أنقرة– اندلعت احتجاجات في عدة مدن تركية، إثر قرار الحكومة، الاثنين الماضي، بعزل رؤساء بلديات ماردين وباتمان وهالفتي في ولاية شانلي أورفا، بتهمة “التورط في أنشطة إرهابية”، وفقا لبيان وزارة الداخلية. وهو ما فتح الباب على تأويلات متباينة لتأثير هذا القرار على مبادرة المصالحة التي أطلقها زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي في وقت سابق.
وفي تطور سابق، اعتقلت السلطات الأسبوع الماضي رئيس بلدية أسنيورت في إسطنبول، أحمد أوزر، المنتمي لحزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، للاشتباه بتورطه في أنشطة مرتبطة بحزب العمال الكردستاني المحظور. وعينت السلطات التركية أوصياء، وهم مسؤولون حكوميون، لتولي إدارة البلديات التي عُزل رؤساؤها.
واندلعت المواجهات عندما حاول المحتجون دخول مقرات البلديات المشمولة بالقرارات، مما أسفر عن إصابة عدد من المتظاهرين واعتقال 21 شخصا في ديار بكر و4 آخرين في مدينة فان.
وامتدت الاحتجاجات إلى إسطنبول، حيث تجمع مئات المتظاهرين للتعبير عن رفضهم لقرار العزل، ووقعت مواجهات أمام مقر بلدية أسنيورت أثناء محاولات عدد من أعضاء حزب “الشعب الجمهوري” دخول المبنى، بعد اعتقال رئيس البلدية أحمد أوزر.
وفي خطوة احتجاجية أخرى، عقد أعضاء مجلس بلدية أسنيورت من حزب “الشعب الجمهوري” اجتماعا رمزيا أمام مبنى البلدية.
إرهاق سياسي
أثارت قرارات عزل رؤساء البلديات موجة من الانتقادات الواسعة في صفوف المعارضة التركية. ووصف عمدة ماردين المعزول، أحمد تورك، القرار بأنه استهداف شخصي متكرر. وقال “أعتقد أنني دخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية”، في إشارة إلى عزله للمرة الثالثة منذ عام 2016، بسبب اتهامات ترتبط بعلاقته بحزب العمال الكردستاني.
من جانبه، أصدر حزب المساواة الشعبية والديمقراطية بيانا عبّر فيه عن رفضه لهذه القرارات، ووصفها بأنها “إصرار على انقلاب الوصي”، في إشارة إلى تعيين الحكومة أوصياء يتبعون لها في موقع رؤساء البلدية المعزولين، ودليل على “الإرهاق السياسي”، محذرا من أن هذه السياسات “تسمم أي فرصة للتوصل إلى حل” وتثير الشكوك حول مصداقية الحكومة.
بدوره، شدد رئيس حزب “الشعب الجمهوري”، أوزغور أوزال، على أن المعارضة “ستواصل معركتها بكل قوة ضد عقلية متعجرفة تتجاهل إرادة الناخبين وتستخدم السلطة بشكل غير متكافئ ووحشي”.
الباحث في الشأن التركي، علي أسمر، يرى أن اتهامات المعارضة للحكومة بشأن قرارات العزل تفتقر إلى الدقة، ويستدل على ذلك بأن بعض الأحزاب المعارضة، مثل حزب “الظفر”، أبدت تأييدها لعزل الشخصيات المتورطة، مما يظهر أن المعارضة ليست متفقة تماما في رفضها لقرارات العزل.
خطوة وقائية
وأشار أسمر في حديثه للجزيرة نت إلى التباين الواضح في مواقف شخصيات المعارضة التركية، حيث رفض رئيس بلدية أنقرة، المنتمي لحزب الشعب الجمهوري، المشاركة في التجمع الذي دعا إليه حزبه لدعم رئيس بلدية أسنيورت، أحمد أوزر.
ويعتقد أسمر أن الحكومة التركية بدأت بمراقبة هؤلاء المسؤولين منذ توليهم مناصبهم في البلديات، وربما تأخر قرار عزلهم بهدف جمع الأدلة وتفكيك شبكة علاقاتهم المشبوهة والكشف عن الجهات التي تدعمهم، على حد قوله.
ويصف قرارات العزل بأنها “خطوة تكتيكية وقائية”، خصوصا في ظل اتساع رقعة الصراع الإقليمي، حيث قد يستغل حزب العمال الكردستاني حالة الفوضى لتعزيز نفوذه، من خلال تواصله المكثف بشمال العراق وشمال سوريا وعلاقاته ببعض رؤساء البلديات المنتمين لحزب “المساواة الشعبية والديمقراطية”.
وأفادت وزارة الداخلية التركية في بيان لها أن قرار عزل عدد من رؤساء البلديات جاء استنادا إلى أحكام قضائية وتحقيقات جارية تتعلق بتهم الانتماء إلى منظمات محظورة والترويج لها.
وأوضحت الوزارة أن عمدة ماردين، أحمد تورك، صدر بحقه حكم بالسجن 10 سنوات على خلفية مشاركته في “أحداث كوباني”، ويخضع حاليا لدعوى تتهمه بالدعاية لمنظمة محظورة، إضافة إلى استمرار التحقيقات حول مزاعم بانتمائه إلى منظمة مسلحة محظورة.
وفيما يتعلق برئيسة بلدية باتمان، أوضحت الداخلية أنها خضعت لحكم بالسجن لمدة 6 سنوات و3 أشهر بتهمة العضوية في منظمة مسلحة محظورة، صادر عن محكمة في باتمان عام 2023، كما تواجه تحقيقات أخرى في الولاية حول اتهامات مشابهة تتعلق بالانتماء والترويج لمنظمة محظورة.
أما رئيس بلدية هالفتي، فيحمل أيضا حكما بالسجن يتجاوز 6 سنوات بتهمة العضوية في منظمة محظورة، ويواجه بدوره تحقيقات جارية في ولاية شانلي أورفا حول مزاعم بانتمائه إلى المنظمة نفسها.
تأتي هذه التطورات بعد أقل من أسبوعين على إعلان رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، عن مبادرة أثارت تأويلا واسعا باعتبارها “انفتاحا جديدا” في التعامل مع القضية الكردية.
ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول، دعا بهتشلي، في كلمة له أمام نواب حزبه، إلى إطلاق سراح زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، المسجون في جزيرة إمرالي، ومنحه فرصة لإلقاء خطاب في البرلمان التركي أمام نواب حزب “الديمقراطية والمساواة للشعوب”، يعلن فيه حل المنظمة التي أسسها قبل 45 عاما.
3 خيارات
في السياق، يرى الباحث في الشأن التركي، علي أسمر، أن الحكومة التركية تبدو في عجلة من أمرها لحل مسألة “الإرهاب” داخل البلاد قبل أن تتفاقم الأوضاع في سوريا وتنعكس تداعياتها على الحدود التركية.
وأوضح الباحث أن أنقرة وضعت كافة الخيارات على الطاولة، من المسار السياسي إلى العسكري، وحتى قرارات العزل، بهدف الضغط على حزب “المساواة الشعبية والديمقراطية” الكردي وزعيمه المسجون عبد الله أوجلان لتقديم رد حاسم.
وأشار أسمر إلى أن هذه المسارات ليست أهدافا بحد ذاتها، بل أدوات لتحقيق هدف الحكومة في بناء “تركيا خالية من الإرهاب”، كما أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان.
وأضاف أن الحكومة عرضت المسار السياسي عبر بهتشلي، والمسار العسكري عبر الجيش التركي، ومسار العزل والتصفية عبر وزارة العدل، مما يضع حزب “المساواة الشعبية والديمقراطية” أمام ضرورة الاختيار.
ويحذر أسمر من أن الوقت يوشك على النفاد، حيث تبدو المنطقة على أعتاب تغييرات جيوسياسية قد تؤدي إلى تقسيم سوريا، مما قد يحمل في طياته تهديدات بامتداد هذه التقسيمات مستقبلا إلى تركيا نفسها.
في المقابل، يرى الباحث السياسي مراد تورال في حديثه للجزيرة نت، أن الأسلوب الذي تتبعه الحكومة التركية للضغط على الأكراد لدفعهم نحو مسار المصالحة لم يكن موفّقا، إذ إنه يفاقم التوترات الشعبية المتأزمة بفعل التحديات الاقتصادية والحقوقية التي تمر بها البلاد.
ويضيف تورال أن هذه الإجراءات لن تضغط على حزب “المساواة الشعبية والديمقراطية” كما تأمل الحكومة، بل على العكس، قد تزيد من التعاطف الشعبي معه، مما يمنحه مساحة لتوسيع مطالبه خلال أي مفاوضات مستقبلية.
ويؤكد تورال على ضرورة أن تخفف الحكومة من حدة الضغوط السياسية في تعاملها مع المعارضة، مشيرا إلى أن اتباع نهج أكثر انفتاحا وتعاونا قد يسهم في استقرار سياسي واجتماعي أكبر في تركيا.