في مقابلة لتلفزيون محلي أعاد المدير العام للعلاقات الدولية والتعاون العسكري بوزارة الدفاع الإثيوبية الجنرال تيشومي جيميشو إشعال الجدل في حق بلاده في الحصول على منفذ على البحر الأحمر، بتقديمه مجموعة من الأدلة التي تتفاوت بين الروابط التاريخية والأمنية والقانونية، معتبراً الأمر مسألة وجودية بالنسبة إلى إثيوبيا.
وخلال اللقاء الذي عقده جيميشو في 29 أغسطس/آب مع “برايم ميديا”، وهي قناة تلفزيونية تبث عبر اليوتيوب، أكد الجنرال الإثيوبي أن التاريخ يربط بلاده والبحر الأحمر وعصب التي “كانت جزءاً من أراضينا”.
وأضاف أن الشاطئ أُعطي إلى “كيان آخر”، في إشارة إلى إريتريا، من حكومة انتقالية تخلت عن المنفذ البحري، في حين أنها من وجهة نظر الشرعية لم تكن تمتلك التفويض ولا السلطة لفعل ذلك فهي حكومة غير منتخبة من الشعب.
حرب كلامية
وكان من اللافت تزامن هذا الحديث مع لقاء أجراه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للتلفزيون الرسمي لبلاده في الأول من سبتمبر/أيلول حيث ذكر من جانبه أن البحر الأحمر خرج من أيدي أديس أبابا قبل 30 عاماً، وأن “هذا الخطأ” الذي وقع بالأمس “سيُصحح غدا”، وهو ما اعتبره العديد من المراقبين إشارة إلى استقلال إريتريا عام 1993 والذي أضحت إثيوبيا بموجبه دولة حبيسة.
كما أوردت صحيفة “ذا ريبورتر” الإثيوبية نقلا عن أحمد في نفس اللقاء، إن استعادة السيطرة على ميناء عصب “مسألة وقت فقط”.
وقد أشعلت هذه التصريحات المزيد من المواجهات الكلامية بين مسؤولي البلدين والتي أصبحت سمة متكررة في الأشهر الأخيرة، في مؤشر واضح على مستوى التوتر بين أديس أبابا وأسمرا.
وغرد وزير الإعلام الإريتري يماني غبريمسقل عبر منصة إكس معلقا، أن الأيام الأخيرة شهدت عودة واضحة للتهديدات العسكرية المتهورة، مصحوبة بتشويه ازدرائي لتاريخ إريتريا القديم والوسيط والحديث، من مسؤولي حزب الازدهار الحاكم في إثيوبيا.
وأضاف الوزير الإريتري في تغريدته أن حق إريتريا في إنهاء الاستعمار الذي كان ينبغي أن يُمارس في أربعينيات القرن الماضي كان ولا يزال امتيازاً سياسياً وطنياً حصرياً غير قابل للتصرف، ومُكرّساً بوضوح في القانون الدولي، ولا يجوز لأي دولة أو هيئة دولية أخرى نقضه، وأن الاستفتاء الذي أجري عام 1993 تم باختيار إريتريا وقرارها المنفرد، وفقاً للآليات المعمول بها، وليس قائماً على موافقة مسبقة أو تأييد أو موافقة من القوة المحتلة.
من جانبها علقت المندوبة الدائمة لإريتريا لدى الأمم المتحدة صوفيا تسفاماريام على ما وصفته بـ”المقابلات المذهلة” بأن بعضهم في إثيوبيا “يعتقد أن الطموح قادر على تغيير الخرائط”، وأن “الاستفزازات الخطرة من رئيس وزراء إثيوبيا” تستمر، في إغفال تام من بعض النخب الإثيوبية “للقانون الدولي ومواثيق الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وقدسية الحدود”.

تفاهمات التسعينيات
يعيد هذا الجدل فتح أبواب التاريخ والعودة إلى تسعينيات القرن الماضي التي شكلت نقطة انعطاف في تاريخ كل من إثيوبيا وإريتريا، حيث شهد مايو/أيار عام 1991 سقوط نظام منغستو هايلي مريام المعروف بالدرغ، بدخول قوات الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا إلى العاصمة أسمرا، وسيطرة ائتلاف تقوده الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
أفسح هذا الانتصار الطريق لتسوية سياسية غير مسبوقة بين القيادتين الجديدتين، مع توافق كل من ميليس زيناوي وأسياس أفورقي على ضرورة حسم المسألة الإريترية باستفتاء شعبي بإشراف دولي.
وقد نقلت “واشنطن بوست” حينها عن زيناوي “إن الاعتراف بإريتريا سيأتي فقط بعد استفتاء حر وتحت إشراف الأمم المتحدة”، كما نص الميثاق الانتقالي الإثيوبي المقر عام 1991 على أن لكل أمة وقومية وشعب في إثيوبيا حق تقرير المصير حتى الانفصال.
تلا ذلك تقنين مسار الاستقلال بإصدار إريتريا إعلان الاستفتاء رقم 22/1992 الذي أنشأ لجنة خاصة لتنظيم العملية التصويتية، كما اعتمدت الأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 1992 تشكيل بعثة لمراقبة الاستفتاء لضمان “حرية العملية وشفافيتها”.
ومثّل الاستفتاء الذي جرى بين 23 و25 أبريل/نيسان 1993 ذروة هذا المسار، بمشاركة أكثر من 93% من الناخبين المؤهلين، حيث صوّت نحو 99.8% للاستقلال، الذي سارعت القوى الدولية الكبرى إلى الاعتراف به، ليختتم هذا المسار بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على قبول إريتريا عضواً في الأمم المتحدة في 28 مايو/أيار 1993.
بجانب ما سبق تضمنت تفاهمات القادة الجدد في أسمرا وأديس أبابا ملفات اقتصادية وسيادية حساسة، كان منها ما ذكره تقرير لمؤسسة “معهد الشؤون العالمية الراهنة” (ICWA) من اتفاق حول استخدام تفضيلي لإثيوبيا لميناء عصب واستمرار التعامل بالبر، وتشغيل مصفاة عصب.
وهي تفاهمات عصفت بها التطورات ورياح الخلاف بين الطرفين والتي بلغت ذروتها المأساوية في الحرب الحدودية 1998-2000 التي رسمت واقعاً جديداً لم يتخلص البلدان من تبعاته.

“تفريط في مصالح إثيوبيا”
هذه التفاهمات بين حكام أديس أبابا وأسمرا قوبلت بانتقاد مبكر من العديد من الأطراف الإثيوبية التي اتهمت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بالتفريط في المصالح الإثيوبية بموافقتها على إجراء الاستفتاء الذي أدى إلى استقلال إريتريا وخسارة إثيوبيا للمنفذ البحري.
وفي مفارقة لافتة فإن هذا الخطاب الذي تبنته قوى إثيوبية معارضة قد تم إطلاقه من جديد من مسؤولين إثيوبيين آخرهم الجنرال جيميشو الذي أكد في سياق دفاعه عن مطالبة بلاده بالحصول على منفذ بحري على خصوصية عصب وتمتعها بـ”الحكم الذاتي” في عهد الدرغ.
في حين ذهب الباحث في منصة “هورن ريفيو”، ومقرها أديس أبابا، ماهدر نسيبو إلى أبعد من ذلك، واصفاً في مقال له ولادة إريتريا بـ”المشكوك فيها”، مضيفاً أن الموافقة التي منحتها الحكومة الإثيوبية الانتقالية تبدو تعبيراً عن سلطة مؤقتة أكثر منها شرعية دستورية راسخة، وأن استقلال إريتريا قد شابته العديد من “الثغرات الإجرائية”.
وفي تعضيده هذا الرأي يحتج نسيبو بافتقار السلطة الإثيوبية التي وافقت على الاستفتاء الإريتري إلى تفويض انتخابي قاطع كونها تولت السلطة عبر كفاح مسلح لا عبر عملية انتخابية، وأنه كان من الواجب إجراء استفتاء وطني أو تصويت بأغلبية ساحقة داخل هيئة تشريعية تمثيلية قبل إجراء تعديلات جوهرية على الحدود الوطنية، إلى جانب أن الدستور الإثيوبي الذي أقر حق الانفصال اعتُمد عام 1994 أي بعد إعلان استقلال إريتريا.
وجهة نظر إثيوبية
يشير العديد من المراقبين الإثيوبيين إلى أن التصريحات الأخيرة من مسؤولين إثيوبيين عسكريين وسياسيين عن ميناء عَصَب تأتي في سياق المطالبة بتصحيح ما سموه بالخلل التاريخي الذي ارتُكب في لحظة انتقالية لم تراعِ القواعد الدستورية ولا المصالح القومية طويلة الأمد، وأن من الممكن لإثيوبيا أن تدفع بأنّ هذا التصرّف باطل داخلياً ويستوجب إعادة النظر في آثاره.
وهو ما يفسره عضو البرلمان الإثيوبي كامل شمسو بأن حكومة إثيوبيا الانتقالية (1991–1993) كانت مؤقتة ومُكلّفة بإدارة شؤون البلاد لحين وضع دستور دائم، وأن مبدأ (التصرّف خارج الاختصاص) في القانون الدولي يتيح للدول الطعن في قرارات سلطة انتقالية إذا تعلّقت بـ”قاعدة أساسية” في السيادة، كما نصّت المادة 46 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (1969).
واعتبر أن التخلي عن البحر بالمعايير الدستورية تصرّف جوهري يمسّ وحدة الدولة وأمنها، ولا يدخل في صلاحيات سلطة انتقالية بلا تفويض شعبي أو دستوري.
وعن الوضع الخاص لعصب، يشير شمسو في تصريحه للجزيرة نت إلى أن دستور عام 1987 أنشأ نظام “المناطق ذات الحكم الذاتي”، ومنها إقليم عَصَب، ما يثبت أن المدينة المذكورة لم تكن “منطقة عادية”، بل كانت تُعامل كوحدة ذات خصوصية إدارية واقتصادية مرتبطة مباشرة بالأمن القومي الإثيوبي.
وإن تجاهل هذا الوضع، من وجهة نظره، في عملية الانفصال يُعدّ خللاً قانونياً، إذ كان يستوجب ترتيبات خاصة تضمن حقوق إثيوبيا في البحر، على حد قوله.
وفي تعليقه على ما ذهب إليه بعضهم من أن المقصود بالخطأ التاريخي الذي أشار إليه آبي أحمد هو استقلال إريتريا، يوضح شمسو أن هذا التوصيف يقصد به الإهمال أو التغييب الذي عوملت به ترتيبات نفاذ بلاده إلى البحر في تلك المرحلة، وليس الطعن في استقلالها الذي تم عبر استفتاء أممي 1993 واعترفت به إثيوبيا والأمم المتحدة، وعليه فهو مركز قانوني مكتمل يصعب الطعن فيه.

رد إريتري
من جانب آخر يشير قانونيون إريتريون إلى أن عدم لجوء المسؤولين الإثيوبيين إلى محكمة العدل الدولية للمطالبة بأحقيتهم في إعادة السيطرة على ميناء عصب يشير إلى هشاشة موقفهم القانوني وأسسه الموضوعية، وأنه قد يعكس عدم تقبلهم الكامل لاستقلال إريتريا.
وفي هذا السياق يرى القاضي السابق في المحكمة العليا في إريتريا عبد الله خيار أن إقليم دنكاليا المطل على البحر الأحمر جزء أصيل من السيادة الإريترية، ولا يمكن الحديث عن ميناء عصب خارج نطاق هذه السيادة، مضيفاً أن ما يصفها بـ”الادعاءات الإثيوبية” تفتقر إلى الأسس القانونية.
واعتبر أن القول بأن الحكومة الإثيوبية الانتقالية (1991-1994) كانت لا تمتلك الصلاحية، لا سند له في القانون الدولي، إذ لا يوجد نص يمنع الحكومات الانتقالية أو المؤقتة من إبرام اتفاقات سلام والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ويضيف خيار للجزيرة نت بأن الادعاء، أن المادة 46 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات تتيح للدول الطعن في قرارات سلطة انتقالية إذا تعلقت بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي، هو ادعاء يحتاج إلى تدقيق قانوني. وأضاف “حتى لو افترضنا جدلاً أن الحكومة الإثيوبية آنذاك كانت انتقالية وغير مخوّلة، فإن هذا لا ينطبق على حالة إريتريا، لأن الاستقلال لم يكن نتاج معاهدة ثنائية بين دولتين، وإنما ثمرة عملية تقرير مصير أُجريت بإشراف الأمم المتحدة، وأُقرّت بقرارات دولية ملزمة”.
وفي تضاعيف حديثه يشير القاضي السابق إلى أن المادة (2/62) من اتفاقية فيينا تنص على أنه لا يجوز الاحتجاج بالتغيير الجوهري في الظروف كأساس لانقضاء المعاهدة أو الانسحاب منها إذا كانت المعاهدة تنشئ حدوداً، وإذا كان التغيير الجوهري في الظروف ناتجاً عن إخلال الطرف الذي يتمسك به؛ إما بالتزام يقع عليه في ظل المعاهدة أو بأي التزام دولي آخر مستحق لطرف آخر في المعاهدة.
وبناء على ما سبق فإن أي احتجاج إثيوبي بـ”تغير الظروف” للطعن في استقلال إريتريا أو إعادة النظر في الحدود، فإن المادة (2/62) تمنع ذلك صراحة لأن الاستقلال والحدود بين البلدين أقرا بعملية دولية ملزمة، ولا يمكن اعتبارها معاهدة قابلة للانسحاب منها بسبب تغير الظروف.

ما الحل؟
ومنذ اندلاع أزمة المنفذ البحري الذي تطالب به أديس أبابا أواخر عام 2023 تشير جميع الأطراف إلى دعم القانون الدولي لمطالبها، في حين يعتبر خيار أن الحل الواقعي يكمن في اللجوء إلى المادة 125 من اتفاقية الأمم المتحدة للبحار التي تكفل للدول الحبيسة حق الوصول إلى البحر واستخدام الموانئ شريطة إبرام اتفاقيات ثنائية مع الدول الساحلية المعنية.
وهو ما يوافقه فيه شمسو موصياً بإعادة تأطير الملف من نزاع سيادة إلى حق نفاذ وظيفي، وتوثيق الوضع الخاص لعَصَب (الحكم الذاتي) كقرينة تفاوضية، مع المطالبة باتفاق ثنائي مُلزِم مع إريتريا يمنح إثيوبيا ممرا آمنا إلى الميناء، وامتياز إدارة أو تأجيرا طويل الأجل، وترتيبات جمركية وأمنية مشتركة.