اكتشفت البعثة الأثرية المصرية التابعة للمجلس الأعلى للآثار أول مرصد فلكي قديم مسجل يُعتقد أنه “الأول والأكبر” من نوعه، أثناء أعمال التنقيب في معبد “بوتو” القديم، في موقع تل الفراعين الأثري بمحافظة كفر الشيخ شمال البلاد.
وكان هذا المرصد مركزًا مهمًا لتتبع وتسجيل الظواهر الفلكية، بما في ذلك حركة الشمس والقمر والنجوم بالمعبد الموجود بمدينة “بوتو” التي كانت عاصمة الوجه البحري بمصر القديمة، وسبق أن شهدت الإعلان عن العديد من الاكتشافات الأثرية.
ويقول الخبير الأثري والمتخصص بعلم المصريات الدكتور أحمد عامر في تصريحات للجزير نت إن “هذا الكشف الأثري يبرز قدرات المصريين القدماء ومعرفتهم الفلكية المتقدمة في الكثير من مجالات العلوم، ويوضح مدى التطور العلمي في العصور القديمة، والارتباط العميق لعلم الفلك بالممارسات الروحانية والطقوس الدينية عندهم”.
ما الذي عثر عليه العلماء؟
وفق بيان وزارة السياحة والآثار المصرية، اكتشف فريق من علماء الآثار المصريين بقايا مبنى كبير مصنوع من الطوب اللبن يتميز بصالة مركزية على شكل حرف “إل” (L) ويشبه مداخل الأبراج في المعابد المصرية القديمة.
والمرصد نفسه عبارة عن مبنى واسع يرجع تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد، ويمتد على مساحة 850 مترًا مربعًا بالركن الجنوبي الغربي لمنطقة المعابد.
ويتضمن تصميم المبنى المعماري مدخلاً مواجهًا للشرق، مما يسمح لأشعة الشمس بإضاءة المكان الذي يقف فيه مراقب السماء المعروف باسم “بسماتيك سمن” والذي كان كاهنًا، لتتبع الشمس والنجوم خلال أوقات محددة من العام، مما يؤكد بشكل أكبر دور المبنى في المراقبة الفلكية.
ولا يزال المبنى يحتوي على نقش للكاهن “بسماتيك سمن” يواجه شروق الشمس، ويرمز هذا الشكل إلى ارتباط المصريين القدماء بالكون.
وفي الركن الجنوبي الغربي من المعبد، كشفت البعثة عن العديد من الغرف المصنوعة من الطوب اللبن، من بينها 5 غرف يُعتقد أنها كانت تخزن بعض أدوات المرصد. وبالإضافة إلى ذلك، تم العثور على 4 غرف أصغر من الطوب اللبن وغرفة حجرية صغيرة يُعتقد أنها جزء من برج المرصد.
وهذا يعني -بحسب عامر- أن هذه الأماكن في المعبد كانت مخصصة لحساب التوقيت وتسجيل الملاحظات السماوية بالمدينة القديمة حتى يتم الإعلان عن موعد الاحتفالات الدينية الخاصة بالمعبود “بوتو” وهو الاسم اليوناني لإلهة مصرية قديمة محلية يُشار إليها باسم “وادجيت”.
وفي العصور القديمة، كانت مدينة “بوتو” مخصصة للإلهة “وادجيت” وهي آلهة الكوبرا الفرعونية المعروفة بالمصدر الوحيد لإضفاء شرعية الحكم لملوك مصر، حيث كان عليهم الذهاب إلى “بوتو” لتقديم القرابين، ويوفر تحليل المرصد المزيد من الأدلة على أن “وادجيت” كانت ذات أهمية كبيرة لبوتو.
وخلال أعمال الحفر داخل المرصد، عثر علماء الآثار على نقوش تصوِّر مناظر فلكية لشروق الشمس وغروبها على مدار 3 فصول مميزة، وتتضمن النقوش أيضًا قياسات من المحتمل أن تكون قد أُخذت من خلال الأبواب الشرقية والغربية للمعبد.
وتضيف هذه النتائج، فضلاً عن نقوش أخرى، إلى الأدلة على فهم المصريين العميق للتغيرات الموسمية والاختلافات في طول النهار.
وبالإضافة إلى المرصد نفسه، اكتشف فريق التنقيب ثروة من القطع الأثرية، من بينها تمثال من الجرانيت الرمادي للملك بسماتيك الأول من العصر الفرعوني المتأخر (الأسرة الـ26) مكتوب عليه لقب “حامل الخاتم الملكي” وتمثال برونزي لأوزوريس، وهو آلهة مرتبط بالعالم السفلي والموت والقيامة حسب المعتقدات المصرية القديمة، مع ثعبان في إشارة إلى الآلهة “وادجيت”.
وعثر علماء الآثار داخل المرصد أيضًا على العديد من القلائد الخزفية وقطع الفخار المختلفة المستخدمة في الاحتفالات الدينية والحياة اليومية.
وتوضح هذه القطع الأثرية كيف استخدم المصريون علم الفلك لمواءمة ممارساتهم الدينية واليومية مع الأحداث السماوية، وتؤكد دور المرصد المزدوج في الدراسة العلمية والممارسة الروحية.
وعن هذا الدور، يقول عامر في تصريحه للجزيرة نت إن القطع والتماثيل التي تم العثور عليها تؤكد الأهمية الدينية للعاصمة بوتو، كما “نجد أنها لعبت دورًا دينيًا هامًا” وذلك لأنها كان يُشَد إليها الرحال للزيارة وإقامة الشعائر الجنائزية للمتوفى قبل أن يُوارَى جسده التراب.
تقنيات فلكية
بدأت أعمال التنقيب منذ 3 سنوات. واعتقد الفريق في البداية أنهم اكتشفوا معبدًا دينيًا من نوع ما. ومع ذلك، مع استمرار أعمال التنقيب والحفر، اكتشفوا العديد من القطع الأثرية والرموز المنقوشة التي تتعلق بالوقت وعلم الفلك.
ولكن العثور على مزولة أو ساعة حجرية شمسية منحدرة على طول الجانب الشمالي للصالة -إلى جانب العديد من النقوش والقطع الأثرية وتخطيط المبنى- أوضح الغرض القديم للمبنى، مما دفع علماء الآثار إلى الإعلان أن هذا المبنى كان مرصدًا فلكيًا، رغم اعتقادهم في البداية أن الساعة كانت بوابة معبد.
ويصف مدير الإدارة العامة لآثار ما قبل التاريخ بوزارة السياحة المصرية الدكتور خالد سعد هذه المزولة بأنها “واحدة من أهم القطع الأثرية التي تم العثور عليها، والتي توضح مهارة المصريين في قياس الوقت بناءً على موضع الشمس وفهمهم لحركات الشمس”.
ويقول سعد في تصريحات للجزيرة نت إن “ساعة الظل” التي عثرت عليها البعثة الأثرية من المظاهر الأثرية الجديدة، وهي عبارة عن كتلة حجرية مستديرة في منتصفها ثقب يوضع فيها قطع خشبي رأسي لتحديد شروق الشمس ووقت الظهيرة والغروب عن طريق طول الظل واتجاهه.
وتتكون هذه المزولة من صف مستقيم من ألواح الحجر الجيري، يبلغ طولها حوالي 4.8 أمتار، مع عدة كتل رأسية وأفقية من الحجر الجيري المسطحة ربما كانت تستخدم لقياس زاوية وظل الشمس طوال اليوم.
كما عثر الفريق في الموقع أيضًا على أداة مسح وقياس الوقت تُعرف باسم “مرخت” وهو جهاز يستخدم شريط به كخط رأسي معلق على مقبض خشبي يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، وتلك الأداة استخدموها لحساب الوقت بالليل اعتمادًا على وضوح النجوم في السماء بدلاً من المزولة التي كانت عديمة الفائدة في الظلام، كما يقول عامر.
وتسلط هذه النتائج الضوء على التقنيات الفلكية المتقدمة التي لم يتم التعرف عليها من قبل، لكن المصريين القدماء استخدموها لتحديد التقويم الشمسي وتواريخ الطقوس والأعياد الدينية والرسمية ذات الأهمية، مثل تتويج الملوك والسنة الزراعية.
ويصف سعد هذه التقنيات بأنها موروث للأجندة الفلكية المصرية القديمة تعود إلى عصر متأخر، وهذا يعني أن المصري القديم صنع منها آلاف القطع، مشيرًا إلى أنه استخدم قبل ذلك العديد من الأدوات لقياس الوقت ورصد الأجرام السماوية وحساب الأعياد والمناسبات والاحتفالات الدينية.
وبحسب قوله، اعتمد المصري القديم على مجموعة من الأجرام السماوية لتقسيم الوقت، من بينها الشمس كوحدة لقياس اليوم، والقمر كوحدة قياس للشهر، والفيضان باعتباره بداية السنة، ثم اخترع علم الحساب لتتبع هذه التوقيتات، مضيفًا أن كل ذلك كان بداية الأجندة الفلكية منذ حوالي 12 ألف سنة حتى 3300 سنة.
وبالمقارنة بهذا الكشف الذي يعود إلى 2600 عام، نجد أن المصري القديم أوجد مجموعة من العلوم والأدوات الفلكية لرصد التوقيتات والأجرام السماوية والظواهر الكوكبية قبل الكشف عن هذا المرصد الفلكي بآلاف السنين، وتلك فترة طويلة تمكن خلالها من تطوير أدوات حساب الوقت، من بينها الساعة المائية التي اكتشفت بمعبد الكرنك، وهي بالتأكيد أقدم ساعة في العالم، بالإضافة إلى زودياك دندرة أو القبة السماوية الموجودة بمتحف اللوفر.
ويقول عامر إن القطع الأثرية التي تم العثور عليها توضح أن المصريين القدماء كان لديهم أدواتهم الخاصة بهم في علم الفلك، التي قدمت -على الرغم من بساطتها- رؤى قيمة في التقدم العلمي والفلكي ذلك الوقت، ويضيف “على الرغم من التقدم والتطور الذي نعيشه الآن فإننا ما زلنا نتساءل: كيف برع المصريين القدماء في التعامل مع مثل هذه العلوم الدقيقة”.