عانى قطاع غزة العام الماضي من هطول كثيف للأمطار في شهر ديسمبر/كانون الأول 2022، وكان الحديث يدور وقتها عن أن النقص الكبير في البنى التحتية للصرف الصحي بسبب الحصار المفروض على القطاع، يزيد من المخاطر الصحية لتلك الأمطار.

ولا تزل مخاطر الأمطار حاضرة وبدرجة أشد مع الهطول المبكر لها والذي بدأ قبل أيام. ولكن الجديد هذه المرة هو هطولها مع اشتداد الحرب التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، مما أوجد لها جانبا إيجابيا تمثل في تنقية الهواء من ملوثات القنابل والقذائف التي استخدمها جيش الاحتلال.

ورغم معاناة سكان قطاع غزة بعد أن أغرقت مياه الأمطار الخيام التي تؤويهم، وتصاعد الحديث عن أخطار تراكمها في ظل تعطل خدمات الصرف الصحي بسبب نقص الوقود، إلا أن ذلك لم يمنع بعضهم من التقاط هذا الجانب الإيجابي والتعبير عنه بشكل عفوي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

تخثر المطر.. دعم الرواية الغزاوية

وتدعم دراسات أجريت عن دور الأمطار في تنقية الهواء ما عبر عنه الغزّيون بشكل عفوي، حيث يمكن لقطرات الأمطار وفق هذه الدراسات، أن تجذب عشرات إلى مئات من جزيئات الهباء الجوي الصغيرة مثل السَّخام (جسيمات الكربون الناتجة عن الاحتراق غير الكامل للهيدروكربونات) والكبريتات والجزيئات العضوية إلى سطحها قبل أن تصل إلى الأرض، وهي العملية التي تُعرف باسم “التخثر”.

وكشف باحثون تابعون لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بأميركا تفاصيل تلك العملية، وذلك عبر تجارب سبق أن أجريت في غرفة كفاءة التجميع التابعة للمعهد، ونشرت نتائجها في أغسطس/آب 2015 بمجلة “كيمياء وفيزياء الغلاف الجوي”، حيث يتم في هذه الغرفة الزجاجية التي يبلغ طولها 3 أقدام توليد قطرات بمعدل وحجم يمكن التحكم فيه، ومع سقوط القطرات عبر الغرفة، قام الباحثون بضخ جزيئات الهباء الجوي، وقاموا بقياس معدل تخثرهما (أي اندماج القطرات والهباء الجوي).

ومن خلال القياسات، حسبوا كفاءة تخثر المطر، أي قدرة القطرات على جذب الجزيئات أثناء سقوطها، وبشكل عام وجدوا أنه كلما كانت القطرة أصغر زادت احتمالية جذب الجسيمات، كما وجدوا أن ظروف الرطوبة النسبية المنخفضة تشجع على عملية التخثر.

وتناولت دراسة إسبانية فرنسية مشتركة نشرتها دورية “ووتر ريسيرش” في فبراير/شباط 2021، الخصائص الفيزيائية والكيميائية لقطرات المطر التي يمكن أن تساعد في تنقية الهواء، ووضعت تلك الدراسة اختلافات بين الأمطار الصيفية والشتوية، لكنها خلصت في النهاية إلى أن هناك فعالية ملموسة لمياه الأمطار في إزالة الملوثات.

منظف طبيعي لمواد المتفجرات

ويقول مجدي علام مستشار مرفق البيئة العالمي وأمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب في تصريحات هاتفية للجزيرة نت: إن “نتائج هذه الدراسات تدعم الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه الأمطار في حالة قطاع غزة، حيث تعمل كمنظف طبيعي يزيل الغبار والدخان والجزيئات الأخرى من الغلاف الجوي والتي تراكمت كنتيجة للقنابل والمتفجرات التي ألقيت على القطاع”.

ووفقا لـ”علام”، فإن الاحتراق الناتج عن الانفجارات والحرائق واستخدام الآلات الثقيلة أو المركبات أثناء النزاعات، يؤدي إلى إطلاق الجسيمات الدقيقة في الهواء (بي إم) مثل السخام والرماد والغبار، كما تؤدي الانفجارات وحرق الوقود والذخائر إلى إطلاق غازات مثل ثاني أكسيد الكبريت  وأكاسيد النيتروجين وأول أكسيد الكربون والمركبات العضوية المتطايرة، ويمكن أن تساهم هذه الغازات في تكوين الضباب الدخاني الذي يضر بالصحة، كما يؤدي حرق المباني والمركبات والبنية التحتية إلى إنتاج الدخان والسخام الذي يساهم في تلوث الهواء.

وتطلق بعض الأسلحة والذخائر معادن ثقيلة مثل الرصاص والزئبق والكادميوم، كما يمكن أن يؤدي استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاعات إلى إطلاق مواد شديدة السمية في الغلاف الجوي مثل غاز الكلور أو غاز الخردل.

وإضافة غلى ما سبق هناك أثر إيجابي آخر للأمطار يشير إليه علام، وهو إطفاء رماد القنابل أو بقاياها، حيث يؤدي هطول الأمطار إلى ترطيب الرماد، مما يقلل من درجة حرارته ويحد من قدرته على إعادة الاشتعال.

خطورة الشرب في الساعة الأول

هذه الآثار الإيجابية لمياه الأمطار في تحييد خطوره بعض المواد الضارة، تعني من ناحية أخرى أنه يجب التعامل مع الأمطار بحساسية بالغة عند محاولة الاستفادة منها، كما يؤكد علام.

ووفق نصائح مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في أميركا، فإنه يجب تصفية مياه الأمطار التي يتم جمعها لأغراض الشرب وتطهيرها واختبارها بانتظام. وإذا لم تكن هناك إمكانية لتنفيذ ذلك بفعالية، فمن المستحسن استخدام مياه الأمطار المجمعة فقط لأغراض أخرى، مثل البستنة أو غسل الملابس أو الاستحمام.

يقول علام: “في حالة الحروب، تصبح حتى الاستخدامات المسموح بها في تلك النصائح غير مسموح بها، لاسيما في أول ساعة لهطول الأمطار، لأن الأمطار التي توصف بأنها إيجابية في التقاط الملوثات من الهواء، ستكون محملة بتلك الملوثات التي تمثل خطرا على الصحة إذا تعاملنا معها على أنها مياه صالحة للشرب”.

بيئة خصبة لانتشار الكوليرا

والخطر الأكبر للمياه في وقت الحروب، هو أنها قد تكون سببا في انتشار مرض الكوليرا الذي يجد بيئة خصبة عند تعطل خدمات الصرف الصحي.

وكشفت أكثر من دراسة عن هذا الخطر، ومنها دراسة سويسرية نشرتها في فبراير/شباط الماضي الدورية المعنية بالأمراض المعدية “أكتا تروبيكا”، والتي تناولت هطول الأمطار كعامل مساعد لانتشار الكوليرا عبر مسارين هما: زيادة التعرض للمياه الملوثة (بسبب تدهور الظروف الصحية أثناء زيادة المياه)، أو تلوث المياه عن طريق البكتيريا المفرزة حديثا والمسببة للمرض (بكتيريا ضمة الكوليرا Vibrio cholerae).

ويقول محمد الحديدي أستاذ العلوم الطبية الحيوية ومدير مركز أبحاث الجينوم بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا في تصريحات هاتفية للجزيرة نت: إن “الأمطار الغزيرة تؤدي إلى تعطيل أنظمة الصرف الصحي، مما يؤدي إلى اختلاط مياه الصرف الصحي بمصادر المياه العذبة، وهذا بدوره يخلق بيئة مواتية للتكاثر السريع وانتشار بكتيريا ضمة الكوليرا، وبمجرد تلوث مصادر المياه بالبكتيريا، قد يستهلك الأفراد هذه المياه الملوثة دون قصد لأغراض الشرب أو الطهي أو الاستحمام”.

وحذرت منظمة الصحة العالمية في وقت مبكر من “كارثة بيئية” وصحية بسبب تعطل مضخات الصرف الصحي بغزة لانقطاع التيار الكهربائي، نتيجة لنفاد الوقود اللازم للتشغيل.

ويوضح الحديدي أنه “مع هطول الأمطار الكثيف تصبح المشكلة أكبر بعد توقف مضخات الصرف الصحي، حيث تمثل ضغطا على محطات الصرف الصحي المتوقفة”.

وقبل هطول الأمطار أشارت تقارير إلى أن مياه الصرف الصحي بدأت بالفيضان في منطقة بشرقي غزة نتيجة تعطل محطة الصرف الصحي، وهي مشكلة من المتوقع أن تصبح أكثر خطورة بعد الهطول الكثيف للأمطار، مما يجعل القطاع بيئة خصبة لانتشار أوبئة مثل الكوليرا.

شاركها.
Exit mobile version