بيزنس الأربعاء 10:46 م

حديثا يشير مصطلح “الخيميائي” بشكل مجازي إلى شخص يسعى إلى إنشاء شيء قيّم من خلال التجريب والسعي وراء المعرفة، وقديما كانت “الخيمياء” التي أرست الأساس للكيمياء الحديثة؛ تُعرف بأنها نشاط يهدف إلى تحويل المعادن الأساسية إلى معادن نبيلة (مثل الذهب).

ولم تفلح جهود الخيميائيين في الماضي في تحويل المواد الأساسية إلى ذهب، إلا أن الباحثين بقسم العلوم الصحية والتكنولوجيا بالمعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا بزيورخ فعلوا شيئا قريبا من هذا السياق، فهم لم يحولوا عنصرا كيميائيا إلى ذهب كما سعى الخيميائيون، لكنهم تمكنوا من استعادة الذهب من النفايات الإلكترونية باستخدام منتج ثانوي لعملية صناعة الجبن.

وتحتوي النفايات الإلكترونية على مجموعة متنوعة من المعادن الثمينة، بما في ذلك النحاس والكوبالت، وكميات كبيرة من الذهب، ويعد استرداد هذا الذهب من الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب المهجورة، اقتراحا جذابا نظرا للطلب المتزايد على المعدن الثمين.

ومع ذلك، فإن طرق الاسترداد المبتكرة حتى الآن تستهلك الكثير من الطاقة، وغالبا ما تتطلب استخدام مواد كيميائية شديدة السمّية. لكنّ مجموعة بحثية بقيادة البروفيسور رافائيل ميزنغا بالمعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا، توصلت إلى طريقة فعالة للغاية من حيث الكلفة، وقبل كل شيء أكثر استدامة بكثير، فقد نجحوا في استخراج الذهب من النفايات الإلكترونية باستخدام إسفنجة مصنوعة من مصفوفة بروتينية (شبكة أو بنية ثلاثية الأبعاد تتكون من البروتينات) مصدرها مصل اللبن، وهو أحد المنتجات الثانوية لصناعة الجبن.

تصنيع الإسفنجة.. 3 خطوات

من خلال عملية بدأت بتغيير طبيعة بروتينات مصل اللبن، نجح الباحثون في صناعة الإسفنجة، وقدموا في الدراسة المنشورة بدورية “أدفانسد ماتريلز” شرحا تفصيليا لكيفية تصنيعها عبر عدد من الخطوات، هي:

  • 1- تغيير طبيعة بروتينات مصل اللبن:

فمصل اللبن يحتوي على البروتينات، وكانت الخطوة الأولى للباحثين هي تغيير طبيعتها في ظل ظروف حمضية ودرجات حرارة عالية، حيث يشبه ذلك تسخين بيضة نيئة لتتحلل البروتينات الموجودة في بياض البيض وتتكشف، مما يغير نسيجها من السائل إلى الصلب.

  • 2- التجميع في ألياف نانوية:

بمجرد تغيير طبيعة بروتينات مصل اللبن، تتجمع البروتينات في ألياف بروتينية نانوية في مادة تشبه “الهلام”، وتخلق عملية التجميع شبكة من خيوط البروتين المترابطة، وهو أمر أشبه بخلط الدقيق والماء لصنع العجين، فأثناء عجن العجين تتحد البروتينات الموجودة في الدقيق لتشكل خيوط “الغلوتين”، مما يمنح العجين قواما مرنا.

  • 3- التجفيف لتشكيل الإسفنج:

يُجفف بعد ذلك الهلام الذي يحتوي على ألياف البروتين النانوية، مما يتسبب بتبخر الماء تاركا وراءه بنية تشبه الإسفنج مصنوعة من ألياف البروتين، ويشبه ذلك تجفيف إسفنجة مبللة، فعندما يتبخر الماء تصبح جافة ومسامية وذات ملمس مناسب لامتصاص السوائل.

باستخدام منتج ثانوي لصناعة المواد الغذائية، استخرج الباحثون الذهب عيار 22 قيراطًا من اللوحات الأم القديمة للكمبيوتر (ديبوسيت فوتوس)

استعادة الذهب.. 4 خطوات

بعد تصنيع الإسفنجة باستخدام بروتينات مصل اللبن، بدأت عملية توظيفها لاستخلاص الذهب من النفايات الإلكترونية، وذلك عبر 4 خطوات، أوضحتها الدراسة بالتفصيل، وهي:

  • 1- تحضير النفايات الإلكترونية:

وذلك بتجهيز النفايات الإلكترونية التي تحتوي على الذهب مع معادن أخرى، مثل اللوحات الأم للحاسوب القديم.

  • 2- إذابة الأجزاء المعدنية:

فالخطوة التالية هي إذابة الأجزاء المعدنية من النفايات الإلكترونية في حمام حمضي لتأيين المعادن بما في ذلك الذهب، وتقوم هذه العملية بتفكيك المكونات المعدنية إلى أيونات فردية معلقة في المحلول، وهو ما يشبه قيامك بإذابة ملعقة من الملح في كوب من الماء، حيث تتحلل بلورات الملح إلى أيونات الصوديوم والكلوريد الفردية، وتنتشر في جميع أنحاء الماء.

  • 3- استخلاص أيونات الذهب بواسطة الإسفنج:

تُغمر إسفنجة ألياف البروتين -التي صُنعت سابقا من بروتينات مصل اللبن- في محلول أيون معدني يحتوي على أيونات الذهب، حيث تلتصق أيونات الذهب بشكل انتقائي بالألياف البروتينية للإسفنجة، ويمكن لأيونات المعادن الأخرى أيضا أن تلتصق بالألياف، لكن أيونات الذهب تفعل ذلك بكفاءة أكبر. ويرجع ذلك لامتلاك أيونات الذهب أُلفة كيميائية فريدة لبعض المجموعات الوظيفية الموجودة في ألياف البروتين في الإسفنج، وقد تشمل هذه المجموعات الوظيفية أحماضا أمينية تحتوي على الكبريت مثل السيستين، أو مجموعات تحتوي على النيتروجين. كما أن أيونات الذهب تحمل شحنة موجبة (بسبب فقدان الإلكترونات)، بينما قد تحمل الألياف البروتينية للإسفنج شحنات سالبة، خاصة في المناطق التي تحتوي على أحماض أمينية حمضية، ويؤدي هذا الاختلاف في الشحنات إلى إنشاء تجاذبات كهروستاتيكية بين أيونات الذهب الموجبة الشحنة والألياف البروتينية المشحونة سالبا، مما يعزز امتصاص أيونات الذهب على سطح البروتين.

  • 4- التسخين لاستعادة الذهب:

بعد امتصاص أيونات الذهب، تُسخن الإسفنجة لتحويل أيونات الذهب إلى رقائق ذهبية صلبة، ثم تُصهر هذه الرقائق إلى كتلة صلبة من الذهب، مما يؤدي إلى استخلاص الذهب الخالص من النفايات الإلكترونية، وهو ما يمكن تشبيهه بتصلب قطعة من الطين وتحويلها إلى فخار بعد تسخينها، حيث تُسبب الحرارة تغيرات كيميائية في الطين وتحوله إلى جسم صلب ومتين، وبالمثل فإن تسخين الإسفنجة يحول أيونات الذهب إلى رقائق ذهبية صلبة.

نتائج مجدية اقتصاديا

وبهذه الطريقة الموصوفة بالدراسة حصل الباحثون على كتلة صلبة تبلغ نحو 450 مليغراما من أصل 20 لوحة أم للحاسوب، وكانت الكتلة الصلبة مكونة من 91% من الذهب (والباقي من النحاس)، وهو ما يعادل 22 قيراطا.

ويقول رافائيل ميزنغا في بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني للمعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا: “التكنولوجيا الجديدة قابلة للتطبيق تجاريا، لأن تكاليف شراء المواد المضافة وتكاليف الطاقة اللازمة للعملية، أقل بـ50 مرة من قيمة الذهب الذي يمكن استرداده”.

ويرغب الباحثون في تطوير التكنولوجيا لتجهيزها للسوق، فعلى الرغم من أن النفايات الإلكترونية هي المنتج الأولي الواعد الذي يريدون استخراج الذهب منه، فإن هناك مصادر أخرى محتملة. وتشمل المصادر الأخرى النفايات الصناعية الناتجة عن تصنيع الرقائق الدقيقة، كما يخطط العلماء للتحقق مما إذا كان بإمكانهم تصنيع إسفنجات ليفية بروتينية من منتجات ثانوية أخرى غنية بالبروتين أو مخلفات صناعة الأغذية.

ويضيف ميزنغا: “الحقيقة التي أُحبها أكثر في هذا العمل هي أننا نستخدم منتجا ثانويا لصناعة المواد الغذائية للحصول على الذهب من النفايات الإلكترونية، ويشيرذلك إلى أن هذه الطريقة بالمعنى الحقيقي للغاية، تُحول اثنين من النفايات إلى ذهب، ولا يمكنك الحصول على عملية تدوير أكثر استدامة من ذلك”.

التطبيق التجاري.. سؤالان برسم الإجابة

ما يحبه ميزنغا في هذا الإنجاز البحثي، هو في حد ذاته نقطة التميز الأهم في هذه الدراسة المختلفة في منهجها ونتائجها، كما يوضح أستاذ علوم المواد بجامعة أسيوط (جنوب مصر) خالد أبو العز.

لكن هذه الإعجاب الشديد بالدراسة ونتائجها، لم يمنع أبو العز من الإشارة إلى أن هناك سؤالين يتعين على الباحثين الإجابة عليهما في دراسات لاحقة حتى تكتمل الرؤية فيما يتعلق بالانتقال بهذا الإنجاز من المختبر إلى التطبيق العملي.

يقول أبو العز في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: إن”السؤال الأول يتعلق بـتوصيف منتجات الذهب، حيث توجد حاجة إلى معرفة مدى نقاء ونوعية منتجات الذهب المستردة، وهل هناك أي شوائب أو ملوثات يمكن أن تؤثر في القيمة السوقية والتطبيقات المحتملة للذهب المسترد”.

وإذا كان ميزنغا، قد أشار إلى أن توسيع دائرة النفايات الصناعية التي يمكن العمل عليها سيزيد من الجدوى الاقتصادية، فإن ذلك يتطلب الإجابة على سؤال ثان أشار إليه أبو العز وهو: “هل سيعمل الإسفنج البروتيني المبتكر بنفس الكفاءة مع تلك النفايات، وهل المدخلات المستخدمة في عملية الإنتاج ستحتاج إلى إضافات أو تعديلات عند تطبيق تلك الطريقة على نوعية أخرى من النفايات؟ وذلك لضمان إنتاج فعال من حيث التكلفة”.

شاركها.
Exit mobile version