في مشهد متكرر، وصار متوقعا مع كل جولة مفاوضات لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، يخرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية) ليقول “إنه وافق على مقترح الوسطاء لإنجاز الصفقة وتوقيع الاتفاق لكن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي التي ترفض المقترحات”.

وترد حماس على ذلك في كل مرة بأنها أبدت مرونة وتجاوبا مع المقترحات التي يقدمها الوسطاء، ووافقت عليها في أكثر من مناسبة، متهمة نتنياهو “بالتلاعب” وإعاقة التوصل إلى حل شامل يضمن وقفا دائما لإطلاق النار. وهذا ما أيّدته أطراف إقليمية ودولية قائلة إن العراقيل الأساسية أمام أي اتفاق تأتي من الجانب الإسرائيلي.

“تلاعب” نتنياهو هذا تجلى في الأيام الأخيرة، قبيل زيارته واشنطن ولقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث أرسل في الوقت نفسه وفدا للدوحة من أجل التفاوض، في مشهد يوحي أمام الغرب بأنه جاد فعلا في الوصول إلى اتفاق مع المقاومة الفلسطينية، وعندما نجحت زيارته وعاد من واشنطن أعلن اليوم الأحد أنه وافق على مقترح المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، ومقترح الوسطاء لإنجاز صفقة تبادل، لكن حماس هي التي رفضت.

وفي مقابلات مع الجزيرة نت، يتناول باحثون وخبراء في الشأن الإسرائيلي الأسباب التي تدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي لاتباع هذا السلوك المتكرر مع كل مشروع اتفاق، والمبررات التي يستند إليها، والأهداف التي يسعى لتحقيقها من ذلك، وكيف يمكن للوسطاء وللمقاومة التعامل مع مثل هذا السلوك الذي ينتهجه نتنياهو؟

مبررات نتنياهو

ومع تكرار السيناريو نفسه من قِبل نتنياهو، تصبح المبررات التي يسوقها واهية ولا تستند إلى منطق حقيقي مرتبط بما يسوقه ضد الطرف الفلسطيني في سبيل تلاعبه بالمفاوضات وهروبه من بعض محطاتها، حسب ما يراه مدير مركز رؤية للتنمية السياسية أحمد عطاونة.

فالفلسطينيون -حسب عطاونة- التزموا مرارا وبشكل حرفي بما يتم الاتفاق عليه، كما حدث في اتفاق يناير/تشرين الثاني الماضي، لكن نتنياهو سرعان ما انقلب عليه في مارس/آذار الماضي.

وهذا السلوك من قِبل نتنياهو لا يجد عطاونة مبررا له إلا الدعم المطلق من الولايات المتحدة والغرب، “فهو لا يستند إلى أي منطق سوى منطق القوة وضمان الإسناد الغربي الدائم”.

أما المحلل السياسي والباحث في العلاقات الدولية والإستراتيجية عبد الله عقرباوي فيرى أن الغرض من دخول نتنياهو جولة التفاوض الأخيرة لم يكن تحقيق صفقة حقيقية، بل احتياج داخلي لتمرير زيارته إلى واشنطن وتحسين صورته لدى ترامب وتخفيف الضغوط عليه.

ومن أجل ذلك لجأ إلى تقديم ورقة تفاوضية “هي الأسوأ” لمنع الوصول إلى أي اتفاق، بهدف كسب صورة التفاوض فقط، ولضمان إفشال أي إمكانية حقيقية للوصول لاتفاق، حسب ما قاله عقرباوي.

ويذهب الباحث نفسه إلى أن هناك توافقا إستراتيجيا بين نتنياهو والإدارة الأميركية (الحالية والسابقة) حول أهداف الحرب في غزة، وأن نتنياهو يبرر عدم الوصول للاتفاق بأن أهدافه من الحرب لم تتحقق بعد، كما يستخدم ضغوط شركائه في الحكومة اليمينية لتبرير هذا التعنت، ويجد في ترامب حليفا يشاركه هذه الرواية عبر دعم قانوني وسياسي.

لكن هذا “التلاعب” من جانب نتنياهو يأخذ مستوى أكبر عند الباحث السياسي والخبير في الشأن الإسرائيلي ساري عرابي، إذ يذهب إلى أن نتنياهو يمتلك قابلية عالية للتلاعب ليس فقط بالأطراف الفلسطينية والدولية، بل أيضا بالمجتمع الإسرائيلي نفسه (أهالي الأسرى، والمعارضة، وأطراف الائتلاف)، ويستغل موقعه ومعلوماته الأمنية والسياسية للبقاء في السلطة وتثبيت خطته.

ويضيف عرابي أن نتنياهو يسوق مبررات سياسية أمام المجتمع الإسرائيلي، ويروّج لمسألة تغييره وجه الشرق الأوسط وتحقيق إنجازات أمنية وجيوسياسية يجب أن تكتمل، ولهذا يُطلَب منه الصبر وتحمل الأثمان”.

أهداف نتنياهو

المحللون والخبراء، في تصريحاتهم للجزيرة نت، أجمعوا على أن أهداف “تلاعب” نتنياهو بالمفاوضات متعددة المستويات والاتجاهات، وبعضها يكون داخليا والأخرى قد تشمل النواحي الإقليمية أو الدولية، ويمكن إجمالها في النقاط التالية:

  • أولا- أهداف إستراتيجية بعيدة المدى:

وتتمثل في استكمال مشروع تدمير بنية المقاومة في غزة، وتجريدها من السلاح، وتغيير المشهد السياسي والمقاوم لمنع تكرار مشهد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بالإضافة إلى مشروع تغيير وجه الشرق الأوسط لصالح إسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا، وتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيعية.

  • ثانيا- أهداف تكتيكية داخلية:

ويأتي على رأسها الحفاظ على التحالف الحكومي اليميني وعدم الذهاب لانتخابات مبكرة إلا عندما يطمئن نتنياهو إلى نتائجها، وتنفيذ تغييرات في مؤسسات الدولة (بنية المؤسسة الأمنية والعسكرية والحرب على الدولة العميقة).

  • ثالثا- أهداف على المستوى الفلسطيني:

مثل تصفية الكيان السياسي الفلسطيني والقضية الوطنية عبر ضم الضفة وتعزيز الاستيطان.

  • رابعا- أهداف شخصية ترتبط بنتنياهو نفسه:

الأمر هنا لا يقف عند الحفاظ على ائتلافه الحاكم، بل يمتد إلى الخوف من خروجه شخصيا من المشهد السياسي مصحوبا بعار قانوني أو تاريخي، والتأسيس لنفسه كصاحب إنجاز تاريخي بوصفه “بطل إسرائيل الذي استطاع الحفاظ على الدولة، ومحا عار 7 أكتوبر”.

كيف التعامل مع نتنياهو؟

أمام هذا السلوك، يشدد عطاونة على أن خيار المقاومة الفلسطينية هو الخيار الوحيد المجرب تاريخيا، فقد نجح الفلسطينيون مرارا في تعطيل مشاريع الاحتلال (التهجير، والتوطين، وروابط القرى، والسلام الاقتصادي)، مؤكدا أن الفلسطينيين رغم معاناتهم قادرون على إفشال السياسات الإسرائيلية.

كما طالب مدير مركز رؤية للتنمية السياسية بأن يكون الوسطاء أكثر وضوحا في تحميل الاحتلال المسؤولية عن تعطيل الاتفاقيات، وألا تبقى الضمانات بيد الولايات المتحدة فقط، بل ينبغي إشراك قوى دولية أخرى ذات تأثير في عمليات الوساطة.

وليس بعيدا عن ذلك جاء رأي عقرباوي، إذ يرى أن السبيل الوحيد لإنهاء العدوان هو كسر آلة الاحتلال عسكريا في الميدان، لأن الضغط العسكري ينعكس على القيادات السياسية ويزعزع الائتلاف، ويؤدي إلى تآكل التأييد الشعبي مع الزمن.

أما فيما يخص العملية التفاوضية، فيذهب الباحث نفسه إلى أنه ينبغي على المقاومة وقف قبول أي اتفاقيات جزئية لا تضمن وقف إطلاق النار الدائم، لأن مثل هذه الاتفاقات تدعم إستراتيجية نتنياهو وتقوي موقفه وتمنحه مكاسب من دون تحقيق الأهداف الفلسطينية.

أما عرابي فيرى أن معضلة المقاومة تكمن في موازين القوة شديدة الاختلال لصالح الاحتلال، ويتوجب على المقاومة الصمود حتى النفس الأخير، ورفض أي صفقات تكرّس مشاريع الاحتلال، مثل مخيمات الاعتقال أو المدن الإنسانية أو التمهيد للتهجير.

كما يشير الخبير في الشأن الإسرائيلي إلى أن دور الوسطاء يظل محدودا للغاية بسبب تحكم القرار الأميركي والإسرائيلي الكامل في مجرى المفاوضات، مما يحتم على المقاومة مواصلة المواجهة، مع مراعاة ضرورة البحث عن حلول إنسانية عاجلة للفلسطينيين داخل القطاع.

وعلى مدى ما يقرب من عامين، استضافت الدوحة عدة جولات من المفاوضات بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، وفشلت جميعها في التوصل إلى وقف إطلاق النار والعدوان المستمر على قطاع غزة منذ نحو عامين، إلا في محطة واحدة مطلع العام الحالي قبيل تولي ترامب مقاليد الحكم في أميركا، لكن سرعان ما أفشل نتنياهو هذا الاتفاق وعاد لقصف القطاع.

وأوقع العدوان الإسرائيلي نحو 197 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، وأكثر من 10 آلاف مفقود تحت ركام منازلهم أو في الطرق والشوارع بعد عجز فرق الإسعاف والدفاع المدني عن الوصول إليهم نتيجة القصف الإسرائيلي المستمر، حسب إحصاءات وزارة الصحة في غزة.

شاركها.
Exit mobile version