لطالما اعتقد الباحثون أن التراكم الثقافي بين الأجيال هو ما ميزنا كبشر عن غيرنا من الكائنات الحية، لكن يبدو أن للشمبانزي رأيا آخر. إذ كشفت دراسة جديدة متعددة التخصصات أجرتها جامعة زيورخ عن اكتشاف أوجه غير متوقعة للثقافة التراكمية لدى الشمبانزي، وهو اكتشاف يحمل دلالات عميقة لفهم كيفية تطور الثقافة البشرية.

وتربط الدراسة المنشورة في دورية “ساينس” المرموقة بين الهجرة الوراثية والثقافة التراكمية لدى الشمبانزي، مسلطة الضوء على كيفية انتشار واستخدام أدوات معقدة بين مجتمعات الشمبانزي عبر الأجيال.

الشمبانزي ومظاهر الثقافة التراكمية

تُظهر الدراسات طويلة المدى أن الشمبانزي، مثل البشر، ينقل ثقافته عبر الأجيال. فبعض مجتمعات الشمبانزي تستخدم أدوات معقدة، كالحجارة والعصي، لاستخراج الطعام.

وبالرغم من ذلك، لم تصل هذه الثقافات إلى مستويات التطور التي شهدتها الثقافة البشرية، وتشير أندريا ميغليانو -الأستاذة بمجموعة علم البيئة التطوري البشري، قسم الأنثروبولوجيا التطورية، جامعة زيورخ، سويسرا، والمشرفة على الدراسة- إلى أن هذه الاختلافات تنبع من معدلات التنقل بين المجموعات ومستوى التعاون الاجتماعي.

قبيلة القرود

وتوضح ميغليانو في تصريحات خاصة للجزيرة نت: “في حين أن التراكم الثقافي موجود لدى الشمبانزي، فإن هذه السمة لدى الشمبانزي ليست إلا سمة بدائية”.

وجمع الباحثون معلومات عن علامات التشابه الجيني والأدلة الجينية على الروابط بين مجموعات مختلفة من الشمبانزي لمقارنة أنماط الهجرة الوراثية والثقافات، ومقارنة مجموعة من سلوكيات البحث عن الطعام التي سبق أن ورد أنها مكتسبة ثقافيا، من إجمالي 35 موقعا عبر أفريقيا لدراسة الشمبانزي في مختلف أنحاء القارة.

وقام الباحثون بتقسيم هذه السلوكيات إلى مجموعة لا تتطلب أدوات، وأخرى تتطلب أدوات بسيطة، وأخيرة تتضمن السلوكيات الأكثر تعقيدا التي تعتمد على مجموعة من الأدوات الأعلى تقنيا.

وتوصل الباحثون إلى أن الأدوات البسيطة مثل إسفنج الأوراق الذي يستخدمه الشمبانزي للحصول على الماء يمكن إعادة ابتكاره بسهولة، بالتالي لا تعتمد مثل تلك التقنيات المباشرة على التراكم الثقافي.

في المقابل، أظهرت الأدوات المعقدة ارتباطا مباشرا بالهجرة الوراثية، مثل مجموعة الأدوات المستخدمة في استخراج النمل الأبيض. تقول ميغليانو: “كانت الأدوات المعقدة موجودة فقط في المجتمعات المرتبطة بالهجرة، مما يجعل من غير المرجح حقا إعادة اختراعها بالتوازي”، مما يشير إلى دور الهجرة في انتشار هذه التقنيات.

دور الإناث في نشر الثقافة

في البشر، يتنقل كلا الجنسين بين المجتمعات دون قيود، ولكن على العكس، تهاجر إناث الشمبانزي عند بلوغها سن النضج إلى مجتمعات جديدة لتجنب التزاوج الداخلي.

وتلعب هذه الهجرة دورا أساسيا في نشر الابتكارات الثقافية بين المجموعات، كما توضح ميغليانو في تصريحها للجزيرة نت: “في كل مرة يحدث فيها تبادل للأدوات المعقدة بين المجتمعات، يكون هناك مؤشر على الهجرة (تقاسم الحمض النووي)، لكن لم تؤد كل الهجرات إلى تقاسم الأدوات المعقدة”.

وتمثل نتائج الدراسة خطوة كبيرة نحو فهم كيفية تطور السلوكيات الثقافية لدى الشمبانزي والبشر. وتشير ميغليانو إلى أن البشر طوروا اعتمادا كبيرا على التقنيات المبتكرة للوصول إلى الموارد، مما أدى إلى تسريع وتيرة التطور الثقافي مقارنة بالشمبانزي، ومع تزايد الاعتماد على التقنيات والتعاون والهجرات غير المحدودة التي تميز بها البشر، انطلقت الثقافة البشرية نحو مستويات غير مسبوقة في هذا الكوكب.

ويعمل الفريق البحثي حاليا على ورقة متابعة تهدف إلى مقارنة معدلات الهجرة ومعدلات انتقال الثقافة بين البشر والشمبانزي. والنتائج المرتقبة ستسهم في توضيح أعمق لأسباب تفوق البشر في تطوير الثقافة التراكمية.

شاركها.
Exit mobile version