في وقت ما من عام 1979، وأثناء زيارة المرشح الرئاسي الأميركي حينها رونالد ريغان لمقر قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية في جبال تشين بولاية كولورادو، أشار ريغان إلى الشاشات المضيئة، التي كان من ضمن مهامها رصد النشاط الصاروخي عبر استخدام الأقمار الصناعية، وسأل قائد العمليات المناوب عما يمكنهم فعله إذا أشارت تلك الشاشات إلى أن صاروخا نوويا سوفيتيا قد أُطلق في اتجاه الولايات المتحدة. وقد أجابه القائد جوابا مرعبا، حيث رد بالقول في عجز: لن يمكننا فعل أي شيء!

في طائرة العودة إلى واشنطن العاصمة، تحدث ريغان مع مستشاريه عن قلقه، وهو ما جعل أحدهم، ويُدعى مارتن أندرسون، يبدأ العمل على مذكرة لإستراتيجية دفاعية يتبناها ريغان أثناء حملته الانتخابية، تجعل منه بطلا في عيون الأميركيين، وتزيح عنه صورة المتعطش للحرب والدماء، في بلاد كانت لا تزال تعاني من آثار حربها في فيتنام. وأراد أندرسون أن تُعرف مذكرته باسم “خطة ريغان للسلام”، وحين فاز ريغان بمنصب الرئاسة في العام التالي، وضع على قائمة أولوياته التعامل مع التهديد السوفيتي، وشكَّلت مذكرة أندرسون أحد أهم مصادره لتحقيق هدفه. لم يعرف الأميركيون والعالم ما كان يفكر فيه ريغان إلا يوم 12 مارس/آذار 1983، عندما قدم الرئيس خطته باسم “مبادرة الدفاع الإستراتيجي”، التي ذاع على نطاق واسع فيما بعد الاسم الذي أطلقه عليها منتقدوها: “برنامج حرب النجوم”.

كان البرنامج ثوريا بالنسبة لزمانه، فقد أراد تدريع الولايات المتحدة ضد الصواريخ النووية العابرة للقارات، من خلال توظيف أنظمة فضائية وأرضية، تتكون من أقمار صناعية وأشعة ليزر ومرايا عاكسة. بكثير من التبسيط، يمكن القول إن الفكرة الطموحة التي عززها التفاؤل بالقدرات التقنية الأميركية، كانت مبنية على رصد الصواريخ بالأقمار الصناعية على شاشات مثل تلك التي رآها ريغان في كولورادو، ثم توجيه أشعة ليزر مشتتة إلى أقمار صناعية تحمل مرايا عاكسة توجهها بدورها إلى الصاروخ المعادي بحيث يبطل عمله بطرق مختلفة من بينها تفجيره في الفضاء. لم يكتمل المشروع الطموح، بعد أن أثبتت التقنيات عجزها عن التعامل مع مشكلاته التي قدَّرها الخبراء، لكن أهم أسباب تأخره على قائمة الأولويات الدفاعية الأميركية كان انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه في نهاية الثمانينيات، وانتفاء الحاجة إلى نظام ردع يُكلِّف مئات المليارات من الدولارات من دون تهديد يستحق ذلك.

لم يعلم الأميركيون وقتها أن التهديد الروسي لن يلبث أن يعود مجددا. ففي منتصف فبراير/شباط الماضي أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي أن الولايات المتحدة لديها معلومات استخبارية تفيد بأن الروس يطوِّرون سلاحا جديدا مضادا للأقمار الصناعية ومثيرا للقلق. ولم يوضح البيان تفاصيل دقيقة عن السلاح سوى أنه سيُطلق في الفضاء، وأنه سيكون مسلحا برأس نووي. وفي هذا السياق ترى الولايات المتحدة أن التحركات الروسية تهديد جديد لها، وأنها يجب أن تحمله على محمل الجد، بحسب ما صرَّح به كيربي آنذاك.

يمكن فهم هذا التصريح في سياق محاولات البيت الأبيض للضغط على الكونغرس من أجل الموافقة على إرسال حزمة مساعدات إضافية إلى أوكرانيا في حربها التي طالت مع روسيا، ولكن من جهة أخرى فإن هذا الخبر يعيد تنشيط ذاكرة سباق التسلح بين الدول الكبرى، ولا سيما في مجال تطوير الأسلحة الموجهة للأقمار الصناعية، وهو سباق كانت واشنطن نفسها أول من دشنه وأطلق المنافسة حوله بتجريب سلاح نووي يُفجَّر في الفضاء ويمكنه استهداف الأقمار الصناعية عام 1962، وذلك بعد الإعلان عن عملية “ستارفيش برايم”، التي جرى فيها اختبار سلاح نووي موجه للفضاء بقوة 1.4 ميغاطن (الميغاطن الواحد يساوي مليون طن من متفجرات الـ”تي إن تي”) على ارتفاع 400 كيلومتر من سطح الأرض.

تقول المعلومات المتوفرة حول العملية إن الانفجار النووي نجح بالفعل في استهداف الأقمار الصناعية المطلوبة، لكنه أدى في الوقت نفسه إلى نشر طبقة من الحطام الانشطاري في الغلاف الجوي العلوي، قادت إلى تدمير قدرة بعض طبقات الغلاف الجوي العلوي على ثني موجات الراديو إلى الأرض. وقد ترتب على ذلك قطع العديد من الاتصالات عبر المحيط الهادي، وبسبب تلك الأضرار الجسيمة تقرر إنهاء المشروع. ولكن منذ ذلك الحين، لم تتوقف تطلعات الدول الكبرى عن السعي لتطوير سلاح يستهدف الأقمار الصناعية، رغم التجربة الكارثية للولايات المتحدة، ورغم طموحات برنامج حرب النجوم الباهظة التكاليف.

لماذا الأقمار الصناعية؟

بحثت دراسات أخرى لِديسكفري في كيفية قيام سرب من الأقمار الصناعية الصغيرة  بتطوير وعي جماعي، حيث يساعدها بِإجراء مناورات عديدة لتجنب الاصطدام مع بعضها

لا غنى عن الاتصالات في عالمنا اليوم، ففي أوقات السلم تتحرك من خلالها الأفكار، وفي أزمنة الصدام تُمرر من خلالها التعليمات، لكن النقلة النوعية في ثورة الاتصالات الحربية ترتبط بالحرب العالمية الأولى. فقد كان لدى البريطانيين شبكة وافرة من الكابلات والوصلات التلغرافية، الممتدة عبر مناطق شاسعة من العالم، وهو ما ساعدها على سرعة إيصال الأوامر والتكليفات إلى قواتها في أرض المعركة، ومن ثم تحريكهم حسبما تقتضي الخطة الإستراتيجية للمعارك، وكذلك مكنتها تلك المقدرة من توفير المعلومات والوقت الكافيين للانسحاب والمناورة إذا اقتضت الظروف ذلك.

في الوقت نفسه، لم يتردد البريطانيون في تدمير أي كابل بحري يهدد أمنهم. وأشهر تلك العمليات كانت في بدايات الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا يوم 5 أغسطس/آب 1914 حينما أتلفت سفينة بريطانية خمس كابلات تلغرافية ألمانية رابضة في أعماق المياه؛ مما أدى إلى قطع الاتصالات الألمانية المباشرة، وعزلها عن التواصل مع خارج أوروبا، وهو ما أثر في خط سير الحرب لصالح البريطانيين.

يمكن القول إنه في أعقاب تلك العملية لم تتوقف حروب الاتصالات، والتسابق نحو امتلاك تقنيتها، حيث سعت الدول الكبرى لتطوير شبكاتها للاتصالات. ثم أتت القفزة الكبرى في مرحلة الأقمار الصناعية، وهنا يكفي مراجعة مؤشر الأجسام المطلقة في الفضاء الخارجي التابع لمكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي، الذي أوضح أن هناك 11330 قمرا صناعيا فرديا كان يدور حول الأرض عام 2023، وهي زيادة هائلة بنسبة 38% تقريبا عن عام 2022. ولوحظ أن هذه الزيادة في الأقمار الصناعية تمت في نطاقين على وجه الخصوص: الاتصالات والمراقبة. ولكي ندرك مقدار هذه الزيادة الهائلة، علينا أن نعرف أن العالم كان يطلق سنويا حوالي مئتي قمر صناعي طوال العقود السبعة الماضية، ولكن الرقم قفز قفزة كبيرة أثناء العقد الحالي.

من المعروف أن مجال عمل الأقمار الصناعية العسكرية يشمل أعمال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، حيث تتوفر لها أجهزة الاستشعار وكاميرات الرصد المعلوماتي، كما تقدم الدعم اللوجستي عبر تسهيل الاتصالات الآمنة الموثوق بها بين الأفراد العسكريين والمحطات الأرضية والسفن والطائرات، وخاصة في المناطق النائية، علاوة على توفير معلومات دقيقة عن المواقع والملاحة وتنسيق العمليات. أما أقمار الإنذار المبكر، فتعمل على اكتشاف وتتبع عمليات إطلاق الصواريخ الباليستية؛ مما يوفر معلومات حيوية للقادة العسكريين لتقييم التهديدات. ومن ثمَّ فإن استهداف هذه البنية التحتية الفضائية لا شك سيؤثر في خط سير أي معركة، فضلا عن اختراقات القراصنة وما تسببه من بلبلة وتخبط في إيقاع الحياة داخل أي بلد يتعرض للهجوم السيبراني، إذ إن جزءا من اتصالاتنا اليومية وطرق وصولنا إلى الترفيه والمعلومات والملاحة اليومية على الطرقات يتم عبر تطبيقات مثل “غوغل مابس” المتصلة بالأقمار الصناعية.

شاركها.
Exit mobile version