تخيل أنك تحاول التوصل إلى وصفة جديدة لكعكة لذيذة، وبدلا من الاجتهاد بمفردك ستلجأ إلى كتاب طبخ سحري يمكنه إنشاء آلاف الوصفات الفريدة بمجموعات مختلفة من المكونات والنكهات والقوام.

وبالمثل، فإن الباحثين من مختبر أرغون الوطني التابع لوزارة الطاقة الأميركية، تمكنوا في دراسة نشرتها دورية “كومينيكشنز كمستري”، من توظيف الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنتاج أكثر من 120 ألف “وصفة” جديدة للمواد المرشحة لاحتجاز الكربون، والتي تعرف باسم “الأطر العضوية المعدنية “، أو ما يعرف بمواد “الموف”، ثم استخدموا “التعليم الآلي” لتقليل هذا العدد من الوصفات إلى عدد أصغر من المرجح أن يكون أكثر فاعلية، ثم اختبروا هذه الوصفات المرشحة لتحديد أكثرها كفاءة، واخيرا استخدموا برنامج حاسوب لمعرفة سر تركيب وصفات مواد “الموف” الأكثر كفاءة في مهمة احتجاز الكربون.

ويرجع تاريخ اكتشاف تلك المواد إلى عام 1999، ويُعد عالم الكيمياء الأميركي من أصل أردني والمولود في عمّان عام 1965 عمر ياغي، من أبرز العلماء الذين نشروا أبحاثا عنها. وهي ذات بنية مرتبة للغاية، وتعتمد على ربط اللبنات العضوية وغير العضوية لتشكيل بنى هيكلية مسامية كالشبكة، ويمكن للمسام في هذه الشبكة أن تكون مستقرة بما يكفي لتخزين جزيئات مادة ما، مما يجعلها ذات تطبيقات عديدة كتخزين الغازات أو استخلاص الملوثات أو كمواد لتحفيز التفاعلات الكيميائية أو إيصال الأدوية داخل الجسم.

4 مزايا لمواد “الموف”

ومواد “الموف” بهذا الشكل تبدو مرشحة بقوة لاحتجاز الكربون، وبالتالي تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة من محطات الطاقة والمرافق الصناعية الأخرى.

ويرجع ذلك “نظريا” لـ4 مزايا أوردتها دراسات تناولت توظيف تلك المواد، وهي:

  • مساحة سطحية عالية: فتلك المواد تتمتع بمساحة سطحية عالية بشكل لا يصدق مقارنة بحجمها، وتوفر مساحة السطح الكبيرة هذه مساحة واسعة لجزيئات الغاز مثل ثاني أكسيد الكربون ليجري امتصاصها على السطح.
  • حجم المسام القابل للضبط: فيمكن للباحثين تصميم وتوليف تلك المواد بأحجام مسام محددة مصممة لالتقاط جزيئات معينة، حيث تسمح قابلية الضبط هذه بالامتصاص الانتقائي للغازات مثل ثاني أكسيد الكربون مع استبعاد الغازات الأخرى.
  • التنوع الكيميائي: يمكن تعديل تلك المواد كيميائيا لتعزيز خصائص احتجاز الكربون، ويمكن للباحثين ضبط تركيبة اللبنات العضوية وغير العضوية لتحسين الانتقائية للكربون دون غيره، وكذلك تحسين قدرة امتصاص الكربون.
  • قابلية إعادة الاستخدام: يمكن في كثير من الأحيان تجديد مواد “الموف” وإعادة استخدامها عدة مرات دون فقدان قدرتها على الامتصاص الانتقائي للكربون بشكل كبير، وهذا يجعلها فعالة من حيث الكلفة، وصديقة للبيئة مقارنة بمواد احتجاز الكربون ذات الاستخدام الواحد.

ثلاث وحدات بناء تصعّب المهمة

وتحتوي هذه المواد على ثلاثة أنواع من وحدات البناء في جزيئاتها، وهي:

  • العقد المعدنية (أيونات أو مجموعات معدنية): ذرات أو مجموعات من الأيونات المعدنية التي تعمل كمثبتات، حيث تربط البنية معا، ويمكن استخدام معادن مختلفة مثل الزنك أو النحاس أو الكروم لهذا الغرض.
  • الروابط العضوية (الجزيئات العضوية): جزيئات مصنوعة من الكربون والهيدروجين وعناصر أخرى تربط العقد المعدنية.
  • مواد غير عضوية: هي وحدات بناء إضافية يمكن دمجها في بعض الأطر العضوية المعدنية، مما يوفر مزيدا من الاستقرار أو الأداء الوظيفي، مثل أنواع أخرى من أيونات أو مجموعات معدنية، أو حتى ذرات غير معدنية مثل الأكسجين أو النيتروجين.

ويمكن ترتيب هذه المكونات الثلاثة في مواضع وتكوينات نسبية مختلفة، ونتيجة لذلك يكون هناك عدد لا يحصى من التكوينات المحتملة لمواد “الموف”، ولكن المطلوب اختيار المواد الأكثر فاعلية في احتجاز الكربون، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي الذي استخدمه الباحثون.

4 مسارات للذكاء الاصطناعي

وعبر أربعة مسارات مختلفة تشرح الدراسة الجديدة كيف نجح الباحثون في توظيف الذكاء الاصطناعي لاختيار المواد الأكثر فاعلية، وهي على النحو التالي:

  • الذكاء الاصطناعي التوليدي: بدأ الباحثون باستخدام برنامج حاسوب يمكنه التوصل إلى مجموعات جديدة من العناصر الأساسية لمواد الموف، تماما مثل كتاب الطهي السحري الذي يمكنه إنشاء آلاف الوصفات الجديدة لصناعة كعكة لذيذة، وأنتج الباحثون خلال 30 دقيقة فقط أكثر من 120 ألف “وصفة” جديدة.
  • التعلم الآلي: لنفترض أنك تريد معرفة أي من وصفات الكعك سيكون مذاقها رائعا، فيمكنك في هذه الحالة جمع التعليقات من أصدقائك وعائلتك عن الكعك الذي استمتعوا به من قبل، ليتعلم كتاب الطبخ السحري الخاص بك من هذه البيانات للتنبؤ بالوصفات التي من المرجح أن تكون ألذ، وبالمثل استخدم الباحثون التعلم الآلي لتحليل البيانات من التجارب وعمليات المحاكاة السابقة للتنبؤ بتصميمات مواد “الموف” الأكثر كفاءة في احتجاز ثاني أكسيد الكربون بشكل فعال من بين الـ120 ألف وصفة.
  • فحص عالي الإنتاجية: بمجرد الحصول على مجموعة من وصفات الكعك، لن يكون لديك الوقت لخبزها وتذوق كل منها على حدة، لذلك
  • قررتَ خبز عينات صغيرة من العديد من أنواع الكعك المختلفة مرة واحدة واختبرتها سريعا لمعرفة أي منها ألذ، وهذا يشبه الفحص عالي الإنتاجية الذي أجراه الباحثون، حيث اختبروا العديد من المرشحين المختلفين من مواد “الموف”، وحددوا 6 منها بدت أكثرها كفاءة، ومن ثم أخضعوها لمزيد من البحث.
  • محاكاة الديناميكيات الجزيئية: أخيرا، لنفترض أنك تريد أن تفهم بالضبط كيف تتفاعل المكونات الموجودة في أفضل وصفة لكعكة مع بعضها البعض على المستوى الجزيئي لتكوين النكهة والملمس اللذيذ، ولجأت إلى استخدام محاكاة الحاسوب لتعطيك تصورا وتحليلا للحركات والتفاعلات بين جزيئات كل مكون، فبالمثل استخدم الباحثون محاكاة الديناميكيات الجزيئية لدراسة كيفية تصرف الذرات الموجودة في أفضل المواد المرشحة، وما إذا كانت قادرة على احتجاز جزيئات ثاني أكسيد الكربون بشكل فعال.

عدسة أوسع.. 4 أسئلة

وتحمل هذه الآلية المعتمِدة على الذكاء الاصطناعي وعدا بإنتاج مادة “موف” يمكن أن تكون جيدة في احتجاز الكربون، وفعالة من حيث التكلفة، وسهلة الإنتاج، كما يقول إليو هويرتا العالم بمختبر أرغون والذي ساعد في قيادة الدراسة، في بيان صحفي أصدره مختبر أرغون الوطني التابع لوزارة الطاقة الأميركية.

ويضيف أن “نهج تصميم مواد الموف الذي مُكّن بواسطة الذكاء الاصطناعي، سيسمح لنا بالحصول على ما أطلق عليه إيان فوستر كبير علماء أرغون ومدير قسم علوم البيانات والتعلم “عدسة أوسع” على هذه الأنواع من الهياكل المسامية”.

ورغم حماس أستاذ علوم المواد بجامعة إلمنيا المصرية خالد جاد للآلية التي استخدمها هويرتا وأقرانه، فإنه يرى أن هناك 4 أسئلة يجب الإجابة عليها في دراسات لاحقة لضمان أن المواد المبتكرة بواسطة الذكاء الاصطناعي ستكون فعالة عند الانتقال للتطبيق الصناعي.

ويفصل جاد في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت” الأسئلة الأربعة على النحو التالي:

  • قابلية التوسع: كيف يمكن زيادة إنتاج مواد الموف الجديد إلى المستويات الصناعية، وكيف يمكننا جعل العملية أكثر فعالية من حيث التكلفة؟ وبالتالي سيحتاج الباحثون إلى إجراء مزيد من الدراسات في تقنيات تخليق المواد القابلة للتطوير والمواد الخام الفعالة من حيث التكلفة وطرق إعادة تدوير المواد المستخدمة.
  • الاستقرار والمتانة على المدى الطويل: كيف تعمل مواد الموف في ظل ظروف العالم الحقيقي على مدى فترات طويلة؟ وهذا أمر بالغ الأهمية، حيث إن دراسة استقرار ومتانة المواد على المدى الطويل في بيئات متنوعة، بما في ذلك درجات الحرارة المرتفعة والرطوبة والتعرض للمواد الكيميائية، أمر ضروري لتقييم جدواها العملية.
  • التكامل مع العمليات الصناعية: كيف يمكن دمج مواد الموف في العمليات الصناعية الحالية لالتقاط الكربون بسلاسة؟ وسيكون التعاون مع شركاء الصناعة لتجربة تقنيات احتجاز الكربون القائمة على الأطر المعدنية العضوية وتقييم مدى توافقها مع البنية التحتية الصناعية أمرا ضروريا للتنفيذ في العالم الحقيقي.
  • الأثر البيئي: ما هي الآثار البيئية لإنتاج مواد الموف واستخدامها والتخلص منها؟ فهناك حاجة إلى إجراء تقييم البصمة البيئية لمواد الموف الجديدة.
شاركها.
Exit mobile version