توصف المحيطات بأنها أفضل حليف للعالم ضد التغيرات المناخية، باعتبارها أكبر أداة لتصريف الحرارة على هذا الكوكب، فهي تمتص 90% من الحرارة الزائدة ، وأداة ذات كفاءة عالية في امتصاص 23% من الكربون الناتج عن فعل البشر، وتنتج 50% من الأكسجين الذي نحتاجه.

ومع ذلك بدأ الباحثون بدق ناقوس الإنذار المبكر بسبب تهديد كبير لسلامة المحيطات على مستوى العالم، وهو تهديد يضاف إلى التهديدات المستمرة الأخرى الناجمة عن الأنشطة البشرية، وهي التغيرات البيئية التي تسببها الأنشطة البشرية.

لم تعد تقتصر المخاطر على ارتفاع درجات الحرارة في المحيطات بفعل التغير المناخي، بل باتت تعاني المحيطات من كارثتين إضافيتين، وهما انخفاض مستويات الأكسجين وارتفاع مستويات الحموضة، لتصبح هذه العوامل “تهديدا ثلاثيا” متزامنا لنحو 20% من سطح المحيطات على كوكبنا، وفق دراسة علمية حديثة نشرت في مجلة “إيه جي يو أدفانسز”.

تهديد ثلاثي للأرض

تغير المناخ يعني تغييرا جذريا في المحيطات، إذ كشفت الدراسة عن أن المحيطات ازدادت حرارتها وأصبحت أكثر حموضة مع فقدانها الأكسجين نتيجة التغير المناخي، وأن هذه التأثيرات ليست فقط خطيرة، ولكنها تستمر لفترات أطول بـ3 مرات، وتكون أشد بـ3 مرات، مقارنة بما كانت عليه في أوائل ستينيات القرن الماضي.

ويضيف الباحثون في دراستهم أن تلك التأثيرات تميل إلى الحدوث في المناطق ذات خطوط العرض المرتفعة والاستوائية، يعمل ذلك على تقليل المساحات الصالحة للسكن البحري بنسبة تصل إلى 75%.

من جهته، يقول مدير المركز العربي للمناخ في الأردن أحمد العربيد -في تصريحات للجزيرة نت- إن زيادة حموضة المحيطات تقلل من تركيز أيونات الكربونات في الماء، مما يجعل البقاء والتكاثر صعبا على الكائنات الحية التي تحتاج إلى كربونات الكالسيوم لبناء هياكلها وأصدافها الخارجية، كما تؤثر هذه الزيادة إلى ضعف نمو الشعب المرجانية مما يساهم في تدميرها، إذ أظهرت بعض الدراسات أن زيادة حموضة المحيطات يمكن أن تؤثر على سلوك الكائنات البحرية، مثل القدرة على التكاثر أو الحصول على الطعام أو التفاعل مع الكائنات البحرية الأخرى.

ويضيف العربيد في حديثه للجزيرة نت أن “لكل عامل من هذه العوامل الثلاثة تداعيات خطيرة في حال كانت منفردة، فعندما تكون هذه العوامل مجتمعة ومتزامنة تكون بالمحصلة عاملا مترابطا شديد الخطورة ذا تأثير مرتفع ومباشر على النظم والكائنات البحرية، ممثلا في 3 ضغوط بيئية عالية الشدة، مما يفاقم الأضرار بشكل كبير، وينتج عن ذلك بيئة بحرية غير مستقرة وصعبة للعيش وتكون النتيجة انهيارا في المنظومة البيئية البحرية وخسائر مرتفعة في التنوع البيولوجي البحري”.

أما من الناحية الفيزيائية، فيؤكد العربيد أن ارتفاع حرارة مياه المحيطات تؤدي إلى تقليل قدرة الماء على الاحتفاظ بالأكسجين، فكلما ارتفعت درجة حرارة الماء انخفضت كمية الأكسجين المذاب فيه، ويضيف “تمتص مياه المحيطات حوالي 30% من غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي المنبعث بفعل الأنشطة البشرية، وتعني أي زيادة في كميات غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو زيادة في عملية امتصاص المحيطات لهذا الغاز، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة أيونات الهيدروجين في الماء، مما يسبب زيادة في حموضة المحيطات” .

يشكل التهديد الثلاثي ضغطا شديدا على الكائنات البحرية، مما ينعكس سلبًا على قدرتها على التكيف السريع مع هذه الظروف المتغيرة (بيكساباي)

الكائنات البحرية لم تعد تتكيف

يشكل التهديد الثلاثي ضغطا شديدا على الكائنات البحرية، مما ينعكس سلبا على قدرتها على التكيف السريع مع هذه الظروف المتغيرة، وفق الدراسة، وعن ذلك يقول العربيد إنه “منذ ملايين السنين تتكيف الكائنات الحية التي تعيش داخل مياه المحيطات على نظم بيئة شبه مستقرة ساهمت في بقائها حتى يومنا هذا، إلا أن أي اختلال مفاجئ في هذه النظم سيكون له تأثير مباشر على الكائنات الحية وقدرتها على التكيف”.

ويضيف: “ساهمت التغيرات المناخية السريعة في إحداث تحولات كبيرة أشبه بالقفزات على التركيبة الكيميائية في مياه المحيطات، مما انعكس سلبا على البيئة البحرية ككل، وأدى إلى عدم قدرة الكائنات الحية على التكيف مع البيئة المتغيرة بتسارع مرتفع”.

ويسبب انخفاض نسب الأكسجين في المحيطات تأثيرات خطيرة للغاية على البيئة البحرية، نتيجة عدم قدرتها على التكيف لنفوق الكائنات البحرية بأعداد كبيرة مما يزيد من احتمالية حدوث انقراض وتغييرات لبعض الأنواع، وقد يؤدي ذلك إلى إحداث اختلالات في التنوع البيولوجي نظرا لحساسية البيئة البحرية لأي تغييرات، خصوصا أن الاختلالات في نسب الأكسجين في المحيطات تساهم بشكل مباشر في تغيير أنماط التيارات المحيطية العمودية (من السطح إلى الأعماق) مما يؤدي إلى نقص الأكسجين في المناطق العميقة، على حد وصفه.

ويتابع أن “مشكلة نقص الأكسجين لها تأثيرات مباشرة على معظم الكائنات البحرية التي تحتاج إلى مستويات معينة للبقاء على قيد الحياة، ومن الممكن أن تؤدي إلى هجرة الكائنات البحرية إلى مناطق ذات مستويات أكسجين أعلى، مما يساهم في اختلال التوازن البيئي”.

الأنشطة البشرية تفاقم المشكلة

أكدت الدراسة أن الأنشطة البشرية، مثل حرق الوقود الأحفوري، هي المسبب الرئيسي لهذا التهديد الثلاثي المتزامن، ويتفق العربيد مع ذلك، إذ يرى أن الوقود الأحفوري يلعب دورا رئيسيا في إحداث الاختلالات البيئية، نظرا لتأثيراته الشاملة والواسعة عالميا، ويكون ذلك نتيجة حرق كميات هائلة من هذا الوقود الذي ينتج غاز ثاني أكسيد الكربون، فاستنادا إلى تقرير وكالة الطاقة الدولية فإن أكثر من 35 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون تم إطلاقه في الغلاف الجوي خلال العام 2023 فقط .

وهذا -بدوره- يفاقم أزمة الاحتباس الحراري على مستوى الكوكب، مما يساهم في ارتفاع حرارة مياه البحار والمحيطات عالميا ويؤدي من خلال العمليات الفيزيائية والكيميائية إلى نقص في كميات الأكسجين وزيادة الحموضة في مياه المحيطات .

ومن أبرز السلوكيات البشرية التي قد تفاقم هذا الخطر الثلاثي الإفراط في استهلاك الموارد البحرية، وزيادة معدلات التلوث في المحيطات، مثل إدخال المواد الكيميائية التي تؤثر على جودة المياه، والصيد الجائر وتوسع المدن نحو السواحل وإلقاء النفايات، خصوصا الخطرة منها، داخل مياه المحيطات وتدمير المواطن البحرية مثل الشعاب البحرية والأنشطة الصناعية.

آثار اجتماعية وغذائية وخيمة

وتمتد تلك التأثيرات على المجتمعات وفق المديرة التنفيذية لمنظمة أوراق للتنمية البيئية زينة حمدان، خاصة على المجتمعات التي تعتمد في اقتصادها على الموارد البحرية والاقتصادات التي تعتمد عليها، وتنعكس على إدارة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية، مما يؤثر بدوره على الغذاء العالمي وتزايد البطالة وهبوط في التنمية المستدامة للبلدان بشكل عام، فمثلا توفر مهنة الصيد أكثر من 1.7 مليون وظيفة و253 مليار دولار من النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة كل عام وتوفر الموائل الساحلية خدمات مهمة، بما في ذلك مناطق الحضانة للأسماك والأنواع المحمية وحماية الأشخاص والممتلكات من العواصف والفيضانات.

وتضيف في حديثها للجزيرة نت أن “تغير المناخ له تأثيرات عميقة وبعيدة المدى على المحيطات، مع عواقب كبيرة على مهنة الصيد والسياحة وأزمة الغذاء العالمية، وهذا يعرض للخطر سبل عيش الملايين من الناس الذين يعتمدون على الصيد، حيث تصبح مناطق الصيد التقليدية أقل إنتاجية وتواجه بعض الأنواع خطر الانقراض”.

بالنسبة إلى صناعة السياحة، وخاصة في المناطق التي تعتمد على عوامل الجذب البحرية والساحلية، فإن تدهور الشعاب المرجانية وزيادة وتيرة الأحداث الجوية المتطرفة يؤدي إلى انخفاض أعداد السياح والخسائر الاقتصادية. إن تبييض المرجان وفقدان الحياة البحرية النابضة بالحياة يقلل من جاذبية الأنشطة تحت الماء، مثل الغطس والغوص، مما يؤدي إلى انخفاض كبير في عائدات السياحة البيئية، وفق حديثها.

وعلاوة على ذلك، فإن تأثير تغير المناخ على المحيطات يؤدي إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمية، ومع تناقص مخزونات الأسماك، تواجه المجتمعات التي تعتمد بشكل كبير على المأكولات البحرية كمصدر أساسي للبروتين انعدام الأمن الغذائي بشكل متزايد. وهذا أمر بالغ الأهمية بشكل خاص في البلدان النامية، حيث قد تكون مصادر الغذاء البديلة نادرة أو باهظة الثمن.

شاركها.
Exit mobile version