بعد عودته من بعثته بالخارج للحصول على الدكتوراه في علم الجيولوجيا، أسندت مهمة تدريس مادة الكيمياء إلى العالم الجيولوجي الشهير فاروق الباز، ليدفعه ذلك بعد فشله في إقناع مسؤولي التعليم العالي بأنه متخصص في الجيولوجيا وليس الكيمياء إلى العودة من حيث جاء، ليبدأ رحلته العلمية والعملية في أميركا.
هذه المفارقة التي تحدث عنها الباز كثيرا بنبرة ساخرة في لقاءات تلفزيونية هي أقرب إلى “الكوميديا السوداء” التي تعكس حال هذا العلم ليس في مصر فقط، ولكن في العالم العربي. وهي مشكلة يرى خبراء -تحدثوا للجزيرة نت- أنها أعمق من مجرد إلغاء مادة الجيولوجيا في شهادة الثانوية العامة المصرية، بل إن المفاجأة أن بعضهم يرى في هذا الإلغاء أول طريق الحل.
وأثار هذا الإلغاء، الذي جاء في إطار تعديلات شاملة أجريت على مواد الثانوية العامة، تحفظات الهيئات والاتحادات الجيولوجية المصرية والعربية التي رأت فيه تهميشا لمادة تعدّ المحور الأساسي لمعظم الأنشطة الاقتصادية.
وعددت رابطة المساحة الجيولوجية المصرية في بيان أصدرته الأنشطة التي تخدمها الجيولوجيا، ومنها اكتشافات البترول والغاز، وتعدين الذهب، والبحث عن الثروات المعدنية والطبيعية، واختيار مواقع المشروعات القومية والإنشائية، والتنبؤ بالمخاطر الطبيعية. وخلصت بعد الاستفاضة في شرح الدور الذي يقوم به الجيولوجي في كل عنصر من هذه العناصر إلى القول إنه “أمام هذا الواقع، يجب أن تحظى مادة الجيولوجيا بالمكانة التي تستحقها كمادة أساسية في التعليم الثانوي. فهي ليست مجرد علم يُدرس، بل هي أداة إستراتيجية لتأهيل الشباب لدعم الاقتصاد الوطني وتنمية الصحارى المصرية وتحقيق الاستفادة القصوى من ثروات البلاد”.
وللمبررات ذاتها التي أوردتها الرابطة المصرية أبدى اتحاد الجيولوجيين العرب اعتراضه على قرار الإلغاء الذي يهدم في رأيهم كل الجهود التي بذلت لتعزيز تدريس الجيولوجيا في المدارس والجامعات العربية، لدورها الحيوي في إعداد الكوادر الوطنية القادرة على المشاركة الفعالة في تطوير القطاعات الاقتصادية التي تعتمد على الموارد الطبيعية مثل قطاع التعدين والطاقة.
إلغاء من دون تهميش
ولا يختلف أستاذ هندسة الاستكشاف وتقييم الطبقات بقسم هندسة البترول في كلية الهندسة بجامعة القاهرة الدكتور عبد العزيز محمد عبد العزيز مع ما ذهبت إليه الاتحادات الجيولوجية المصرية والعربية من إبراز لأهمية علم الجيولوجيا الذي وصفه -في تصريحات للجزيرة نت- بأنه من “أبرز العلوم الأساسية التي تدخل في كل مجالات الحياة”، لكنه في الوقت نفسه يرى أن مشكلة هذا العلم أعمق من قضية إلغائه في الثانوية العامة.
وقال “سأفاجئك بأني مع إلغائها من شهادة الثانوية العامة، لأن ذلك حوّلها إلى مادة تجارية تقوم عليها دروس خاصة هدفها ليس تعليم الطالب الجيولوجيا، ولكن تعبئته بمعلومات تؤهله للحصول على درجة عالية تمنحه فرصة دخول كليات ليس لها علاقة بالجيولوجيا، فلماذا مثلا يحرم طالب من دراسة الطب لأنه لم يوفق في علم الجيولوجيا بينما كان متفوقا في علم البيولوجيا الذي يحتاجه بشكل أساسي دراسة الطب؟”.
ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن الدكتور عبد العزيز مع تهميش تلك المادة، لكنه يطالب بشده بتحويلها إلى مادة علوم أساسية تدرّس مبادئها الأساسية في سنوات الدراسة الإعدادية الأولى والثانية، ثم يُتوسع في تدريسها في السنة الأولى والثانية من التعليم الثانوي، وبذلك يتم تجنب تدريسها في الشهادة الثانوية، حتى لا تكون معيارا لتقييم طالب يريد دخول كليات لا علاقة لها بالجيولوجيا، وفي الوقت ذاته يتيح ذلك تزويد الطالب بالمعارف الأساسية عن تخصص من أهم العلوم الأساسية.
وكما يطالب عبد العزيز بأن تصبح الجيولوجيا مادة في السنوات ما قبل الشهادتين الإعدادية والثانوية، يطالب أيضا بأن تكون مادة في السنة الإعدادية بكليات الهندسة، ويقول “من المفارقات أن كل العلوم الأساسية من كيمياء وفيزياء ورياضيات تدرّس في تلك السنة، ولا تحظى الجيولوجيا بأي نصيب من الاهتمام، رغم أهميتها لكثير من التخصصات الهندسية”.
وتدخل الجيولوجيا في عمل المهندس الإنشائي الذي يجب أن تكون لديه دراية بطبيعة الأرض التي سيبني عليها، كما تدخل أيضا في تخصصات قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عنها، مثل الميكانيكا التي يكون مهندسوها معنيين بتصنيع سبائك من معادن تخرج من الأرض، ويطب منهم تجهيز سبائك تحفر في بعض الصخور مثل الغرانيت، ومن ثم فلا بد أن تكون لدى المهندس خلفية جيولوجية.
ومن المفارقات أنه بينما يتم تجاهل هذه المادة ذات الطبيعة العلمية في السنة الإعدادية بكلية الهندسة، رغم أنها من العلوم الأساسية، فإنها تدرّس في قسم ذي طبيعة أدبية، هو قسم الجغرافيا بكلية الآداب، ويجد الطلاب صعوبة في استيعابها، لأن قصر تدريس هذا العلم في مرحلة ما قبل الجامعة على سنة واحدة في الثانوية العامة، من أجل الحصول على درجات تؤهل لدخول الجامعة، لا يفي بالغرض المطلوب.
منهج ممل ورديء
وأحد الأسباب التي تجعل تدريس هذا العلم لا يفي بالغرض المطلوب هو المادة العلمية التي تدرّس في تلك السنة. ويقول أستاذ الجيولوجيا بالجامعة البريطانية وجامعة الزقازيق الدكتور مصطفى سليمان للجزيرة نت “قادتني الظروف إلى قراءة منهج الجيولوجيا بالثانوية العامة مع أحفادي فوجدته مملا وغير مفهوم ورديئا للغاية”.
ويعدّ الدكتور سليمان أزمة هذه المناهج جزءا من أزمة أعمق في مناهج الجامعات التي لا تقل سوءا، فضلا عن أنها مناهج قديمة بحاجة إلى تحديث، لأن من يضعها يحتاج علمه إلى تحديث أيضا.
وبسبب مستوى مناهج التدريس، لا يبدو الدكتور سليمان منزعجا من إلغاء المادة في المرحلة الثانوية، لأن المادة العلمية منفرّة، وليست جاذبة للطلاب، وهو مناخ مشجع على شيوع ثقافة الدروس الخصوصية التي تؤهل الطالب لاجتياز الامتحان، بحسب تصريحه.
ويعترض رئيس رابطة المساحة الجيولوجية المصرية ونائب رئيس اتحاد الجيولوجيين العرب الدكتور حسن بخيت على أن يكون حل هذه السلبيات التي أشار إليها الدكتور سليمان هو الإلغاء.
وقال بخيت للجزيرة نت “أي قرار مهم تسبقه فترة انتقالية من أجل دراسة الحالة واستشارة المتخصصين، لكن قرار إلغاء تدريس هذا العلم في الثانوية العامة جاء مفاجئا وبشكل يبدو غير مدروس، وقد يرسل برسالة أن صاحب القرار لا يدرك قيمة هذا العلم”.
وأضاف “للأسف، فإن العامة يحصرون علم الجيولوجيا في حفريات الديناصورات وغيرها من الحفريات، وأشك أن من اتخذ هذا القرار لم يعلم عن العلم سوى هذا الجانب فقط، ولم يدرك ارتباطه بالأنشطة الاقتصادية المختلفة من تعدين وبترول وغاز وإسكان وتخطيط للمدن الجديدة وتوقع للمخاطر الطبيعية”.
رسالة سلبية
ولا يشفع لمتخذ القرار -في رأي الدكتور بخيت- أن العلم سيحظى بتدريسه في سنوات الدراسة الأولى والثانية من الثانوية العامة، على أن يكون مادة يشترط فيها النجاح فقط، ولا تضاف إلى مجموع الدرجات، وقال “كان يمكن أن أوافق على ذلك لو كنا في نظام تعليمي متطور، لكن -للأسف- فإن الأنظمة التعليمية في العالم العربي لا تعطي قيمة إلا للمواد التي تضاف إلى المجموع، ومن ثم فإن اتخاذ هذا القرار يرسل برسالة سلبية حول التقدير الذي تمنحه الدولة لهذا العلم، رغم ارتباطه بالأنشطة الاقتصادية”.
ويتعجب من ربط البعض بين اتخاذ هذا القرار وتحجيم الدروس الخصوصية، وقال إن “أزمة الدروس الخصوصية التي أصبحت بديلا للمدارس هي أزمة كل العلوم، وليست أزمة الجيولوجيا فقط. والحل يكون في إصلاح منظومة المدارس، بدلا من إلغاء تدريس علم مهم مثل الجيولوجيا”.
ويخشى أن تنعكس الرسالة السلبية لهذا القرار على التحاق الطلاب بأقسام الجيولوجيا بكليات العلوم، فلا نجد جيولوجيين يعملون في الأنشطة الاقتصادية والبحثية المختلفة، ولذلك ينوي رئيس اتحاد الجيولوجيين العرب المهندس خالد الشوابكة طلب مقابلة رئيس الوزراء المصري لمناقشته في هذا القرار لتبعاته التي قد تمتد إلى دول عربية أخرى، كما يؤكد الدكتور بخيت.
العلاقة بين الجيولوجيا و”الجيوأركيولوجي”
وأحد الأنشطة المهمة لعلم الجيولوجيا هو أنه يفيد في الدراسات الأثرية وتلك التي تجمع بين علم الجغرافيا والآثار، والتي تسمى “الجيوأركيولوجي”.
وكان هذا العلم حاضرا في دراسة تزعمها باحث الدكتوراه في مجال الأركيولوجي بجامعة إكس-مرسيليا بفرنسا الدكتور جمال العشيبي، والتي تمكن خلالها من تحليل الرواسب في منطقة ميناء خوفو القريبة من الهرم الأكبر بمصر، وإثبات أن المصري القديم قام بتعدين خام النحاس في أيام بناء الهرم.
ويقول للجزيرة نت “انطلق عملنا بدعم من الجيولوجي الذي حدد لنا موقع الحفر الذي تنتمي صخوره للعصر الجيولوجي الذي كان يعيش فيه المصري القديم”.
ويضيف “نحن عادة نستعين بهم في عملنا، ولكن لا بد أن تكون لدينا إحاطة معقولة بهذا العلم، لذلك فهو من المواد التي ندرسها في السنوات الأولى بالكلية، ومن ثم فإن إلغاءها في الثانوية العامة قد يسبب مشكلة في استيعاب تلك المادة عند دراستها”.
وعلى ذلك، يبدو أن أزمة علم الجيولوجيا أعمق من مجرد اتخاذ قرار بالإلغاء، إذ إنها تبدو انعكاسا لمستوى جودة النظام التعلمي ونوعية المناهج ومدى إدراك متخذ القرار لقيمة العلم وجدواه.