قبل نحو 14 عاما، كان الطريق أمام العالم المصري الشاب هيثم شعبان قائد إحدى المجموعات البحثية بجامعة جينيف في مجال الطب الدقيق، ممهَّدا مثل أي طالب متفوق للترقي والانتقال من درجة إلى أخرى في سلم الوظيفة البحثية داخل مصر دون عناء. ولكنّ سؤالا كان يشغل باله منذ كان طالبا في قسم الفيزياء الحيوية بجامعة الأزهر المصرية، دفعه إلى هجر هذا الطريق السهل، وقطع طريق طويل تنقل خلاله من دولة إلى أخرى، ولا يزال بحثه جاريا عن الإجابة حتى الآن.

كان السؤال يدور حول أسباب تباين خلايانا رغم أنها من مادة وراثية واحدة، فتكون هوية خلايا العين على سبيل المثال غير خلايا الجلد. وخلال رحلته نحو الوصول للهدف المنشود، استطاع تحقيق بعض الاختراقات المهمة التي تقربه من غايته، ومنها النجاح في تصوير حركة الحمض النووي في الخلايا.

وبدأت رحلة شعبان بعد التخرج والحصول على فرصة للعمل في المركز القومي للبحوث بمصر، حيث أدرك حينها أن الإمكانيات المتوفرة هناك لن تشبع شغفه بالحصول على الإجابة المنشودة، بل إنه أدرك وقتها أيضا أنه غير مؤهل علميا بالقدر الكافي حتى يستطيع الحصول على إجابة، إذ إن ذلك يقتضي -بحسب ما توصل إليه بعد بحث وتحرٍ- أن يكون ملما بتخصص “الجزيء الواحد في الأنظمة الحيوية”، وهو فرع من العلوم عابر للتخصصات، إذ يحتاج إلى باحث ملم بالكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والهندسة.

يقول شعبان في مقابلة خاصة مع “الجزيرة نت” عبر تطبيق “زوم”: “استسلمت في البداية للواقع، وسجلت للحصول على الماجستير من مصر في موضوع ليس له أي علاقة بتخصص الجزيء الواحد، وكان عن تأثير الإشعاع على البروتينات في الخلايا، ولكن السؤال الذي كان يشغلني دفعني لتوزيع وقتي بين إعداد الماجستير والقراءة عن هذا التخصص لعلي أستطيع أن أحصل على منحة لإعداد الدكتوراة في أي موضوع له علاقة به”.

إحباط ثم انفراجة

ويصمت لوهلة يلتقط خلالها الأنفاس قبل أن يواصل حديثه قائلا: “لم أضيع وقتا بعد الحصول على الماجستير، إذ قمت بملء أكثر من 150 طلبا للحصول على منحة للدكتوراه في هذا التخصص، وراسلت كبار أساتذة التخصص، وتلقيت ردا محبطا من أستاذين في السويد وهولندا مفاده أن سيرتي الذاتية جيدة لكنها لا تؤهلني للحصول على الدكتوراه في تخصص الجزيء الواحد”.

كان من الممكن أن يثني هذا الرد شعبان عن المضي في هذا الطريق، والتركيز في المسار السهل الذي تفتحت آفاقه أكثر وأكثر بالحصول على الماجستير، لكنه يقول بنبرة لا تخلو من التحدي: “كان سؤال هوية الخلايا يسيطر على ذهني، والطريق الواضح للحصول على الإجابة هو دراسة الجزيء الواحد، لذلك ركلت الإحباط وواصلت السعي، حتى عرفت أن هناك مدرسة صيفية مدتها أسبوع في هذا التخصص ستستضيفها الجامعة الكاثولوكية في بلجيكا، وسيحضرها كبار أساتذة التخصص، وقررت أنه يجب أن أشارك بها مهما كلفني ذلك، حتى تضيف إلى خبراتي عندما أراسل جامعات أخرى من جديد”.

وترتسم على وجهه ابتسامة عريضة قبل أن يواصل الحديث قائلا: “بالفعل تحملت التكلفة المادية المرتفعة جدا لهذه الرحلة، لكنها فتحت لي طريقا بين جامعات أوروبا وأميركا ما أزال أسير فيه إلى الآن”.

وبدأت بُشريات تلك الرحلة مع وصول شعبان إلى فندق الإقامة، إذ تلقى ردا على رسالة كان قد أرسلها إلى كبير أساتذة هذا التخصص وهو عالم ألماني من معهد ماكس بلانك، ومن المفارقات أن هذا العالم نفسه كان ضيف شرف هذه المدرسة الصيفية.

ويضحك شعبان ويقول: “اقتربت منه في اليوم الأول، وأخبرته أني حضرت خصيصا لهذه المدرسة كي أقابله، فاعتذر عن تأخره في الرد على بريدي الإلكتروني، ووعدني -بسبب انشغاله هذا اليوم- بالحديث معي مطولا في اليوم التالي، لكني كنت مثل الغريق الذي تعلق بطوق إنقاذ، إذ واصلتُ محاصرته في كل مكان يذهب إليه في هذا اليوم، فاقترب مني أكثر من مرة، وأعاد تكرار وعده بالجلوس معي في اليوم التالي”.

ويتابع: “في اليوم التالي كنت أول شخص يدخل إلى قاعة المحاضرات، فقد كان القلق يساورني بأن يترك الرجل بلجيكا دون أن أتحدث معه رغم وعده لي، ولكنه في هذا اليوم كان كريما معي للغاية، ففي كل جلسات الاستراحة بين المحاضرات كان يتحدث معي، وأعجب بإصراري على دراسة التخصص رغم أنه غير موجود بالجامعات المصرية، ووعدني باعطائي الفرصة للدراسة معه في معهد ماكس بلانك بعد دراسة بعض الكورسات التأهيلية التي حددها لي”.

تغيير المسار إلى أميركا

أمسك شعبان بتلابيب الفرصة التي مُنحت له ودرس “الكورسات” التأهيلية التي حددها له الأستاذ الألماني الذي وفى بوعده، ولكن ما أن بدأ يجهز لشد الرحال إلى ألمانيا، وقع للأستاذ الألماني طارئ صحي مكث بسببه في المستشفى وتعطل السفر لبعض الوقت.

لم يضيع شعبان وقته، إذ أصبح لديه سيرة ذاتية أكثر مواءمة لتخصص “الجزيء الواحد” بعد أن استكمل الكورسات التي نصحه بها الأستاذ الألماني، وحصوله على شهادة المدرسة الصيفية في جامعة بلجيكا، فخاض الاختبارات الأميركية التي تؤهله لاستكمال الدراسات العليا هناك، وبعد نجاحه بها تقدم لِمِنح في أكثر من جامعة، فجاءته موافقة من ثلاث جامعات، ليختار جامعة إيموري لأنها كانت الأكثر اهتماما بتخصص الجزيء الواحد.

أمضى شعبان فترة في جامعة إيموري تجوّل خلالها بين أكثر من معمل وحصل على العديد من “الكورسات”، لكنه قرر عدم الاستمرار في أميركا والبحث عن فرصة في أوروبا لسببين؛ أولهما أن ثورة يناير/كانون الثاني كانت قد قامت بمصر، وما تبعها من اضطرابات أمنية خشي معها أن يكون بعيدا عن أسرته إذا وقع طارئ يستدعي وجوده بينهم، ففكر في أن وجوده في أوروبا يقرب المسافات، إذ يستطيع أن يكون مع أسرته خلال ساعات معدودة. أما السبب الثاني فهو معرفته من أساتذة بأميركا أنه لن يستطيع الحصول على دكتوراه قبل ست سنوات على الأقل، وهذا بالنسبة له وقت طويل جدا.

إلى أوروبا

وخلال رحلته للبحث عن فرصة في أوروبا، كان شعبان مشاركا في مؤتمر بأميركا تشارك فيه العالمة الفرنسية صوفي براسلت، وهي من كبار القوم في مجال تخصص “الجزيء الواحد”، فعرض عليها رغبته في السفر إلى فرنسا والعمل معها في معهد “فرينل” للضوئيات والليزر في مارسيليا.

يقول شعبان: “تعجبتْ براسلت من رغبتي في ترك أميركا والعمل في فرنسا، حتى إنها أعادت علي سؤال: هل أنت جدي في تلك الرغبة؟ وفوجئتُ بها ترسل لي بعد نحو أسبوع من المؤتمر عرضا للعمل معها ضمن برنامج الفوتونات الحيوية الممول من الاتحاد الأوروبي، والذي كانت تشرف عليه”.

ووفق هذا البرنامج كان يتعين على شعبان العمل بين جامعتين في أوروبا، فعمل بين المعهد الأوروبي للأطياف غير الخطية في إيطاليا تحت إشراف عالم آخر من كبار القوم في هذا المجال هو “فرانشسكو بابون”، وتحت إشراف العالمة “صوفي براسلت” في معهد “فرينل” بفرنسا، واستطاع أن يحقق نبوغا ملحوظا متسلحا بالعلم الغزير الذي حصل عليه في جامعة إيموري بأميركا، مما دفع مشرفي البرنامج في المعهد الإيطالي وكذلك الفرنسي إلى إبداء الموافقة كي يقوم بالتسجيل للدكتوراة في الجهتين.

وينتقل شعبان في تلك المرحلة إلى آفاق أكثر تقدما، حيث كان مجال “الجزيء الواحد” يكتسب المزيد من الشهرة بعد حصول اثنين من آباء هذا التخصص على جائزة نوبل في أكتوبر/تشرين الأول 2014 عن ميكروسكوبات حطمت قانون “حدود الضوء”، وهي الميكروسكوبات نفسها التي عمل شعبان على تطويرها في الدكتوراه ليخلق لها استخدامات جديدة.

ووفق قانون حدود الضوء، فإنك لا تستطيع رؤية أي جزيئات أقل من 250 نانوميترا، ولكن الميكروسكوبات التي طورها “وليام مورنر” من أميركا و”شتفين هيل” من ألمانيا وكانت سببا في حصولهما على جائزة نوبل؛ كسرت حدود الضوء.

وكان مشرفا شعبان في إيطاليا وفرنسا من تلامذة هذين العالمين، فحرصا على نقل تلك المعرفة التي نهل منها شعبان واستطاع بناء ميكروسكوب أكثر تطورا في رسالة الدكتوراه.

يقول شعبان: “تمكنتُ في رسالة الدكتوراه التي كانت مشتركة بين المعهدين الإيطالي والفرنسي بحكم أنهما كانا شريكين في البرنامج نفسه، من إضافة بعد جديد على الميكروسكوب، وهو استقطاب الضوء، وهذا مكّنني من رؤية كيف يتفاعل الحمض النووي (دي إن إيه) مع البروتينات، كما مكنني من وصف هيكل بعض البروتينات مثل بروتين الأميلويد، وهو بروتين متعجرج يشبه الدي إن إيه، وهيكل البروتينات الممسكة للخلايا مثل تلك الموجودة في العضلات”.

وأنجز شعبان رسالة الدكتوراة خلال ثلاث سنوات، بذل خلالها جهدا خرافيا، حتى إن مشرفته الفرنسية أهدته في يوم من الأيام دعوة لفيلم سينمائي حتى يريح ذهنه بعض الشيء، لكنه رغم ذلك كان يشعر بالسعادة، لأنه بات قريبا من الإجابة على سؤال هوية الخلايا الذي يشغل ذهنه.

هيثم شعبان (إلى اليسار) خلال حواره مع مراسل "الجزيرة نت" عبر تطبيق "زووم"

نصيحة “ويليام مورنر”

وعاش شعبان فترة من الزهو بإنجازه لرسالة دكتوراه مزدوجة، ونجاحه في تطوير ميكروسكوبات حصل أصحابها على جائزة نوبل، إلى أن أصبح على موعد مع تحد جديد بعد أن استجاب لنصيحة غالية من “ويليام مورنر” الحائز على جائزة نوبل والذي كان أستاذا لمشرفته الفرنسية “صوفي براسلت”.

يقول شعبان: “طلبت منه في أحد المؤتمرات النصيحة بشأن مجال الاهتمام في دراسات ما بعد الدكتوراه، فقال لي إن التقنيات التي أجيدها يمكن أن تفيد في مجال الطب والبيولوجيا، فهم يحتاجون تلك التقنيات، لكن لا يعرفون كيفية استخدامها”.

اقتنع شعبان برؤية مورنر التي كانت تسبق العصر، وبالفعل بدأ في إرسال رسائل للأساتذة المتخصصين في الجينات طالبا التعاون معهم في دراسات ما بعد الدكتوراه، فلم يتجاوب مع رسائله سوى أستاذة في وحدة التعبير الجيني بمركز علم الأحياء التكاملي بفرنسا، ليكون على موعد مع تحد آخر.

وبابتسامة ساخرة ترتسم على وجهه يقول: “دخلت عالما جديدا يتحدث بمصطلحات لا أفهمها، فشعرت بإحباط شديد، فبعد أن كنت أشعر بالزهو لحصولي على دكتوراه مزدوجة، أشعر الآن بأني لا أفهم شيئا، وكنت أردد بيني وبين نفسي: يا ليتني لم أستمع لنصيحة مورنر”.

وبينما كان شعبان يهمّ بقطع هذه المغامرة والتركيز في تخصصه الأصلي الذي يجيد لغته ومصطلحاته وحقق فيه إنجازات مهمة، شارك في مؤتمر آخر حضره ويليام مورنر، فتحدث معه عن المشاكل التي تواجهه، فقال له العالم الأميركي إن الاحباط الذي يشعر به طبيعي، لأنه لم يجد لغة التخصص بعد، وقال له: “ما أن تجيد لغتهم ستتحدث أفضل منهم، لأنك تملك أدوات تجعلك ترى ما لا يرونه”.

وبنبرة صوت متحمسة يقول: “بالفعل تحققت نبوءة مورنر، فما أن تعلمت لغتهم، بدأت أدرك أن مشاكلهم يمكن أن تحل بطرق أسهل من تلك التي ينتهجونها، وعملت على توظيف التقنيات التي أجيدها في تخصصهم”.

وبينما كان الميكروسكوب الذي أُنجز في الدكتوراه يعمل على الخلايا الميتة، نجح شعبان في تطويره من خلال أبحاثه الجديدة ليرى الخلايا الحية، ثم أجرى تطويرا آخر ساعده على رؤية حركة الجينوم في خلايا سرطان العظام والثدي.

ومع هذه الإنجازات يعود الشعور بالزهو والفخر مجددا لشعبان، لا سيما بعد دعوته لإلقاء محاضرات في 5 جامعات أميركية عن تلك الإنجازات، وذلك على هامش مشاركته في المؤتمر السنوي للفيزياء الحيوية الذي عقد عام 2018 في مدينة سان فرانسيسكو.

من القاهرة إلى أكسفورد ثم هارفرد

يبدو أن حياة شعبان تتأرجح دوما بين الفخر والإحباط، إذ يعود الإحباط مجددا بعد أن اتخذ قرارا بقطع تلك الرحلة العلمية الناجحة، والعودة إلى أرض الوطن لاستكمال مسيرته البحثية في المركز القومي للبحوث.

يقول شعبان: “كنت وما زلت مقتنعا بأن الباحث مهما حقق من نجاح في الخارج، فإنه يستطيع أن يُحدث تأثيرا في وطنه أكثر من أي مكان آخر، ولكن ما إن عدت حتى شعرت بأن رحلتي للإجابة على سؤال هوية الخلايا ستتوقف، فاتخذت قراري بالعودة مجددا لاستكمال مسيرتي البحثية خارج مصر”.

ولم يجد شعبان بعد أن أصبح اسما بارزا في المجال صعوبة في الحصول على عرض مناسب للعودة، إذ تواصل مع لوثر شرميله الأستاذ بجامعة أكسفورد والذي كان يعمل على موضوع شبيه باهتمامات شعبان الأخيرة قبل العودة إلى مصر، وهي تصوير الجينوم في الخلايا الحية، وبدعم من شرمليه حصل على فرصة أستاذ زائر بالجامعة لمدة 3 شهور.

ويقول شعبان: “قبل أن تنتهي فترة الشهور الثلاثة، كنت حصلت على عرض بالاستمرار في أكسفورد، ولكن جاءني عرض أفضل من جامعة هارفرد بأميركا، فعدت إلى أميركا مجددا، وذلك بعد أن كانت الأمور قد استقرت في مصر، ولم تعد لدي مخاوف بُعد المسافة التي قد تجعلني غير قادر على العودة سريعا لمصر عند حدوث أي طارئ”.

وبينما كانت إنجازات شعبان السابقة في مجال رؤية الجينوم في الخلايا الحية قاصرة على رؤية جزء منه، استطاع بفضل التقنيات التي طورها خلال فترة وجوده في هارفرد -التي لم تستمر سوى عام واحد فقط- رؤية كامل الجينوم في الخلايا الحية.

ويقول: “الإمكانيات في هارفرد كانت كبيرة، والإنجاز الذي حققتُه هناك في عام واحد فقط، كان يمكن أن أمضي عشر سنوات في مكان آخر لتحقيقه”.

قطار البحث يصل سويسرا

ويعود قطار البحث مجددا إلى أوروبا، ويتوقف هذه المرة في سويسرا، بعد أن تقدم شعبان وهو يعمل في هارفرد على تمويل من الاتحاد الأوروبي لاستعمال تقنيات التصوير التي قام بتطويرها لدراسة الخلايا الجذعية، وهو المشروع الذي يقربه كثيرا من الإجابة على سؤال هوية الخلايا.

يقول شعبان: “مُنحت التمويل، مع إعطائي الفرصة لاختيار المكان الذي أعمل به، فاخترت معهد الهندسة الحيوية في المعهد الفدرالي بسويسرا، وهناك بدأت العمل على الخلايا الجذعية، وكيف يساعد تنظيم الجينوم الخاص بها على تمايزها لأنواع مختلفة من الخلايا، وهذا ما يفتح الباب لفهم الخلايا الأخرى في الجسم وكيف تتغير هويتها، بما قد يساعد في علاج الأمراض، لأن الخلايا السرطانية ما هي إلا خلايا فقدت هويتها فأصبحت سرطانية”.

وفي إطار هذا المشروع، يحمل البحث الأخير لشعبان المنشور في دورية “بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينس”، اقترابا أكثر وأكثر من الإجابة على سؤال هوية الخلايا.

ويشرح تفاصيل هذا البحث قائلا: “تحتوي أجسامنا على مئات الأنواع من الخلايا المتخصصة، وتتمتع كل خلية بميزات محددة للغاية تمكنها من القيام بعملها، ومع ذلك تحتوي كل خلية في جسمنا على الجينات نفسها، إذاً ما الذي يجعل كل نوع من الخلايا مختلفا، وهل يمكننا التحكم في هوية الخلايا أو تغييرها من حالة إلى حالة أخرى؟”.

يجيب شعبان: “كان العلماء يعرفون أنه يمكن التحكم في هوية الخلايا من خلال عملية تنظيم الجينوم التي تجري بتفاعل بروتينات تسمى عوامل النسخ مع الجينات لتشغيلها أو إيقافها، أو لجعلها أكثر أو أقل نشاطا في الخلية”.

ويتابع: “لكن تنظيم الجينوم عملية معقدة للغاية نظرا لأن المادة الوراثية (دي إن إيه) التي يبلغ طولها لو فُردت نحو مترين اثنين تقريبا، توجد في مساحة صغيرة جدا في نواة الخليه التي يبلغ طولها 5 ميكروميترات، وتُنظّم المادة الوراثية في بنية تسمى الكروماتين (الحمض النووي ملفوفا حول نوع من البروتينات) والتي تتراوح بين حالة مغلقة لا تسمح للبروتينات المرتبطة بالتعبير الجيني أن تتفاعل مع الحمض النووي، وحالة مفتوحة تسمح بتجميع عوامل النسخ على الحمض النووي”.

ويضيف: “لكنْ هناك نوع من عوامل النسخ يسمى عوامل النسخ الرائدة قادرة على فتح الكروماتين المغلق لتحويل الجينات الخاملة إلى نشطة، لكنْ كيف تقوم عوامل النسخ الرائدة بتعديل حركات وهياكل الحمض النووي لفتح الكروماتين لبدء التعبير الجيني وتغيير نشاط الجينات؟ كان ذلك لغزا يواجه العلماء ولم يُحل، لأن تقنيات التسلسل الجينومي لا يمكنها مراقبة تفاعل هذه البروتينات مع الحمض النووي في الخلايا الحية على نطاق الجينوم بأكمله”.

ولحل هذا اللغز قام شعبان لأول مرة بدمج التقنيات الحديثة التي قام بتطويرها لمشاهدة تفاعل عوامل النسخ والحمض النووي على مستوى كامل الجينوم في الخلايا الحية، مع تقنيات تسلسل الجينوم الوظيفية، لربط التفاعل الديناميكي للمادة الوراثية وعوامل النسخ بحالة الخلايا الوظيفية.

يقول شعبان: “ركزت دراستنا على عامل النسخ الرائد (CDX2) والذي يؤدي دورا رئيسيا في تنظيم هوية أنواع الخلايا، ويشارك أيضا في سرطان القولون، وعلى الرغم من وجود ما يقرب من 1500 عامل نسخ لتنظيم الجينوم، فإننا وجدنا أن تحفيز هذا العامل الرائد فقط يؤدي إلى تغيرات في تفاعلات الكروماتين المحلية وتوزيع بنياته؛ مما يؤدي إلى تغيير الجينوم بأكمله”.

ويأمل شعبان أن تمهد هذه الدراسة الطريق لفهم كيفية التحكم في هوية الخلايا أو إعادة برمجتها، بما يمكن أن يساعد في تطوير أساليب جديدة في الطب.

جامعة جينيف ومعهد أجورا

انتقل شعبان مؤخرا من المعهد الفدرالي بسويسرا ليحط رحاله في موقع آخر، وهو جامعة جينيف ومعهد أجورا لأبحاث السرطان الانتقالية، حيث يعمل بالتوازي في الموقعين.

وتقوم فكرة معهد أجورا على اختيار الباحثين المهتمين بأبحاث السرطان الانتقالية، وهي الأبحاث بين المعمل والتطبيقات السريرية، ويعمل به قرابة 20 أستاذا من جامعة جينيف، من بينهم شعبان، كما يعمل به أساتذة من جامعات أخرى حول العالم.

ويعمل شعبان في هذا المعهد على تطوير تقنيات تدمج بين التصوير والذكاء الاصطناعي لتحديد هل يصلح العلاج المناعي مع المريض أم لا، وإذا كان سيصلح، فما هي مدى استجابته، ويتم ذلك بناء على ترتيب الجينوم الخاص بالمريض.

ويظل خيار العودة إلى الوطن قائما في ذهن شعبان رغم ما يحققه من نجاحات يرى أنها ستكون أكثر تأثيرا إذا تحققت على أرض الوطن.

وإلى أن يحدث ذلك، فهو حريص على نقل خبرته لكل طالب مصري أو عربي يطلب منه النصيحة، مشيرا إلى أن تجربته يمكن أن تتخلص في “الشغف والفضول والسعي وراء حل الألغاز البحثية والثقة بالنفس والسعي للتعلم”.

شاركها.
Exit mobile version