تعيش حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي تشكلت على أسس تحالف يميني متطرف، في حالة من التأرجح بين البقاء والانهيار، حيث يبرز وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، كعنصر تفجير رئيسي قد يؤدي إلى تفكيك الائتلاف الذي يحكم إسرائيل.
وتواجه حكومة الاحتلال أزمة داخلية ربما تكون الأشد منذ قيامها -حسب وصف كثير من المحللين- تتمثل في العدوان المتواصل على قطاع غزة، وتداعياته على جميع الأصعدة، بينما يزيد وجود شخصيات مثل سموتريتش من تعقيد الصورة.
فالوزير المتطرف يتحدى كل القوى السياسية والعسكرية والدبلوماسية في إسرائيل، بسبب دوره البارز في تحريك ملفات حساسة وتصعيد الأزمات الداخلية والخارجية، مما يضع حكومة نتنياهو في موقف متأزم.
بروز حزب الصهيونية الدينية
في انتخابات عام 2022، تحالف سموتريتش مع إيتمار بن غفير وحزب نوعام بقيادة آفي ماعوز، وتمكنا من تحقيق اختراق تاريخي بحصول تحالفهم الديني المتطرف على 14 مقعدا في الكنيست، مما جعله لاعبا رئيسيا في تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية.
وحصل سموتريتش على حقيبتين رئيسيتين وهما وزارة المالية وصلاحيات موسعة في إدارة شؤون الضفة الغربية، واكتسب قدرة غير مسبوقة في التأثير في صنع القرار داخل الحكومة، ليس فقط في المجالين الاقتصادي والاستيطاني، بل أيضا على سياسات الأمن والدفاع.
وبدا هذا التأثير مؤخرا، حين فرض سموتريتش سطوته على قرارات الحكومة الإسرائيلية عبر تهديده رئيس الوزراء بحل الائتلاف الحكومي إن هو أوقف الحرب، أو أدخل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة.
ونقل مراسل الشؤون السياسية في قناة “كان 11” ميخائيل شيمس إن سموتريتش أوصل رسالة تهديد شديدة وواضحة جدا لنتنياهو، جاء فيها: “إذا دخلت بذرة من المساعدات لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فيمكن البدء بالعد العكسي 90 يوما للانتخابات”، وهي المدة المطلوبة لإجراء انتخابات سريعة.
ووصف آفي أشكنازي تصريحات سموتريتش في مقال نشرته صحيفة معاريف “هكذا وجد رئيس الأركان الجنرال إيال زامير، ورئيس جهاز الأمن العام رونين بار، والمؤسسة الأمنية بأكملها أنفسهم في وضع وهمي لإنقاذ سموتريتش من الانهيار في استطلاعات الرأي”.

سقوط شعبي كبير
ورغم مواقفه الحادة وتصريحاته المتطرفة، يعاني حزب الصهيونية الدينية، الذي يقوده سموتريتش، من تراجع كبير في شعبيته.
فوفقا لاستطلاع أجراه “معهد الديمقراطية الإسرائيلي” في مارس/آذار 2024، فإن شعبية الحزب انخفضت إلى 4 مقاعد فقط، مقارنة بـ14 مقعدا حصل عليها في انتخابات 2022.
وفي استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي في مارس/آذار 2024، وجد أن 33% فقط من الجمهور أعطوه تقييما جيدا أو متوسطا لأدائه منذ بداية الحرب، مما وضعه في أسفل قائمة المناصب التي تم فحصها.
وتعرض سموترتيش لانتقادات حادة بسبب عرقلته إدخال المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة من الحرب في غزة، الأمر الذي أدى إلى تدهور صورته بين الناخبين، حتى بين بعض الأطراف المتطرفة التي ترى في مواقفه تهورا غير محسوب النتائج.
رغم هذا التراجع، يستمر الوزير المتطرف في تبرير مواقفه بالتركيز على “إنجازاته”، ويدّعي في مقابلاته أنه لا يُعير اهتماما لاستطلاعات الرأي، لكن الحقيقة الواضحة هي أن صعوده السريع في الحكومة أتى على حساب شركائه في الائتلاف، ليُصبح اليوم أحد أبرز الشخصيات التي تُهدد تماسك الحكومة، خاصة بسبب ضغوطه على نتنياهو لتنفيذ خطوات أيديولوجية جذرية.
وفي تصريح لموقع “سورجيم” الاستيطاني، قال: “أعمل في الغالب بصمت وأُحقق نتائج، يكاد لا يوجد حزب داخل الائتلاف يُحقق كامل قيمه مثل حزبنا، وأعتقد أن الصهيونية الدينية لم يسبق لها أن حظيت بمثل هذا التأثير في الأمن والمجتمع والاقتصاد والاستيطان، نحن نُحدث ثورات”.
ويعلق المحلل العسكري عاموس هرئيل في مقال أن “هيئة الأركان العامة، مثل الكابينت، تدرك الصورة الحقيقية للوضع، سموتريتش هو وزير مالية فاشل، وبحسب كافة استطلاعات الرأي، فإن حزبه لن يتجاوز العتبة في الانتخابات المقبلة، هذه هي الخلفية وراء ذعره”.
واستبعد المختص في الشؤون الإسرائيلية أكرم عطا الله في حديثه للجزيرة نت بأن تكون تصريحات سموتريتش الأخيرة قد أتت في سياق الدعاية الانتخابية، بسبب سقوطه في استطلاعات الرأي، ووصفه “بأنه شخصية عقائدية متطرفة أكثر تصلبا في مواقفه، وأن من الصعب إغراءه بالمصالح”.
سموتريتش والملف العسكري
ليست التوترات بين سموتريتش والمؤسسة الأمنية جديدة، لكنها وصلت إلى ذروتها مع تسريبات اجتماع الكابينت الأخير، حيث هدد وزير المالية رئيس الأركان إيال زامير بإقالته إذا رفض تنفيذ أوامر توزيع المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة من خلال الجيش.
وهذه الحادثة ليست استثناء، بل جزء من سلسلة طويلة من الصدامات بين سموتريتش والمؤسسة الأمنية.
وفي الوقت الذي تُطالب فيه المؤسسة العسكرية بتخفيف الضغط الإنساني في قطاع غزة، يرفض سموتريتش أي تنازلات، بل إنه كان قد دعا سابقا إلى “إنهاء ملف غزة نهائيا” عبر إعادة احتلال غزة وتدمير حركة حماس بالكامل.
وصرح في مقابلة مع إذاعة “جالي يسرائيل” قائلا: “نحتاج إلى حكومة عسكرية تدير الأمور في غزة، مع الحرص على ألا تصل أي مساعدات إنسانية إلى حماس”.
ما يزيد من تعقيد الموقف هو أن سموتريتش يحاول فرض قرارات عسكرية حساسة، مثل منع إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، مما يُعرض الحكومة لضغوط دولية وأمنية.
وقد أثارت هذه التصريحات قلقا واسعا داخل الأوساط الأمنية التي ترى أن مثل هذه التحركات ستؤدي إلى تصعيد عسكري ودبلوماسي غير محسوب العواقب.
وخاصة أن هناك وزراء آخرين في حكومة نتنياهو، مثل وزير القضاء ياريف ليفين والوزيرة ميري ريغيف، انضموا إلى ضغوط سموتريتش، حيث طالبوا الجيش بالتصعيد في العمليات العسكرية لتحقيق أهداف سياسية، كإطلاق سراح الأسرى.
وقد وصف المحلل عاموس هرئيل -في مقالة نشرت في صحيفة “هآرتس”- تهديدات سموتريتش لرئيس الأركان زامير بأنها “إذلال علني”، مؤكدا أنها تعكس نهجا دكتاتوريا داخل الحكومة، حيث لم يحاول نتنياهو الدفاع عن زامير، بل سمح لسموتريتش بممارسة الضغط علنا.
ووصفت صحيفة هآرتس هذه التوترات بأنها انهيار غير مسبوق في العلاقة بين السياسيين والقادة الأمنيين، مشيرة إلى أن تهديدات سموتريتش تجاوزت “حدود الإذلال” إلى “فرض نهج سلطوي”، وأن هذا الأمر بمثابة “صراع وجودي داخل الحكومة” بين رؤية المؤسسة العسكرية ورؤية السياسيين الشعبويين.
ملف التجنيد
رغم الخلافات الأيديولوجية الواضحة بين التيار الديني القومي، الذي تمثله أحزاب الصهيونية الدينية الثلاثة (سموتريتش، وبن غفير، وماعوز) من جهة، وبين الأحزاب الحريدية من جهة أخرى، فإن ملف التجنيد للجيش هو الملف الأكثر سخونة بين كل القضايا بسبب الحرب، وما أفرزته من أعداد كبيرة من القتلى.
ففي حين يصر الحريديم على تمرير القانون كشرط لاستمرارهم في دعم الحكومة، يُطالب التيار الديني القومي بتجنيد الجميع، بما في ذلك الحريديم، لدعم الجيش الإسرائيلي الذي تعرض لخسائر كبيرة في جنوده بسبب الحرب.
وتكشف الأرقام عن عمق الأزمة، فوفقا لتقرير نشره موقع تايمز أوف إسرائيل، فإن أكثر من 60% من الجنود القتلى خلال الحرب الحالية ينتمون إلى التيار الديني القومي، رغم أن نسبتهم لا تتجاوز 10% من المجتمع الإسرائيلي.
وقد جعل هذا الواقع سموتريتش يضغط بشدة لتجنيد الحريديم، معتبرا أن الظرف الراهن يتطلب “جيشا قويا وشاملا” لمواجهة التحديات الوجودية.
ووصلت الخلافات داخل الحكومة بشأن هذه القضية إلى ذروتها مع اقتراب الموعد النهائي الذي حدده الحريديم لإقرار قانون الإعفاء، وهو الأول من يونيو/حزيران، مما يجعل خيار انهيار الائتلاف احتمالا واردا إذا لم يتم التوصل إلى تسوية تُرضي جميع الأطراف.
حلم إسرائيل الكبرى
لم تخف أجندة سموتريتش الأيديولوجية الداعية لإقامة “مملكة إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات عن أحد، فمنذ تشكيل حكومة نتنياهو، عزز سموتريتش سيطرته على ملفات الاستيطان والضم في الضفة الغربية، مستغلا دعما سياسيا كبيرا من التيار اليميني المتطرف داخل إسرائيل.
وعززت الحرب على غزة فرصة الأحزاب الدينية لفرض سياستها بما يتعلق بالسكان والجغرافيا “بإقامة مملكة إسرائيل الكبرى، من النيل إلى الفرات”. ولم يخف سموتريتش هذا الأمر بل ذكره صراحة في كثير من تصريحاته، لذلك يعمل بشكل متسارع على استكمال ضم الغربية مستغلا حكومة ترامب المؤيدة لهذا التوجه.
ووصفت افتتاحية هآرتس الأربعاء أن الضم بات واضحا لأي شخص يسافر في أنحاء الضفة الغربية، خاصة أي شخص يتابع أنشطة بتسلئيل سموتريتش وأعضاء الائتلاف الآخرين، حيث يظهر:
- زيادة هائلة في حجم تصاريح البناء في المستوطنات.
- نقل الإدارة في الضفة الغربية من الجيش إلى المستوطنين وأنصارهم.
- الاستيلاء على الأراضي تحت مسمى أراضي الدولة بوتيرة مذهلة وتشديد الإجراءات ضد البناء الفلسطيني ونقل الميزانيات.
- إعطاء شرعية متزايدة لعصابات التلال الذين يقومون فعليا بعمل طرد الفلسطينيين على الأرض.
وقد وصف سموتريتش في مناسبات عديدة الضفة الغربية بأنها “قلب إسرائيل التاريخية”، مشددا على أنه لن يتراجع عن تحقيق رؤيته مهما كلف الأمر.
وأكد عاموس هرئيل في هآرتس أنه لا يمكن الاستهانة بأهداف سموتريتش الأيديولوجية، أو الإنجازات السياسية التي حققها حتى الآن، وقد عهد إليه منذ فترة طويلة بكل الصلاحيات الأساسية في الضفة الغربية، بطريقة تسمح له بقيادة ضم فعلي للمستوطنات.
من جهته، يشير المحلل عطا الله إلى أن نتنياهو ضعيف أمام شخصية سموتريتش الذي بات الشخصية الأهم في الحكومة، وأن كل البرامج التي نفذتها منذ أن تشكلت هذه الحكومة هي برامج سموتريتش سواء البرنامج الاستيطاني، وعملية الضم، واستمرار الحرب في قطاع غزة، وحتى التنصل من اتفاق يناير/كانون الثاني.
الحرب الأبدية
لا تتوقف ضغوط سموتريتش عند الضفة، بل يقف على رأسها استمرار العدوان على غزة طوال 18 شهرا، ويعترف في لقائه مع “سورجيم” بأنه عازم على قيادة تحرك داخل الحكومة يُصدر فيه أمر للجيش باقتحام غزة، الآن وبكل قوته من “أجل الانتصار وتدمير حماس، وإقامة حكومة عسكرية، وإدارة المساعدات الإنسانية بطريقة لا تصل إلى حماس بأي حال من الأحوال، وتنفيذ خطة ترامب”.
ويعترف سموتريتش بأنه يقف عائقا أمام إنهاء الحرب في غزة أو الوصول لصفقة تبادل وفقا لتصريحه لإذاعة جالي إسرئيل في ترتيب الأولويات بخصوص أهمية الأسرى والدفع بتطبيق خطة الإبادة والإخضاع والتهجير والضم.
ويقول الكاتب الإسرائيلي روجيل ألفر بمقال في هآرتس: “كما أن لنتنياهو مصلحة وجودية في طاعة زامير له، فإن تحمل مسؤولية توزيع الغذاء أمر ضروري لإقامة حكم عسكري في قطاع غزة، وهو ما سيؤدي إلى ضم الأراضي، ونقل السكان، وإقامة المستوطنات، وهو شرط ضروري لاستمرار الحرب الأبدية”.
لذلك، فإن سموتريتش يضغط على المؤسسة العسكرية “بكل وقاحة لتوسيع العملية العسكرية في غزة ويهدد بإسقاط الحكومة إذا ما دخلت مساعدات غذائية وطبية”، بحسب المختص في الشؤون الإسرائيلية سليمان بشارات.
ويرى محللون أن ما يقوم به سموتريتش ونتنياهو وبن غفير هو تأجيل الانفجار الأكبر في الحلبة السياسية الإسرائيلية عبر التنفيس بالحديث عن مفاوضات هنا وهناك، وصفقات تستخدم أيضا لشراء الوقت، وإدارة الحرب ومحاولة ترتيب الأوراق الداخلية.
كما يسعون لترتيب الأولويات للشارع الإسرائيلي تحت شعار التهديد الوجودي، ليضعوه أمام خيارين “إما الخطر الوجودي، أو التضحية بالأسرى”.
أكبر مهدد لحكومة نتنياهو
رغم الضغوط التي يمارسها سموتريتش وأعضاء حكومة نتنياهو الآخرين، فإن الجيش يعاني حالة الإنهاك والاستنزاف وفقا لوصف هرئيل، حيث وجد زامير في جولاته العديدة، في الميدان وفي المقر الرئيسي، جيشا منهكا ومستنزفا، راكعا تحت وطأة المهام على جبهات متعددة، في حاجة ماسة إلى تعزيزات القوى العاملة، وممزقا من الداخل في مواجهة الخلاف المتزايد حول أهداف الحرب.
ومع ذلك بات الجيش والأجهزة الأمنية، بل كل مكونات الحكومة، أدوات لتنفيذ مخططات سموتريتش وطموحاته الأيديولوجية، ويمكنه الاستغناء عنها إذا تعارضت مع مخططاته وطموحاته.
ولم يستبعد المختص في الشؤون الإسرائيلية بشارات بأن يقفز سموتريتش من سفينة حكومة نتنياهو لتقديمه أيديولوجيته على أي شيء آخر، فهو مخلص أيديولوجيا ولا يهتم بالحكومة أو البقاء فيها، فهي وسيلة له لتنفيذ مخططاته في الضفة وغزة والإقليم.
ويتفق عطا الله معه بأن سموتريتش هو أكبر مهدد لتماسك حكومة نتنياهو الذي يعرف مدى جدية وزير المالية، والتي تعتبر ضغوطه أكبر من أي ضغوط داخلية تواجه نتنياهو شخصيا.
فسموتريتش ليس مثل بن غفير الشعبوي الذي نجح نتنياهو في استمالته والسيطرة على تصريحاته وخطواته المندفعة عبر المناصب والصلاحيات، لهذا يقف نتنياهو عاجزا أمام ابتزازات سموتريتش وإملاءاته التي باتت في كل الملفات، وليس في قضية الحرب على غزة وحدها.