لم يكن الفريق البحثي الذي أخذ على عاتقه سد واحدة من أبرز الثغرات الدولية في عالم أبحاث النمل، وهو عدم وجود توثيق لأنواعه في مملكة البحرين، يعلم أن هذه المهمة العلمية ستنتهي بصيد ثمين، وهو اكتشاف نوع جديد، لم يسبق اكتشافه في أي مكان في العالم.
ويحرص العلماء دوما في مثل هذه الاكتشافات المهمة على منحها أسماءً رنانة تحقق لها الانتشار والتميز، مثل اختيار اسم نجم ليفربول اللاعب المصري محمد صلاح، ليكون ملاصقًا لاكتشاف سابق لقائد الفريق البحثي لهذه الدراسة، الباحث المشارك بالمتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي بنيويورك د.مصطفى شرف، ليصبح اسم النملة “ميرانوبلوس مو صلاحي”، لكن شرف ورفاقه قرروا وبعد مداولات ومشاورات أن يكون اكتشافهم الجديد، الذي تم الإعلان عنه في دراسة نشرت بدورية “جورنال أوف نيتشر هيستوري”، مرتبطا باسم الدولة التي اكتشفت فيها، ليصبح اسم النملة الجديدة ” ليبيسيوتا بحرينينسيس”.
ويقول شرف في تصريحات لـ “الجزيرة نت”: “عندما قررت في المرة الأولى إعطاء اسم (مو صلاحي ) للنملة الجديدة، كان ذلك سببه أن سلطنة عمان التي اكتشفت بها النملة، تمت دراسة بيئتها كثيرا، وخرجت منها اكتشافات جديدة، لكن عالم النمل في البحرين كان مجهولا، لذلك رأينا أن يكون أول اكتشاف مهم حاملا لاسم الدولة”.
وعثر الفريق البحثي الذي يضم إلى جانب شرف، الباحثين عبد العزيز محمد الأستاذ السابق بجامعة الخليج العربي بالبحرين، وعبد الرحمن بن سعد الداود الأستاذ بجامعة الملك سعود بالسعودية، ومحمد جمال الأستاذ المساعد بكلية العلوم جامعة عين شمس بمصر، وكريستوس جيورجيادوس الأستاذ بجامعة أثينا باليونان، وجيمس ويترر الأستاذ بجامعة فلوريدا أتلانتيك بأميركا، على هذا الصيد العلمي الثمين في زراعات قديمة مهملة مرتبطة بزراعات النخيل في منطقة حضرية في الثلث الشمالي من البحرين.
لماذا تم تصنيف” ليبيسيوتا بحرينينسيس” كنوع جديد؟
تنتمي النملة المكتشفة إلى جنس “ليبيسيوتا”، والذي يتميز شكله العام بجسم ممدود ونحيف، يساعده على التنقل بسرعة وخفة عبر الموائل المختلفة، وينقسم إلى 4 أجزاء رئيسية، وهي الرأس، والصدر (الجزء الأوسط) ، والخصر ثم أخيرا البطن (الجزء المِعدي).
وغالبا ما يكون شكل الرأس في هذا الجنس مستديرا إلى حد ما أو بيضاويا ، وتكون لديه قرون استشعار مقسمة وعادة ما تكون طويلة، مما يسمح بمدى حسّي واسع.
والجزء العلوي من الصدر يكون عريضا ومسطّحا، والبطن منتفخ عادة، وتكون الأرجل طويلة ونحيلة بشكل استثنائي، ومكيفة للحركات السريعة، وتكون قصبة الساق (أجزاء الساق) مسطحة للمساعدة في البحث عن الطعام والتسلق.
وبين الصدر والبطن تكون هناك عقلة واحدة، اسمها العنق، تكون مزوّده بشوكة أو شوكتين في أغلب الأنواع التي تتبع الجنس، ولكن ما يميز “ليبيسيوتا بحرينينسيس”، هو غياب الأشواك، حيث توجد بديلا عنها زاوية تكاد تكون مستديرة، وهذه هي الميزة التي جعلت الفريق البحثي يصنفها نوعا جديدا، كما يوضح شرف.
ويضيف أن ” هذا الاكتشاف سيكون بداية لدراسات لاحقة قد يجريها علماء آخرون، للإجابة على العديد من الأسئلة التي تتعلق بتاريخ وجود (ليبيسيوتا بحرينينسيس) في المنطقة، والمزايا الوظيفية التي تحققها ميزة غياب الأشواك”.
أطلس لنمل البحرين
وتصنف النملة الجديدة التي اكتشفها الباحثون مبدئيا على أنها “نملة متوطنة”، وهو ما يميزها عن الأنواع الأخرى من النمل التي تم توثيقها خلال المهمة البحثية.
ويقول شرف “لم يكن معروفا من أنواع النمل الموجودة في البحرين سوى نوعين فقط، وحتى هذان النوعان لم يتم نشرهما علميا، وكانت كل معرفتنا عنهما من خلال عينات توجد في أحد المتاحف الأميركية، وبهذا مثلت مملكة البحرين فجوة كبيرة في خريطة النمل العالمية، لكننا في هذه الدراسة الجديدة تمكنا إلى حد كبير من سد هذه الفجوة بإصدار أطلس لنمل البحرين، يتضمن 35 نوعا، منها نملة متوطنة، يتم اكتشافها لأول مرة في العالم، و25 نوعا محليا و9 أنواع غازية “.
ويشرح شرف الفرق بين الفئات الثلاث لنمل البحرين، مشيرا إلى أن ” الأنواع المحلية، تكوّن أنواعا معروفًا أنّها تعيش في منطقة الخليج العربي وربما في بعض المناطق المجاورة، لذلك يتم تصنيفها على أنها أنواع محلية، أما النوع المتوطن، فهو النوع الذي نعرف من خلال اطلاعنا على أنواع النمل في العالم، أنه نوع جديد يكتشف لأول مرة ولا يوجد إلا في دولة الاكتشاف ، لذلك نسميه بأنه نوع متوطن، وأما الصنف الأخير، فهو لأنواعٍ غازية وهي تلك التي استطاعت أن تغزو بيئات متنوعة حول العالم، وعثر على بعضها في البحرين، وهي تمثل خطورة كبيرة على النظام البيئي”.
خطر على البيئة والصحة
وتكمن خطورة الأنواع الغازية، كما يوضح شرف، في أنها تشارك الأنواع المحلية موائلها الطبيعية لتنافسها في مواردها، وتكون هذه المنافسة عادة في صالح الأنواع الغازية، مما يحدث خللًا في الأنظمة البيئية، وتكون الخطورة أكبر على الأنواع المتوطنة النادرة، والتي قد تعرّضها هذه المنافسة لخطر الانقراض.
وينشأ الخلل بالنظام البيئي لكون الأنواع المحلية والمتوطنة من النمل غذاءً ملائما للعديد من الزواحف والطيور، ومن ثم فإن غيابها لتحل محلها الأنواع الغازية من شأنه أن يفقد الزواحف والطيور غذاءها المناسب، مما يهدد استقرار النظام البيئي.
وإلى جانب هذا التأثير البيئي، فإن هناك خطرا مباشرا على صحة البشر يمكن أن تمثله بعض الأنواع الغازية المكتشفة في البحرين، مثل نملة “تابينوما ميلانوسيفالوم”، والتي ثبت أنها ناقل ميكانيكي لبعض الميكروبات مسببة الأمراض، كما أن لديها قدرة كبيرة على غزو المنازل، وتحديدا المطابخ، بما يعرض صحة البشر للخطر.
مزيد من الضبط لإجراءات الحجر
ورغم سعادة شرف ورفاقه بصيدهم الثمين، وهو اكتشاف نوع جديد من النمل في هذه المهمة البحثية، فإن ذلك لم يمنعهم من التعبير عن قلقهم البالغ من توثيق 9 أنواع غازية من النمل في البحرين، أي أنها تمثل 26% من أنواع النمل في البحرين(35 نوعا)، وهي النسبة الكبرى بين دول الخليج، حيث تمثل الأنواع الغازية في سلطنة عمان 9%، والإمارات العربية المتحدة 10%، والمملكة العربية السعودية 10%، ودولة قطر 22%.
وتمثل مملكة البحرين إحدى البوابات الشرقية لشبه الجزيرة العربية، لذلك فإن هناك خطرا يتمثل في انتقال هذه الأنواع الغازية إلى دول أخرى في المنطقة، كما يوضح شرف.
ولأن هذه الأنواع الغازية غالبا ما غزت البحرين مع المواد الغذائية والزراعية المستوردة من الخارج، فإن التوصية التي خرجت بها الدراسة، هي تنفيذ مزيد من إجراءات الحجر الأكثر صرامة في كل من المطارات والموانئ لمنع دخول المزيد من الأنواع الغازية.
ويقول شرف “هناك أكثر من 500 نوع مصنف كنمل غازٍ، منها 9 أنواع تم تسجيلها في البحرين، ولا نريد مزيدا من الانتقال لهذه الأنواع إلى هناك”.
ويختم “يكفي دخول ملكة نمل واحدة ملقّحة إلى الدولة، لتكون نواه لأول مستعمرة نمل من نوعها، عندما تجد الموئل المناسب لوضع البيض”.