العمال الكردستاني في ظل حالة الفوضى الحالية، ملوحا باستعدادها لاتخاذ الإجراءات اللازمة إذا تفاقم الوضع.

وبرأيه، يمثل التصعيد الأخير انعكاسا غير مباشر للتطورات الإقليمية التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مشيرا إلى وجود توافق دولي متزايد على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا. وقال إن تركيا تسعى إلى استغلال هذا المناخ الدولي لصالحها بعد سنوات من مواجهة ظروف دولية غير مواتية.

وأكد الباحث أسمر أن تقدم المعارضة السورية يمثل ورقة ضغط يمكن لأنقرة استخدامها في المفاوضات الدولية المقبلة، كما أن توسيع مناطقها يخدم مصلحة تركيا حيث يساهم في زيادة مساحة المنطقة الآمنة، مما يساعد في تخفيف أعباء أزمة اللاجئين داخلها.

ووفقا له، لم يعد المسار السياسي الحالي، بما فيه مسار أستانا، صالحا للوضع الراهن في المنطقة، داعيا إلى إطلاق آخر جديد ينصف تركيا بشكل أكبر. كما توقع إمكانية إحياء مسار جنيف والقرار الأممي 2254، لا سيما مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

وبخصوص العلاقات الإقليمية والدولية، رأى الباحث أن روسيا لن تفرط بعلاقاتها مع تركيا نظرا لدورها كحلقة وصل رئيسية بينها والغرب خاصة في ملفات حساسة مثل تصدير الحبوب والصراع مع أوكرانيا. وبالنسبة لإيران، وصف القرار الدولي بإنهاء نفوذها في سوريا بـ”المحسوم”، مؤكدا أن تركيا لن تكون قادرة على مساعدة طهران في مواجهة هذا الضغط الدولي.

وضع مريح

من جانبه، قال المحلل السياسي طه عودة أوغلو إن أنقرة تجد نفسها اليوم في وضع أفضل بكثير مقارنة بالسنوات الماضية، مستشهدا بالتفاهمات التي أبرمتها مع موسكو والولايات المتحدة، خاصة اتفاق مارس/آذار 2020 بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والتفاهمات الميدانية في 2019.

وباعتقاده، أضافت سيطرة المعارضة السورية مؤخرا على مناطق واسعة شمال سوريا أوراق قوة جديدة لتركيا مما يسهل عليها تحقيق أهدافها، مثل السيطرة على مناطق الوجود الكردي مثل تل رفعت ومناطق أخرى.

وأوضح -للجزيرة نت- أن هذه المكاسب ساعدت تركيا في تخفيف الضغوط الدولية والمحلية، خاصة من القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية التي كانت متحفظة بشأن خوض صراعات جديدة في ظل الأزمات الاقتصادية الراهنة. وأكد أن تركيا تسعى لاستغلال هذه التطورات لتحقيق أهداف سياسية ودبلوماسية خاصة في الملف الكردي الذي مثل معضلة كبيرة لها خلال السنوات الماضية.

وتابع “هناك توجه تركي لإبعاد الوحدات الكردية وملء الفراغ الناجم عن ذلك بسيطرة أنقرة، بالتزامن مع رغبة واضحة في تقويض النفوذ الإيراني، خاصة أن تركيا كانت تشعر بانزعاج متزايد من تحركات طهران في الساحتين العراقية والسورية في الأعوام الماضية”.

وحول تصريحات فيدان التي دعت إلى تفاهمات بين الأسد والمعارضة، أوضح عودة أوغلو أن مسار التطبيع الذي تبنته تركيا مع النظام السوري في العامين الأخيرين ركز على قضايا اللاجئين ومكافحة الإرهاب، لكنه تطرق أيضا إلى تنفيذ القرارات الدولية، مثل القرار 2254 الذي يؤكد على الالتزام بوحدة سوريا وسيادتها واستقلالها وسلامتها الإقليمية.

أما عن التباينات بين تركيا وإيران، فلفت إلى أن المؤتمر الصحفي الأخير بين وزيري خارجية البلدين كشف عن اختلافات كبيرة في وجهات النظر، خصوصا حول هجوم حلب.

وأكد المحلل أن “طهران تواصل دعمها للنظام السوري وتصف المعارضة بالإرهابية”، مما يعقد مسار الحل السلمي ويهدد بتحويل الأوضاع إلى سيناريوهات أكثر خطورة خلال الأيام المقبلة، محذرا من أن أي تصعيد غير محسوب قد لا يخدم الشعب السوري أو الأطراف الفاعلة في المنطقة.

شاركها.
Exit mobile version