ضمن تغطيتها للذكرى الأولى لهجوم المقاومة الفلسطينية على مواقع الجيش الإسرائيلي ومستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نشرت صحيفة هآرتز الإسرائيلية تقريرًا مطولًا يتناول آمال وآلام جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، ولم تجد الصحيفة عنوانًا للتقرير أفضل من اقتباس من ضابط احتياط يقول عن إسرائيل: “هذه ليست البلاد التي سأضحي بحياتي من أجلها”.

تناول التقرير طرفًا من قصص أكثر من 130 جنديا وضابطًا في قوات الاحتياط الإسرائيلية، قالوا جميعًا إنهم لن يقدموا أنفسهم للخدمة من جديد إذا لم يفلح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تأمين صفقة مع حركة حماس، تضمن تحرير الأسرى الإسرائيليين الواقعين في أيدي المقاومة وتنهي الحرب. وعلى خلاف المعتاد من الجنود الذين يقضون أوقاتًا طويلة على جبهات القتال، مثل معاناتهم من الإرهاق البدني والذهني، لم تكن تلك هي الأسباب التي دفعت الجنود للتهديد بالقول “لقد اقترب اليوم الذي سنتوقف فيه عن أداء واجبنا!”.

فلأول مرة، يسيطر التساؤل عن جدوى الحرب، لا من الناحية العملية فقط، بل من الناحية الأخلاقية أيضًا. وكما قال جندي احتياط يُدعى ياريف لهآرتس، فقد عبرت زوجته عن ذلك بالقول: “إذا قضيت في هذه الحرب، فسأضع “كان أحمقَ” على شاهد قبرك”. وبعد أسابيع من نشر التقرير، كشفت صحيفة جيروزالم بوست عن رسالة وقعها 153 جنديا من جنود الاحتياط وقُدمت إلى نتنياهو، هددوا فيها بالامتناع عن أداء الخدمة العسكرية.

تعرف على أهمية ودور جنود الاحتياط بالجيش الإسرائيلي

لم يكن الأمر مجرد موقف عابر من قبل بعض الجنود المتذمرين، حيث كشف الكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن تراجع ملحوظ في انضمام جنود الاحتياط للخدمة العسكرية بالجيش الإسرائيلي، وقد ذكرت صحيفة ثالثة، وهي يديعوت أحرونوت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أن الجيش الإسرائيلي أصبح “يشعر بالقلق بسبب انخفاض معدل الخدمة الاحتياطية بنسبة تتراوح بين 15 و25٪”.

وظهور التذمر وارتفاع حدة الغضب إلى هذا الحد داخل قوات الاحتياط ليسا أمرين هيِّنين في إسرائيل. فمنذُ تأسيسها؛ يُنظر إلى قوات الاحتياط باعتبارها أحد أهم ركائز الوعي القومي، والتماسك الاجتماعي، حتى أصبحت توصف بأنها “إحدى البقرات السبع المقدسة” للمجتمع الصهيوني، بحسب جبرائيل بن دور، مدير برنامج دراسات الأمن الوطني بجامعة حيفا.

فمن ركائز الانتماء لإسرائيل، أن يكون الرد المتوقع لكل من يحمل هويتها هو الاستجابة الفورية إذا تلقى أمر استدعاء للجيش، مهما كان الأمر أو الظروف التي يمر بها المستدعى. حيث أدرك القادة الأوائل في إسرائيل مدى خطورة الفجوة البشرية الهائلة بين دولتهم وأعدائها من الدول العربية، وأن إسرائيل في ظل هذه المحدودية، لا يمكنها الاحتفاظ بقوات نظامية قادرة على مواجهة كافة التهديدات الأمنية المحيطة بها من كل جانب. ومن ثمّ؛ تشكلت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي وفق ما يُسمى مبدأ “أمة تحت السلاح”، حيث تمثل القوات الرديفة القابلة للاستدعاء في أوقات الطوارئ والحرب الضمانة الأساسية لتحقيق الأمن.

بل إن القوام الأساسي لجيش الاحتلال هو من قوات الاحتياط؛ مما يعسّر التمييز بين المدنيين والعسكريين داخل إسرائيل، وفي حكم المستحيل كما يقول المسيري: “العثور على حدود فاصلة بين النخبة العسكرية والنخبة السياسية، إذ يتبادل أفراد النخبتين الأدوار ويقيمون التحالفات في الأحزاب والهستدروت والكنيست وغيرها من المنظمات”.

بيد أنّ أزمة قوات الاحتياط الآخذة في التصاعد لم تكن وليدة أحداث طوفان الأقصى فقط. فقبل الحرب بعدة أشهر؛ شارك ضباط وجنود احتياط في احتجاجات ضد نتنياهو، متهمين إياه بالفساد، وذلك في خضم الاحتجاجات التي اندلعت وقتها ضد توجه حكومته لإقرار تعديلات تشريعية تقلل من صلاحية المحكمة العليا على قرارات الحكومة.

ووقع 161 طيارا وضابطا كبيرا بسلاح الجو، آنذاك، رسالة أرسلوها إلى قائد السلاح، اللواء تومير بار، تحت عنوان “الوقف الفوري للتطوع في قوات الاحتياط”، كتبوا فيها: “نحن الموقعين أدناه -وهم 161 من عناصر القلب العملياتي لمقر قيادة القوات الجوية- نعلن عن التوقف الفوري لتطوعنا في خدمة الاحتياط”، بحسب ما أوردته وقتها صحيفة يديعوت أحرونوت.

وهذا يعني أن بعض أسس التماسك والانتماء داخل المجتمع الإسرائيلي تواجه تصدعا عنيفا، ازداد تشققًا بعد هجوم السابع من أكتوبر، حيث وجدت قوات الاحتياط الإسرائيلي نفسها في خضم حرب طويلة لم تشهد لها مثيلًا من قبل ولم تكن مستعدة لها وهي التي لم تُبدأ بحرب من قِبل أعدائها على الرقعة التي تحتلها منذ النكبة. فازدادت أزماتها وتبدّت ملامح متعددة للتوتر مع القيادة السياسية في ظل ضغوط شديدة تعانيها تلك القوات، خاصة على جبهات الحرب البرية التي تتعرض فيها لاستنزاف هائل دون أفق سياسي، فضلا عن الأزمات النفسية والاقتصادية والاجتماعية بعد توقف حياتهم المدنية لمدة طويلة.

هذه التطورات تعطي أهمية خاصة لفهم بنية قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، وكيف اكتسبت رمزيتها غير القابلة للمساس في المجتمع الصهيوني، وكيف يمكن أن تؤثر أزماتها في مسار الحرب؟

 جيش الشعب: الدور المركزي لقوات الاحتياط

منذ الحرب التي أسست إسرائيل في 1948، طوّر ديفيد بن غوريون، وهو أول رئيس وزراء لإسرائيل وإليه يُنسب بناء عقيدتها الأمنية، مفهوم “جيش الشعب” بما يعني أن يكون الشعب الإسرائيلي كله مستعدا للقتال والانخراط في الحرب، وذلك لضمان أن تكون أعداد القوات الإسرائيلية المحاربة أكبر من عدد القوات المحاربة في جيوش أعدائها، مهما كانت الفجوة بين العدد الكلي للمجتمع الإسرائيلي وأعداد المجتمعات العربية.

تطبيقا لهذا المبدأ؛ فرضت إسرائيل خلال الحرب عام 1948 التجنيد الإلزامي على كل من يتراوح عمره بين 17 و54 عاما. ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها؛ قننت إسرائيل “التجنيد الإجباري” على جميع المواطنين اليهود ممن يبلغون 18عاما، ذكورا وإناثا. ولاحقا؛ بعد حرب 1967 حُددت مدة التجنيد الإجباري بثلاث سنوات، وأُعفيت منها فئات من النساء مثل المتزوجات والأمهات، كما أعفي الرجال “الحريديم” الذين يدرسون في المعاهد الدينية، وكذلك أعفي المواطنون العرب باستثناء الدروز الذين كانوا قد فرضت عليهم الخدمة الإجبارية عام 1954.

ومن ثمّ صارت بنية الجيش الإسرائيلي تنقسم إلى قوات نظامية وقوات احتياط، وتنقسم الأولى إلى مجندين يؤدون الخدمة الإجبارية (32 شهرا للذكور و24 شهرا للنساء) ويبلغ عددهم قرابة 133 ألفا، ومجندين دائمين يعملون وفق عقود طويلة الأمد مع الجيش بعد انتهاء خدمتهم الإجبارية، ويبلغ عددهم 40 ألفا فقط.

أما قوات الاحتياط فهي الجزء الأوسع من الجيش، وتتشكل من الذين انتهت مدة تجنيدهم الإلزامية، ولكنهم يبقون على أهبة الاستعداد للاستدعاء في أوقات الطوارئ، وقد بلغ عددهم 465 ألف جندي عام 2023 حسب موقع غلوبال فاير باور، ويحدد قانون الاحتياط فترة الخدمة السنوية للجنود بمعدل 18 يومًا في السنة و54 يوما كل 3 سنوات، وفقا لتعديلات القانون في عام 2008. وذلك فيما عدا الطيارين الاحتياطيين بسلاح الجو الذين يستدعون يوما واحدا كل أسبوع للحفاظ على جاهزيتهم الفنية، ويمارسون أعمالهم المدنية بقية أيام الأسبوع.

وخلال العقود الثلاثة الأولى من عمر إسرائيل؛ مثلت قوات الاحتياط القوة الضاربة والحاسمة، كما في حروب أعوام 48 و56 و67، التي اتسمت عملياتيا بدور مركزي للقوات البرية، وأدى ذلك إلى ارتفاع القيمة المعنوية والرمزية لقوات الاحتياط في الوعي القومي الصهيوني بشكل بالغ. فمثلا في حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) في عام 1956، شارك 150 ألف جندي إسرائيلي من قوات الاحتياط في الحرب على الجبهة المصرية، وفي حرب الأيام الستة في 1967 شارك 214 ألف جندي احتياط في حين كان إجمالي القوة القتالية للجيش 264 ألفا.

بيد أن التطور الأكثر أهمية لقوات الاحتياط كان فيما بين حرب أكتوبر 1973 والحرب الأولى على لبنان في 1982 التي أطلقت عليها إسرائيل “عملية السلام للجليل”. فبعد الضربة المفاجئة التي تلقتها إسرائيل على الجبهة المصرية في أكتوبر، توسع الجيش في التجنيد بغية استعادة الشعور بالتفوق والجاهزية للقتال، فازداد عدد الفرق القتالية البرية حتى وصل إلى 14 فرقة، كانت قوات الاحتياط هي النسبة العظمى منها. وفي الحرب على لبنان 1982 شاركت 7 فرق قتالية في الحرب كانت قوات الاحتياط تمثل أكثر من ثلثيها.

نمط جديد من الحروب: فلترجع قوات الاحتياط إلى الخلف!

“لكننا سنتذكرهم جميعًا..

لأن صداقة مثل هذه لن

تسمح أبدًا لقلوبنا بالنسيان.

الحب المقدس بالدم..

سيزدهر بيننا مرة أخرى”.

هذه كلمات إحدى أكثر الأغاني استقرارا في الوجدان الإسرائيلي، وتحمل عنوان “هآريوت” الذي يعني الصداقة والرفقة، وقد كُتبت هذه الأغنية بعد عام من اندلاع حرب 1948، تجسيدا للمصطلح الذي كان شائعا في إسرائيل: “أخوة السلاح”. ويحمل الإسرائيليون في ذاكرتهم خلال تلك السنوات عشرات القصص الرمزية للتضامن بين قوات الاحتياط (الأمة المجندة) وسرعتها في تلبية نداء “الوطن” في حالات الطوارئ.

لكنّ المؤكد أن ثمة تغيّرًا في إسرائيل وفي جيش الأمة بعد العقود الثلاثة الأولى من عمر الدولة. وتحديدا كان عام 1985 عاما محوريا في ذلك، حيث توقف الجيش فيه عن استدعاء قوات الاحتياط للمشاركة في العمليات القتالية في لبنان، بضغط من الحكومة، بعد مشاركة كثير من العائدين منهم من جبهات القتال في احتجاجات شعبية تطالب بإنهاء الحرب في لبنان، وكانت تلك اللحظة بمثابة بداية تراجع الإجماع الشعبي حول حروب إسرائيل، ومن ثم تراجع الدافعية للانخراط في القتال.

ومنذ ذلك الحين، لم تشارك قوات الاحتياط بصورة جوهرية في أي من حروب إسرائيل اللاحقة حتى طوفان الأقصى، وفقا لدراسة مطولة نشرها موقع الكلية الجوية الإسرائيلية في 2014. لكن ثمة عوامل أكثر موضوعية كانت وراء هذا التحول، أبعد كثيرا من العوامل الشخصية المرتبطة بدافعية القوات للقتال.

أول هذه العوامل هو تغير نمط التحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل، فقد شهدت الثمانينيات والتسعينيات تراجع خطر نشوب الحروب النظامية بين إسرائيل والجيوش العربية، ونشوء تهديدات أخرى غير نظامية، حيث تأسست حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عام 1981، وحزب الله في لبنان عام 1982، ثم حركة حماس 1987. على إثر ذلك تغيرت العقيدة العملياتية للجيش الإسرائيلي باتجاه تخفيض دور العمليات البرية الموسعة والتركيز على تطوير سلاح الجو والاستخبارات لتنفيذ نمط قتالي جديد يعتمد على الضربات المركزة والحاسمة.

وهناك عامل آخر، هو الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها إسرائيل في الثمانينيات، بسبب ارتفاع الإنفاق العسكري بنحو غير مسبوق في السنوات التي تلت حرب 73. ومن تداعيات تلك الأزمة أن جرى الاتفاق بين وزارة المالية ووزارة الدفاع على أن تتحمل وزارة الدفاع التكلفة الكاملة لقوات الاحتياط، ولأن الوزارة ليست ملزمة بميزانية محددة لقوات الاحتياط فقد عمدت إلى توفير ميزانياتها لصالح قطاعات أخرى من الجيش أصبحت ترى أنها أكثر أولوية مثل سلاح الجو والمسيّرات الحديثة.

تغيرت إذن نظرة الجيش إلى مكانة قوات الاحتياط، وتراجع دورها في عقيدته العملياتية تبعا لتراجع دور العمليات البرية بشكل عام، ضمن توجه لبناء جيش صغير محترف يعتمد على العمليات البرية أداةً رئيسة لتحقيق أهدافه الإستراتيجية في حروب سريعة وحاسمة.

وخلال هذه العقود الأربعة لم تُستدع بشكل واسع إلا في أحداث انتفاضة الأقصى في العملية العسكرية التي أطلقت عليها إسرائيل عملية “الجدار الواقي” بهدف إعادة احتلال مناطق في الضفة الغربية أبرزها مخيم جنين. ولم تشارك قوات الاحتياط في أيّ عمليات عسكرية مهمة في حروب 2006 في جنوب لبنان، وحروب غزة 2008 و2012 و2014، واقتصر دورها على المهام الدفاعية خارج مناطق الاشتباك المهمة.

ذبح البقرة المقدسة: ملامح إهمال قوات الاحتياط

نتيجة للتحولات السابق ذكرها في نمط الحروب وطبيعة العدو؛ ساد اعتقاد في المستوى السياسي والأمني في إسرائيل بأن أخطار الجبهة الشمالية مع حزب الله والجنوبية مع فصائل غزة قابلة للاحتواء عبر الضربات الجوية، وأن الخطر الأساس الذي يهدد إسرائيل أصبح متمثلا في إيران بصورة رئيسة؛ مما يستدعي اهتماما أكبر بتطوير القدرات النووية والاستخبارية وتطوير سلاح الجو وتحديثه بشكل دائم، وأن هذا النوع من الحروب الحديثة لن يحتاج إلى فرق برية ضخمة.

ومع تراجع شعور المجتمع الإسرائيلي بالتهديد الوجودي، تحول تدريجيا من “أمة تحت السلاح” إلى مجتمع نيوليبرالي أصبح يفضل الانخراط في سوق العمل على الخدمة العسكرية التي لم يعد الدافع إليها ملهما كما كان.

ومن ثم تراجعت المكانة الرمزية التي كانت تتمتع بها قوات الاحتياط في نفوس الشعب الإسرائيلي، ولم تعد الخدمة العسكرية هي النموذج الأرقى في المخيال العام للمجتمع، وحلت بدلا منها نماذج أخرى مثل تحصيل النجاح الفردي في سوق مفتوحة واقتصاد واعد وشعور بالاطمئنان لقدرات الجيش النظامي المحترف على تحقيق الأمن المطلق لإسرائيل.

كما تنامى، بالتوازي مع هذا، شعور آخر بالتمييز وغياب العدالة في توزيع أعباء الخدمة العسكرية، نظرا إلى استبعاد قطاعات من المجتمع مثل اليهود المتدينين “الحريديم”. وهذه المسألة، تحديدا، أحدثت خللا مزدوجا في بنية قوات الاحتياط. فمن جانب؛ قلصت حماسة باقي المواطنين للالتزام العسكري، ومن جانب آخر دفعت الجيش بغية تقليل الضغط الشعبي عليه إلى التسامح مع التغيب عن الخدمة العسكرية وعدم التشدد في استدعاء قوات الاحتياط في أيام خدمتهم.

وبحسب دراسة نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي؛ لم يستدعِ الجيش، في عام 2014، قرابة 60٪ من قوات الاحتياط لأيام خدمتهم السنوية. وفي السنوات الثلاث السابقة لذلك العام، لم يستدع 40٪ منهم. وفي عام 2016 خدم فقط 6٪ من قوات الاحتياط مدة 18 يوما في السنة. وخلال ذروة الاحتجاجات في جميع أنحاء إسرائيل ضد ما يسمى الإصلاح القضائي في العام الماضي، شهدت بعض وحدات الاحتياط النخبوية غيابًا عن التدريبات بنسبة تزيد على 40٪.

وقد حذرت دراسة مشتركة بين معهد دراسات الأمن القومي، ومركز العلوم السلوكية في الجيش الإسرائيلي، والقيادة العامة للاحتياط، نشرت في 2018، من تدهور حالة قوات الاحتياط وضعف جاهزيتها القتالية وتراجع مكانتها المعنوية. لكن مع ذلك ظل التقدير السائد لدى القيادات المتعاقبة أن ثمة أولويات للإنفاق العسكري أهم من قوات الاحتياط، وأن الحروب الجديدة المتوقع أن تخوضها إسرائيل سوف يمكن حسمها من خلال سلاح الجو المتطور.

ومن ثم؛ حظي سلاح الجو بأكثر من نصف الإنفاق العسكري، وجرى تزويده بأحدث النظم التقنية مع اهتمام بتدريب قواته، في حين أهملت قوات الاحتياط ولم يستدع منها إلا أعداد قليلة للغاية، ومن جرى استدعاؤه لم يدرب على منظومات الحرب الحديثة.

طوفان الأقصى: قوات الاحتياط في قلب العاصفة

في صبيحة السابع من أكتوبر كان المجتمع الإسرائيلي على موعد مع تسديد فاتورة التقديرات الخاطئة لقوة الجيش النظامي وقوة أعداء إسرائيل الجدد! سبع ساعات على الأقل لم تكن قيادة الجيش تعرف ماذا يحدث في غلاف غزة، ولم تستطع المبادرة بأي خطوة لإنقاذ قواتها ومواطنيها الذين يتلقون ضربات مقاتلي غزة والمتسللين من حدودها التي كانت محاصرة قبل ساعات.

كانت هذه اللحظة بمثابة انهيار حادّ لكافة الفرضيات التي استندت عليها العقيدة العملياتية للجيش الإسرائيلي في العقود الأربعة الأخيرة، فلم يكن سلاح الجو بتقنياته الهائلة قادرا على منع اقتحام كتائب القسام لمستوطنات غلاف غزة، فضلا عن عدم قدرته على تلبية متطلبات الحرب الشاملة التي لم تجد القيادة السياسية والأمنية بدا من خوضها على كافة محاور التهديدات، بغية استعادة شعور الإسرائيلي بالأمن واستعادة هيبة الجيش في المجتمع.

قررت قيادة الجيش استدعاء 360 ألفا من قوات الاحتياط، وهو الرقم الأكبر منذ حرب 1973، ومع أن الجيش قد نجح بالفعل، في تعبئة ما لا يقل عن 250 ألفا في غضون 3 أسابيع، وهذا ليس رقما هينا، فإن ثمة معضلات أخرى واجهت هذه القوات.

لقد تكشفت فجأة كل أعطاب منظومة الاحتياط التي تسببت فيها سنوات الإهمال، وتأجلت العملية البرية على قطاع غزة عدة مرات لعدم جاهزية فرق الاحتياط، بسبب ضعف التدريب وصعوبة الاندماج في المنظومة القتالية للجيش وضعف القدرة على التنسيق الجيد مع باقي الوحدات.

أبعد من ذلك؛ فلم يكن ثمة عتاد عسكري متوفر بدرجة كافية لتلك القوات الضخمة؛ مما دفع المواطنين في إسرائيل إلى تنظيم حملات للتبرع بالعتاد العسكري الخاص، لا سيّما السترات الواقية من الرصاص.

وفضلا عن عدم الجاهزية القتالية للقوات، فيبدو أن المجتمع الاقتصادي وسوق العمل في إسرائيل أيضا لم يكونا مستعدين لغياب كل هذا العدد من طاقة العمل بشكل مفاجئ. وتُشير تقارير، صدرت عن مؤسسة التأمين الوطني، إلى أن 1000 منشأة تجارية تابعة لجنود الاحتياط أُغلقت في الأشهر الستة الأولى من الحرب، وهو ما يمثل 6% من مجمل المنشآت التجارية التي أغلقت في البلاد، والأكثر أهمية أن قرابة 75% من هذه المنشآت موجودة في المراكز التجارية الكبرى مثل تل أبيب وحيفا.

إضافة إلى ذلك؛ أظهرت ورقة بحثية لوزارة المالية نُشِرَت في فبراير/شباط 2024، أن 20٪ من جنود الاحتياط الذين التحقوا بالجيش خلال حرب غزة، كانوا من العاملين في قطاع التكنولوجيا المتقدمة؛ لذا فإن تكلفة غيابهم بالنسبة للسوق ستكون مرتفعة جدًّا، خاصة في ظل حرب طالت أكثر مما كان متوقعا.

وإذا كان شعور الإسرائيليين بالتهديد الوجودي في الأسابيع الأولى من الحرب قد ساهم في تعبئة هذا العدد الضخم من قوات الاحتياط، فإن أكثر من عام من الاستنزاف وغياب الأفق السياسي قد أدى إلى عكس ذلك. حيث نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت يوم الاثنين 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أن الجيش الإسرائيلي “يشعر بالقلق بسبب انخفاض معدل الخدمة الاحتياطية بنسبة تتراوح بين 15 و25٪”، وأوضحت أن هذا الشعور برز خلال الأسابيع الأخيرة في الألوية القتالية بقطاع غزة والجبهة الشمالية.

وقد يفسَّر ذلك بتنامي شعور لدى قوات الاحتياط بأنهم يدفعون تكلفة الحرب أكثر من غيرهم، ليس بالخسائر الاقتصادية والاجتماعية التي يتعرضون لها فحسب، بل أيضا على جبهات القتال، فقد كشفت بيانات لإدارة إعادة التأهيل التابعة للجيش الإسرائيلي عن استقبالها 12 ألف جندي مصاب في وحداتها خلال العام الأول من الحرب، كان ثلثاهم من قوات الاحتياط.

وفي محاولات لاستدراك أزمة قوات الاحتياط وارتفاع الاحتياج البشري للحرب التي تتوسع زمانا ومكانا، قدمت حكومة نتنياهو مشروع قانون في فبراير 2024 بتعديل مواد قانون الاحتياط، ليسمح برفع سن الخدمة الاحتياطية في الجيش، بهدف استقطاب عدد أكبر من المجندين. لكن القانون واجه غضبا شعبيا واسعا بسبب استمراره في إعفاء اليهود المتشددين “الحريديم” من هذه الأعباء المتزايدة، رغم بلوغ نسبتهم من السكان حوالي 13.3٪، بحسب معهد ديمقراطية إسرائيل.

وبينما كان نتنياهو يتردد في تجنيد الحريديم، منعا لتفكك الائتلاف الحاكم الذي يضم أحزابا دينية تعارض هذه الخطوة بشدة، استبقته المحكمة الإسرائيلية العليا في 25 يونيو/حزيران الماضي، بقرار يقضي بإلزام الحريديم بالتجنيد في الجيش، ومنع المساعدات المالية عن المؤسسات الدينية التي يرفض طلابها الخدمة العسكرية. لكن القرار لا يزال عالقا، بعد فشل الجيش في تجنيد 3000 منهم فقط في إطار المرحلة الأولى.

ويحاول نتنياهو البحث عن حلول أخرى، ترضي تيار أقصى اليمين من جهة وفي نفس الوقت تخفف السخط داخل صفوف قوات الاحتياط؛ ولذا قررت وزارة الدفاع تقليص نطاق النشاط العسكري لكتائب الاحتياط من متوسط 20 أسبوعا لكل جندي إلى 9 أسابيع فقط بدءا من نوفمبر الجاري، بهدف تشجيع أعداد أكبر على الانخراط في الخدمة، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، لكن هذا ليس مضمون النتائج؛ مما جعل الصحيفة تعتبره مغامرة غير محسوبة في ظل تزايد الاحتياج إلى القوات.

بعبارة قصيرة، يمكن القول إن بقرة إسرائيل المقدسة التي تولت عبء الدفاع عن مشروع الدولة اليهودية، وكانت دائما مجالا للفخر في إسرائيل باعتبارها نموذجا فريدا في تجنيد شعب بأكمله، لم تعد اليوم كما كانت. فبينما تتعرض إسرائيل لأطول حرب في تاريخها، وفي الوقت الذي تعيش فيه امتحانًا وجوديًّا للحفاظ على أمنها وتفوقها في مجالها الحيوي، بدأ الإسرائيليون فقدان القدرة على رؤية مغزى القتال. وكلما طالت الحرب؛ زاد الاستنزاف المستمر على جبهات القتال وتعمقت ارتداداته الاجتماعية والاقتصادية والمعنوية، واتسع نطاق الأسئلة حول جدوى استمرار الحرب وجدوى الخدمة العسكرية في ظل العجز عن تحقيق الأهداف النهائية.

شاركها.
Exit mobile version