لطالما كانت الأبقار في كينيا ومعظم أنحاء أفريقيا الحيوان الأهم على مرّ العصور، وذلك أنها تمثّل أساس الاقتصادات والأنظمة الغذائية والتقاليد. لكنْ مع تقلّص مساحة الأراضي الصالحة للرعي ونضوب مصادر المياه، أدى الجفاف الذي استمر ثلاثة أعوام في منطقة القرن الأفريقي وانتهى العام الماضي إلى نفوق 80% من الأبقار في هذا الجزء الشمالي من كينيا، وتدمير سبل عيش الكثير من الناس، وبات الملايين في هذه المنطقة مضطرين إلى التكيُّف مع تغير المناخ.
في هذا التقرير الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية، قال “تشيكو هارلان” و”رائيل أومبور” إن الحكومة الإقليمية اشترت جِمالا من تجار قرب الحدود مع الصومال بسعر 600 دولار للرأس، وحتى الآن وُزِّع 4000 جمل كجزء من هذا البرنامج عبر الأراضي المنخفضة في المقاطعة، مما ساهم في تسريع التحوُّل الذي كان جاريا بالفعل منذ عقود في العديد من مناطق أفريقيا الأخرى التي تعتمد على الماشية.
ووفقا للدراسات الأكاديمية، يشهد عدد قليل من المجتمعات -وخاصة في كينيا وإثيوبيا- مراحل مختلفة من التحوُّل، إذ تضاعف تعداد الإبل في العالم خلال العشرين عاما الماضية، وهو أمر يعزوه الصندوق الدولي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة جزئيا إلى كون هذا الحيوان ملائما أكثر من البقر في ظل ظاهرة تغيُّر المناخ. ففي أوقات الشدة تُنتج الإبل حليبا أكثر من البقر. وحسب القول المأثور: البقرة أول الحيوانات موتا عند الجفاف والجمل آخرها.
ومن جهته يقول “جوناثان لاتي ليليليت” حاكم مقاطعة “سامبورو” الكينية التي تقع على بعد حوالي 380 كيلومترا إلى الشمال من العاصمة الكينية نيروبي: “لولا التغيُّر المناخي لما كلّفنا أنفسنا حتى عناء شراء هذه الجمال، لدينا الكثير من الأمور الأخرى التي يجب القيام بها بالمال القليل الذي لدينا، ولكن لا خيار أمامنا”.
وتشترط السلطات على المستفيدين من هذه الجمال استخدامها للحصول على الحليب وليس اللحوم، كما يَعتبر المسؤولون المحليون هؤلاء الأشخاص الأكثر احتياجا لأنهم شهدوا خسائر شبه كاملة في الماشية، واضطروا إلى المشي لأميال من أجل العثور على الماء، وواجهوا مصادمات عنيفة مع قبيلة مجاورة أثناء ابتعادهم عن أراضيهم بحثًا عن مكان يرعون فيه ما تبقى من مواشيهم. ومع ذلك، قال كثير منهم إن محنة “ديشون ليلاينا” كانت الأبرز.
كان “ليلاينا” (42 عاما) ثريا بمعايير هذه المنطقة قبل الجفاف، وكان متزوجا من امرأتين ولديه عشرة أطفال، ويملك عددا وفيرًا من الأبقار منذ فترة طويلة تقريبا. ولكن عندما فشل موسم الأمطار واحدا تلو الآخر، تقلَّص عدد رؤوس الماشية لديه والمكوَّن من 150 بقرة على مدى سنوات بشكل غير مسبوق. وهاجمت قبيلة بوكوت المجاورة العشرات من بقراته بينما أصيبت أكثر من 100 منها بالهزال. وعندما كان يصل بعضها أخيرا إلى مصدر للمياه فإنها تشرب الماء بشراهة حتى الموت. وبحلول الوقت الذي عاد فيه موسم الأمطار خلال العام الماضي، لم يبق لدى “ليلاينا” سوى 7 بقرات، فانقلبت حياته رأسا على عقب.
حيوان مُصمَّم لمقاومة الجفاف
من بين جميع الثدييات، يتَّسم الجمل بكونه الحيوان الوحيد تقريبا الذي يستطيع التكيُّف مع الظروف المناخية القاسية بطريقة فريدة، ويُمكن للإبل أن تبقى دون ماء لمدة أسبوعين مقابل يوم أو يومين عند البقر. ويمكن للإبل أن تفقد 30% من وزنها وتظل على قيد الحياة، كما تتغيّر درجة حرارة جسم الجمل بالتزامن مع تقلبات المناخ اليومية. وعندما تتبول الإبل، يتدفق السائل إلى أسفل أرجلها مما يُبقِي أجسامها باردة، وعندما تستلقي فإنها تطوِي قوائمها فتتحوَّل إلى ما يشبه الركائز التي تعمل على دعم جزء كبير من نصفها السفلي فوق الأرض مباشرة، مما يسمح للهواء البارد بالمرور من تحتها. وقد وصفت ورقة بحثية نُشرت مؤخرا الجِمال بأنها “حيوان مُعجِزة”.
ومع ذلك، وعلى مدار معظم فترات تاريخ البشرية في أغلب أنحاء أفريقيا، لم تكن هناك حاجة لمزايا الإبل. فالإبل عاشت طيلة قرون في الحلقة الخارجية الأكثر جفافا من القارة الأفريقية بالأساس، في حين كانت الأبقار منتشرة في سهول الأنهار الخصبة في الأراضي المرتفعة، وبلغت أعدادها عشرة أمثال أعداد الإبل.
أما كينيا فكانت منذ فترة طويلة في الوسط حيث تُربِّي بعض القبائل الإبل بينما تُربِّي المزيد من القبائل الأبقار. ولهذا السبب تعاني القبائل المجاورة من عواقب تربية حيوان واحد على حساب الآخر، ويبدو أن هذا الأمر حوَّل مقاطعة “سامبورو” إلى تجربة عن كيفية تفاعل الماشية وكيفية استجابة البشر مع المناخ الحار.
ووفقًا للباحثة “لويز سبيرلينغ” التي أجرت بحثًا ميدانيًا في “سامبورو” في الثمانينيات، بدأت هذه التجربة منذ نصف قرن تقريبًا، وكانت قبيلة “سامبورو” من بين مربي الماشية الأكثر “تخصصًا ونجاحًا” في شرق أفريقيا، لكنهم كانوا يخالطون أفراد قبيلة “رِنديل” المجاورة المتخصصة في تربية الجمال ويتزوجون منها بشكل متزايد. وعلى مدى عقود لاحقة، لاحظ هؤلاء تغيُّرات في أنماط المناخ المُعتادة عندما قلَّت مواسم الأمطار وأصبح السكان أقل قدرة على التنبؤ بها، وباتت موجات الجفاف متكررة.
ظلَّ عدد الأبقار أكثر من الإبل بأغلبية ساحقة في المُقاطَعة، فتُستخدم الأبقار في الاحتفالات أو تُقدَّم مَهْرًا للزواج كجزء من الهوية الثقافية لـ”سامبورو”. ولكن بعد ذلك جاءت أطول فترة جفاف في القرن الأفريقي، عندما بدأ الجفاف عام 2020 واستمر لثلاثة أعوام. وحسب فريق دولي من العلماء فإن احتمال حدوث جفاف بهذه الشدة كان قد زاد 100 مرة بسبب تغيُّر المناخ. وفي “سامبورو”، انتشرت رائحة جثث الماشية المُتعفِّنة في جميع أنحاء المقاطعة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 310 آلاف نسمة، وارتفعت معدلات سوء التغذية، حتى في صفوف الأطفال وكبار السن. واضطرت الحكومة الكينية وبرنامج الأغذية العالمي إلى التدخل بتقديم المساعدات، لكنّ مستوى الحاجة لم يكن متساويًا. فعلى سبيل المثال فقدت “نومبون لينكامالدانياني” -وهي أم عزباء لأربعة أطفال- 18 بقرة من أصل 20، وعجزت عن توفير الحليب، لكنها لاحظت أن جيرانها الذين يملكون الإبل كانوا على استعداد للتدخل وتقديم المساعدة.
وقال “ليكوجدي لويدونغو” إنه وأسرته “لم يعانوا كثيرا” لأن الـ22 جملًا التي لديهم استمرت في إنتاج الحليب. وقال “ليلاينا” إنه كان يملك ثلاثة جمال قبل حلول الجفاف ونَجَت جميعها، مُرددًا الاستنتاج نفسه الذي وصل له مُربُّو الماشية الآخرون: “إنني أتوقَّع أن يكون لديَّ جمال أكثر من الأبقار في المستقبل”. وبهذا الإدراك لم يواجه برنامج الإبل الذي أطلقته الحكومة قبل ثمانية أعوام ردَّ فعل عنيفا من السكان، كما يحصل البعض منهم أيضًا على رؤوس الإبل عن طريق تجارة الماشية في الأسواق.
غالبا ما يوصف الرعاة بأنهم من بين أكثر الفئات عُرضة لتغيُّر المناخ، ويمكن أن تتأرجح حظوظهم بناء على القرارات التي يتخذونها بشأن الحيوانات التي يربُّونها. وأظهرت ورقة بحثية نُشرت عام 2022 في مجلة “نيتشر فود” العلمية التي حلَّلت حزاما ضخما من الأراضي عبر شمال أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، زيادةً في الإجهاد الحراري وانخفاض توافر المياه في بعض المناطق، مع الإشارة إلى أن إنتاج الحليب سيرتفع مع وجود نسبة أعلى من الإبل وكذلك الماعز لأنها أكثر قدرة على التكيُّف مع تغيُّر المناخ مقارنة بالأبقار.
ويُعتبر حليب الإبل بديلا مماثلًا لحليب البقر، فقد أوضحت كبيرة المتخصصين في الثروة الحيوانية لدى الصندوق الدولي للتنمية الزراعية “موتيت”، أن نسبة الدهون في حليب الإبل تكون أقل مع وجود نسبة أعلى من بعض المعادن، بينما يقول كثيرون إن طعمه أكثر ملوحة.
ويعتقد حاكم “سامبورو” أن التحول إلى تربية الإبل خطوة صحيحة، مشيرًا إلى أن “سامبورو” بمساحاتها الشاسعة البعيدة عن شبكة الكهرباء والتي لا تملك مياها جارية، ساهمت مساهمة ضئيلة نسبيا في انبعاثات غازات الدفيئة العالمية. وإلى حد بعيد فإن أكبر مصدر للانبعاثات في المناطق الريفية مثل “سامبورو” هو غاز الميثان، وهو منتج ثانوي لعملية الهضم المُعقدة للبقر. وفي المقابل تفرز الإبل كميات أقل بكثير من هذا الغاز.
يمنح البرنامج الحكومي جَمَلا واحدا فقط لكل شخص، ولكنْ حتى مع وجود جمل واحد فقط لكل أسرة، ستتمتع الأسر بفرص أفضل للحصول على الحليب أثناء الجفاف. ومع تكاثر الإبل سيزداد عددها على حد وصف حاكم “سامبورو” الذي يقول إن “الحاجة إلى برنامج الأغذية العالمي في الجفاف القادم ستكون أقل من سابقتها”.