آثار تحليل لمومياء مصرية شهيرة حالة من الجدل، بعد اكتشاف أن المومياء التي تعرف باسم “المرأة الصارخة” تم تحنيطها دون نزع الأعضاء، بخلاف النمط السائد للتحنيط في فترة المملكة الحديثة بمصر القديمة، التي تنتمي لها.
وتشمل الطريقة الكلاسيكية للتحنيط في المملكة الحديثة (1550-1069 قبل الميلاد) إزالة جميع هذه الأعضاء باستثناء القلب، ولكن الاكتشاف الذي جاء ضمن دراسة بحثية قادتها الدكتورة سحر سليم، الأستاذ بقسم الأشعة بمستشفى القصر العيني جامعة القاهرة، ونشرت تفاصيله الجمعة في دورية “فونتيرز”، وجد أن المومياء تم تحنيطها في وجود أعضاء الدماغ والحجاب الحاجز والقلب والرئتين والكبد والطحال والكلى والأمعاء.
وفي حين وصفت سليم في تصريحات للجزيرة نت هذا الاكتشاف بأنه يشير إلى “نمط مختلف للتحنيط كان موجودا في المملكة الحديثة”، خلع الأثري الشهير ووزير الآثار الأسبق زاهي حواس، صفة التحنيط عن تلك المومياء، وقال إن “عملية تحنيطها لم تكتمل”، وأيد كاتب علم المصريات بسام الشماع ما ذهبت إليه سليم من أنه نمط مختلف للتحنيط، واصفا الاكتشاف بأنه الأهم في القرن الـ21.
وتقول سليم إن هذا الاكتشاف بتلك المومياء الشهيرة التي عثر عليها بالدير البحري بالأقصر عام 1935، جاء بعد دراسة أجريت مؤخرا على مومياوتين أقل شهرة تنتميان أيضا لعصر المملكة الحديثة، وكانتا أيضا محنطتين بكامل الأعضاء، وهو ما يعطينا انطباعا بأننا أمام نمط مختلف للتحنيط في تلك الفترة.
وأوضحت سليم أن هذا النمط لا يعكس عدم تقدير أو إهمال، ويؤكد ذلك العثور على مواد باهظة الثمن تم استخدامها في عملية التحنيط.
وكشف تحليل -“مطيافية تحويل فورييه للأشعة تحت الحمراء” الذي أجري لجلد المومياء خلال الدراسة- أن المرأة الصارخة قد تم تحنيطها بالعرعر واللبان، وهي مواد باهظة الثمن كان لا بد من استيرادها إلى مصر من شرق البحر الأبيض المتوسط وشرق أفريقيا أو جنوب الجزيرة العربية، على التوالي.
كما أن شعرها الطبيعي كان مصبوغا بالحناء والعرعر، وقد تمت معالجة الشعر المستعار الطويل، المصنوع من ألياف نخيل التمر، ببلورات الكوارتز والمغنتيت والألبيت، لمنحه اللون الأسود الذي يفضله المصريون القدماء لأنه يمثل الشباب.
وتقول سليم “هذا يشير إلى أننا أمام امرأة ليست عادية، ويدعم ذلك التابوت الذي دفنت به، والعثور على خواتم ذهبية معها، ويبدو أن المحنطين كانوا يدركون طبيعة مواد العرعر واللبان المستخدمة في التحنيط وخصائصها المضادة للميكروبات، والتي ساعدت على بقاء المومياء بحالة جيدة من الحفظ”.
ورفضت سليم أيضا في هذا الإطار، اعتبار صرخة المومياء إهمالا من المحنطين، بالقول إنهم “لم يحرصوا على إغلاق الفم”، مؤكدة أيضا أن “مواد التحنيط باهظة الثمن التي عثر عليها، تنفي أي شبهة للإهمال في التحنيط”.
وتقترح أن يكون صراخ المومياء في هذه الدراسة، عبارة عن “تشنج جثثي” مما يعني أن المرأة ماتت وهي تصرخ من “العذاب أو الألم”.
وتشنج الجثث، هو شكل نادر من تصلب العضلات، وعادة ما يرتبط بالوفيات العنيفة في ظل ظروف بدنية قاسية وعاطفة شديدة.
نمط تحنيطي أم عملية غير مكتملة؟
ولا يعتبر الأثري الشهير ووزير الآثار الأسبق زاهي حواس العثور على مواد مثل العرعر واللبان مبررا للقول إن “المرأة الصارخة” قد تم تحنيطها تحنيطا كاملا، وقال في تصريحات هاتفية للجزيرة نت “في تقديري إن المحنط قد وضع تلك المواد، لكن لظروف ما لم يتم تحنيطها تحنيطا مكتملا، ولا يمكن اعتبارها تأكيدا على وجود نمط مختلف للتحنيط في عصر المملكة الحديثة”.
ومن جانبه، يعتقد كاتب علم المصريات بسام الشماع أن هناك ظروفا ربما أدت إلى استعجال التحنيط باستخدام كامل الأعضاء، ولكن “هذا لا يعني أن عملية التحنيط غير مكتملة”.
وقال في تصريحات هاتفية للجزيرة نت “هذه عملية تحنيط مكتملة، ومكلفة للغاية، مقارنة بالتحنيط بعد نزع الأعضاء، وهذا يتماشى مع العثور على خواتم ذهبية وشعر مستعار بمواد باهظة الثمن مع المومياء، وهذا يعني أننا أمام نمط للتحنيط لم يكن معروفا لدينا، وعرفناه مع هذه المومياء، والمومياوتين اللتين أشارت إليهما الدكتورة سليم”.
وأضاف “العثور على هذا النمط الجديد للتحنيط في تقديري هو أهم اكتشاف في القرن الـ21، حيث كنا نعتقد أن الأعضاء الداخلية مثل المخ والكلى والأمعاء وغيرها يتم نزعها حتى لا تساعد على فساد الجثة بعد التحنيط، ولكن ما عرفناه من المرأة الصارخة أنه يمكن التحنيط باستخدام تلك الأعضاء، دون التأثير على حالة الجثة، بدليل العثور عليها بحالة حفظ جيدة، كما كشفت الدراسة”.
وعن الأسباب التي دفعتهم للتحنيط دون نزع الأعضاء، قال “ربما كانت هناك ظروف دفعتهم لاختيار هذا النمط من التحنيط، ويحتاج هذا الأمر إلى دراسات لاحقة، لاكتشاف تلك الظروف”.
وعد بمزيد من الفحص
وتعد سليم بمزيد من الفحص لهذه المومياء للإجابة عن التساؤلات الحائرة، كلما أتيحت أدوات جديدة يمكن استخدامها.
واستخدمت سليم والمؤلفة المشاركة لها الدكتورة سامية الميرغني تقنيات متقدمة مثل المجهر الإلكتروني الماسح، ومطيافية تحويل فورييه للأشعة تحت الحمراء، وتحليل حيود الأشعة السينية، لتحديد المواد.
وتقول “ربما نجري دراسات مستقبلية، إذا أتيحت أدوات أخرى تساعدنا على تقديم مزيد من المعلومات حول تلك المومياء التي حيرت العالم منذ اكتشافها”.
واكتشفت هذه المومياء في الدير البحري بالأقصر عام 1935، بقيادة بعثة أثرية من متحف متروبوليتان في نيويورك، حيث كانت البعثة تحفر قبر سنموت، المهندس المعماري والمشرف على الأعمال الملكية -والمحب المعروف- للملكة الشهيرة حتشبسوت (1479-1458 قبل الميلاد)، وتحت قبره، عثروا على غرفة دفن منفصلة لوالدته، حت نوفر، وأقارب آخرين مجهولي الهوية.
وتوصلوا هناك إلى اكتشاف غريب، عبارة عن تابوت خشبي يحمل مومياء امرأة مسنة ترتدي باروكة سوداء وخاتمين من الجعران من الفضة والذهب، لكن ما أذهل علماء الآثار هو تعبير المومياء، حيث كان الفم مفتوحا على مصراعيه، كما لو كانت صرخة محبوسة بداخله، ولذلك أطلقوا عليها لقب “المرأة الصارخة”.
وحتى عام 1998، كانت المرأة الصارخة محفوظة في كلية طب قصر العيني بالقاهرة، حيث درس الباحثون في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20 العديد من المومياوات الملكية، بما في ذلك توت عنخ آمون، وتم نقلها بعد ذلك إلى المتحف المصري بالقاهرة بناء على طلب وزارة الآثار، لكن تابوتها وخواتمها معروضان في متحف متروبوليتان بنيويورك منذ عام 1935.
أسرار أخرى غير التحنيط
وإذا كانت طريقة التحنيط هي النقطة الأبرز في الدراسة، فإن هناك اكتشافات أخرى تشير إليها سليم، منها أن “مواد التحنيط المكتشفة، تشير إلى التجارة القديمة في تلك المواد بمصر القديمة، فقد جلبت البعثة التي قادتها الملكة حتشبسوت اللبان من بونت (ربما من الصومال في أفريقيا)، كما احتوت مقبرة توت عنخ آمون على اللبان والعرعر”.
كما ساعدت الأدوات العلمية المستخدمة في الدراسة في التشريح الافتراضي للمومياء وتقدير عمرها وتحديد الأمراض وحالة الحفظ.
ووجد الفريق البحثي أن المومياء كانت لا تزال في حالة جيدة، وكانت غير ملفوفة ومستلقية على ظهرها وكانت ساقاها ممدودتين ويداها مطويتين فوق الفخذ، وتفتقر إلى عدة أسنان، ومن المحتمل أنها فقدتها قبل الموت، حيث كان هناك دليل على ارتشاف العظم، والذي يحدث عندما يخرج السن ويترك التجويف للشفاء، وأسنان أخرى مكسورة أو ظهرت عليها علامات التآكل.
وتقول سليم في بيان وصلت الجزيرة نت نسخة منه “ربما تم خلع الأسنان التي فقدت خلال الحياة، فقد نشأ طب الأسنان في مصر القديمة، وكان حسي ري أول طبيب أسنان مسجل في العالم”.
ومن خلال الصور المقطعية ثنائية وثلاثية الأبعاد، قدرت سليم أن طول المرأة الصارخة كان 1.54 متر في حياتها، ومن خلال شكل المفصل بين عظمتي الحوض، والذي يصبح أملس مع التقدم في السن، قدرت الصور المقطعية أنها كانت تبلغ من العمر (48 عاما) تقريبا وقت وفاتها، وأنها عانت من التهاب مفاصل خفيف في العمود الفقري، كما يتضح من وجود النتوءات العظمية على الفقرات.
واختتمت قائلة “المرأة الصارخة هي كبسولة زمنية حقيقية للطريقة التي ماتت بها وتم تحنيطها”.