بعد نحو ثلاث سنوات ونصف على انفجار مرفأ بيروت، كشفت دراسة لباحثين من جامعة “ووهان” بالصين، بالتعاون مع باحثين من جامعة “قوجه إيلي” بتركيا، عن الاضطرابات “المؤقتة” التي أحدثها الانفجار في طبقة “الأيونوسفير” بالغلاف الجوي للأرض.

و”الأيونوسفير” منطقة بالغلاف الجوي العلوي للأرض تمتد من نحو 30 ميلا (48 كيلومترا) إلى 600 ميل (965 كيلومترا) فوق سطح الأرض، وتتكون بشكل أساسي من جزيئات متأينة مشحونة بسبب تأثير الإشعاع الشمسي، وتلعب دورا حاسما في مختلف الظواهر الجوية والكهرومغناطيسية.

وتناولت دراستان سابقتان على دراسة جامعة ووهان تأثر تلك الطبقة بالانفجار؛ إحداهما دراسة هندية يابانية نشرت في دورية “ساينتفيك ريبورتيز”، والأخرى أميركية نشرت بدورية “راديو ساينس”، وركزتا على تأثير “الموجات الصوتية” التي خلفها الانفجار على الغلاف الجوي في اتجاهات محددة.

لكن المميز في الدراسة الجديدة المنشورة بدورية “الجيوفيزياء البحتة والتطبيقية”، أنها قدمت بيانات أكثر شمولا، حيث تضمنت ما يحدث في الاتجاهات المختلفة نتيجة تأثر طبقة “الأيونوسفير” بالموجات الصوتية، وموجات أخرى تعرف باسم “الجاذبية الصوتية”.

الموجات الصوتية والجاذبية الصوتية.. ما الفرق؟

ويشرح المدرس بقسم “الجيوماتكس” بكلية الهندسة بشبرا جامعة بنها المصرية وباحث ما بعد الدكتوراه بجامعة ووهان بالصين والباحث الرئيسي بالدراسة محمد فريشح، الفرق بين الموجتين، في حديث لـ”الجزيرة نت” عبر تطبيق “زوم”، على النحو التالي:

  • الموجات الصوتية

وهي موجات ميكانيكية تنتشر عبر وسط (وعادة ما يكون الهواء) بسبب الإطلاق المفاجئ للطاقة أثناء حدث الانفجار، وتنتقل هذه الموجات عبر الغلاف الجوي إلى الأرض على شكل موجات طولية، في عدة خطوات:

  • التوليد: فالانفجار يولّد كمية سريعة وكبيرة من الطاقة خلال فترة قصيرة، ويؤدي ذلك إلى خلق موجة ضغط تنتشر إلى الخارج من مركز الانفجار في جميع الاتجاهات.
  • الانتشار: حيث تنتقل موجة الضغط الناتجة عن الانفجار عبر الوسط المحيط وهو الهواء، وأثناء انتقال موجة الضغط فإنها تضغط وتخلخل (تزيل ضغط) جزيئات الهواء الموجودة في طريقها.
  • تفاعل الوسط: تحتاج الموجات الصوتية إلى وسط للانتشار، ويكون الهواء بمثابة الوسيط، وتنقل جزيئات الهواء المضغوط طاقة موجة الضغط عن طريق الاصطدام بالجزيئات المجاورة، وتنقل الزخم والضغط على طول واجهة الموجة.
  • التأثير: تَظهر موجة الضغط الناتجة عن الموجات الصوتية في الغلاف الجوي للأرض بعد دقائق من الانفجار، وتتحرك نحو الخارج في جميع الاتجاهات من موقع الانفجار، ويكون انتشارها محدودا وليس إقليميا، وتعتمد السرعة التي تنتقل بها عبر الغلاف الجوي على عوامل مختلفة، بما في ذلك درجة الحرارة والرطوبة والارتفاع، ففي الهواء الجاف عند درجة حرارة الغرفة تنتقل الموجات الصوتية عادة بسرعة تبلغ حوالي 343 مترا في الثانية (نحو 1125 قدما في الثانية).
  • الكشف: يمكن اكتشاف الموجات الصوتية الناتجة عن الانفجارات بواسطة أدوات مختلفة، بما في ذلك أجهزة الاستشعار دون الصوتية وأجهزة قياس الزلازل، وتقيس هذه الأجهزة التقلبات في ضغط الهواء الناتجة عن مرور الموجات الصوتية، مما يسمح للباحثين بتحليل خصائص الموجات وتحديد مصدر الانفجار وكثافته.

 

  • موجات الجاذبية الصوتية

وهي مزيج فريد من الموجات الصوتية وموجات الجاذبية، ومن هنا جاء مصطلح “الجاذبية الصوتية”، وتنتقل هذه الموجات عبر الغلاف الجوي إلى الأرض، في عدة خطوات:

  • التوليد: تتولد موجات الجاذبية الصوتية عندما يؤدي حدث مفاجئ ونشط -مثل انفجار كبير- إلى اضطراب الغلاف الجوي، ويخلق هذا الاضطراب موجات لها خصائص كل من الموجات الصوتية وموجات الجاذبية.
  • الانتشار: تنتشر هذه الموجات عبر الغلاف الجوي وتظهر خصائص كل من الموجات الطولية (الشبيهة بالصوت) والموجات المستعرضة (الشبيهة بالجاذبية).
  • التأثير: يَظهر تأثير هذه الموجات في الغلاف الجوي للأرض بعد نحو ساعتين من الانفجار، وعلى عكس الموجات الصوتية يمكن لموجات الجاذبية الصوتية أن يكون لها تأثير إقليمي، حيث تنتقل لمسافات طويلة عبر الغلاف الجوي، وتحافظ على طاقتها وتماسكها عبر مسافات كبيرة، ويمكنها الانتشار بسرعة الصوت أو أسرع، اعتمادا على الوسط وطاقة الحدث.
  • الكشف: مثل الموجات الصوتية، يمكن اكتشاف هذه الموجات بواسطة أجهزة الاستشعار دون الصوتية وأجهزة قياس الزلازل.

من أين حصل الباحثون على البيانات؟

ولدراسة تأثر الغلاف الجوي بالموجات الصوتية و موجات الجاذبية الصوتية الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت، استخدم الباحثون بيانات من المحطات التركية المرجعية للرصد المستمر، وخدمة أنظمة التموضع العالمية (آي جي إس).

وتوفر هذه الخدمات بيانات عالية الجودة من شبكة عالمية من محطات “جي إن إس إس” أو ما يعرف بـ”النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية”، بما في ذلك نظام تحديد المواقع العالمي “جي بي إس”، وأنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية الأخرى مثل “غلوناس” و “جاليليو” و”بيدو”، وتقوم هذه المحطات بمراقبة الإشارات الصادرة من الأقمار الصناعية الموجودة في المدار بشكل مستمر، مما يوفر تحديد الموقع والتوقيت والبيانات الجوية بدقة.

وتتأثر إشارات هذه المحطات بالغلاف الجوي للأرض، وخاصة طبقة “الأيونوسفير”، حيث إن التغيرات الناتجة عن الانفجارات مثل كثافة الإلكترون يمكن أن تسبب تأخيرات وتشوهات في تلك الإشارات، وهو ما يسمح للباحثين باكتشاف الأحداث غير الطبيعية المؤثرة في تلك الطبقة.

ويوضح فريشح أنه في الانفجارات عالية الطاقة -مثل تفجير مرفأ بيروت الذي يوصف بأنه “أكبر انفجار غير نووي في التاريخ الحديث”- قد يتحرر عدد كبير من الإلكترونات من الذرات والجزيئات والتي تساهم بدورها في تأين الوسط المحيط (الهواء)، مما يؤثر في توصيله الكهربائي وخصائصه الحرارية، ويمكن أن يؤثر وجود الجسيمات المتأينة في سلوك موجات الجاذبية الصوتية أثناء انتشارها عبر المنطقة المتأينة.

تجربة 4 طرق لتحليل البيانات

ولأن نشاط الغلاف الجوي للأرض يختلف بين المناطق الاستوائية والقطبية ومناطق خطوط العرض الوسطى، بسبب الاختلافات في درجات الحرارة والضغط والرطوبة، فإن سلوك هذه الموجات يختلف من مكان إلى آخر، وبالتالي فإن الأدوات العلمية المستخدمة في دراسة هذا السلوك تختلف من مكان إلى آخر، فالطريقة التي تعطي نتائج دقيقة في مكان قد لا تكون مناسبة لمكان آخر.

يقول فريشح: “قمنا بتجربة أربع أدوات علمية لتحليل البيانات، وصولا إلى أن طريقة سافيتزكي جولاي كانت الأفضل والأنسب لظروف الانفجار الذي وقع في دولة لبنان، والتي تنتمي لمناطق خطوط العرض الوسطى”.

والأدوات الأربع هي: “حساب الفروق من متعدد الخطوات العددية”، و”كثيرات الحدود من الدرجة السادسة”، و”حساب الفروق من المتوسطات لمدة أسبوع”، وصولا إلى الطريقة الرابعة التي وجد الباحثون أنها الأدق وهي “مرشح تنعيم سافيتزكي جولاي”.

ويمكن توضيح الفروق بين الطرق الأربعة على النحو الآتي:

  • حساب الفروق من متعدد الخطوات العددية:

وتتضمن قياس الاختلافات فيما يعرف بـ”المكوّن الرأسي للجاذبية” بين نقطتين أو أكثر على سطح الأرض، ومن ثم دمج هذه الاختلافات لحساب تغيرات مجال الجاذبية.

  •  كثيرات الحدود من الدرجة السادسة:

وهي دالة رياضية تستخدم لتقريب مجموعة من نقاط البيانات بهدف العثور على منحنى يتطابق بشكل وثيق مع البيانات المرصودة، ويمكن استخدامه في استقراء ما حدث.

  • حساب الفروق من المتوسطات لمدة أسبوع:

وهو مقياس إحصائي يُستخدم لتحليل اتجاهات البيانات أو أنماطها بمرور الوقت، وعلى وجه التحديد يمثل متوسط الفرق بين القيم التي لوحظت في مجموعة البيانات والقيم المقابلة لها منذ أسبوع واحد.

  • مرشح تنعيم سافيتزكي جولاي:

وهو تقنية مستخدمة على نطاق واسع في معالجة الإشارات وتحليل البيانات لتقليل التشويش في مجموعات البيانات ذات الأنماط المتكررة، وطُور المرشح بواسطة العالِمين أبراهام سافيتسكي ومارسيل جي إي جولاي في الستينيات.

نمذجة حسابية بطريقة ( مرشح تنعيم سافيتزكي جولاي)، تشير إلى محتوى الالكترون الكلي الفعلى بـ"اللون الأحمر"، بينما المحتوى المتوقع بـ "الأسود" (دورية الجيوفيزياء البحتة والتطبيقية )

كيف تعمل طريقة سافيتزكي جولاي؟

وأثبت فريشح وأقرانه في دراسة سابقة نشرتها دورية “حوليات الجيوفيزياء”، أن الطرق الثلاث الأولى يمكن أن تكون غير دقيقة لأسباب مختلفة، منها أنها لا تتعامل مع الاضطرابات ذات التردد المنخفض، بينما يمكن أن يكون بعضها نتاج أحداث غير طبيعية، كما أن بعضها  يتخطى الاضطراب الذي يمكن اكتشافه، وذلك لأنها تأخذ فترة زمنية معينة كمتوسط تقيس ما بعده وما قبله، ومن الممكن أن يحدث الاضطراب في الفترة الزمنية بينهما.

يقول فريشح: “تأكدتْ في دراستنا الجديدة عيوب تلك الطرق، وكان مرشح تنعيم سافيتزكي جولاي هو الأدق في تفسير الاضطرابات التي حدثت في الغلاف الجوي بعد انفجار بيروت”.

ويشرح كيفية استخدام هذا المرشح عبر عدة خطوات، هي:

  • أولا: جمع البيانات

فجمع بيانات “تأثير محتوى الإلكترون” من القياسات المعتمدة على الأقمار الصناعية أو محطات مراقبة الغلاف الأيوني الأرضية، وتوضح هذه البيانات كيف يتغير محتوى الإلكترون في الغلاف الأيوني بمرور الوقت.

  • ثانيا: تقليل الضوضاء

فغالبًا ما تحتوي بيانات “تأثير محتوى الإلكترون” على ضوضاء وتقلبات بسبب عوامل مختلفة مثل الاضطرابات الجوية أو أخطاء القياس، ويُستخدم “مرشح تنعيم سافيتزكي جولاي” في تلك البيانات لتقليل هذه الضوضاء مع الحفاظ على الاتجاه العام.

  • ثالثا: التجانس

يعمل “مرشح تنعيم سافيتزكي جولاي” على تنعيم بيانات “تأثير محتوى الإلكترون” عن طريق تركيب منحنى متعدد الحدود على نقاط البيانات داخل نافذة متحركة، وتعمل هذه العملية على إزالة التقلبات قصيرة المدى الناجمة عن الضوضاء، مما يسهل رؤية التأثيرات طويلة المدى للانفجارات على محتوى الإلكترون.

  • رابعا: تحديد الأنماط

بعد تجانس بيانات محتوى الإلكترون، تُحلل الاتجاهات والأنماط في البيانات بالبحث عن الزيادات أو النقصان المفاجئ في محتوى الإلكترون الذي قد يرتبط بالانفجارات أو الأحداث الأخرى.

  • خامسا: التحليل المقارن

تُقارن بيانات تأثير محتوى الإلكترون قبل وبعد أحداث الانفجار المعروفة، وتتيح هذه المقارنة معرفة كيفية تأثير الانفجارات على محتوى الإلكترون في “الأيونوسفير”، ومدى سرعة عودة الأيونوسفير إلى حالته الطبيعية بعد الحدث.

3 نتائج و4 تطبيقات

ومن خلال تطبيق “مرشح تنعيم سافيتزكي جولاي” على البيانات التي أمكن الحصول عليها، يوضح فريشح أن نتائجهم كشفت ما يلي:

  • أولا: استجابت طبقة “الأيونوسفير” للانفجار الشديد مرتين، وهما:
    الأولى: حدث التأثير بعد الانفجار في غضون دقائق قليلة، وكان التردد منخفضا، وسبب هذا التأثير “الموجات الصوتية”.
    الثانية: حدث الاضطراب الأيونوسفيري بعد أكثر من ساعتين من وقت الانفجار بتردد مرتفع مقارنة بالأول، وكان سببه “موجات الجاذبية الصوتية”.
  •  ثانيا: كانت سرعة الموجات في الاتجاه الشمالي للانفجار أبطأ من الموجات في الاتجاهين الغربي والجنوبي على التوالي.
  • ثالثا: كشفت البيانات وقوع انفجارين كبيرين في مرفأ بيروت، حيث كان الأول صغيرا، والثاني أكثر شدة.

ويقول فريشح: إن نتائجنا تعد مؤشرا مهما على أن اضطرابات الأيونوسفير تتأثر بنشاط موجة الجاذبية الصوتية الناجمة عن الانفجار، وليس بأحداث عشوائية أخرى، وهو ما يكون مفيدا في العديد من التطبيقات منها:

  • توفير معلومات قيمة عن خصائص الانفجارات:

فتحليل انتشار الموجات الصوتية وموجات الجاذبية الصوتية عبر الغلاف الجوي للأرض يمكن أن يوفر معلومات قيمة عن خصائص الانفجارات، مثل إطلاق الطاقة والموقع والتوقيت، وهذه المعلومات يمكن أن تساعد السلطات على تحديد سبب ومصدر الانفجارات، وتحسين أنظمة الكشف عن الانفجارات ومراقبتها.

  • مراقبة الانفجارات النووية:

في حال استبعاد الأسباب التي يمكن أن تتسبب بتأثير في الغلاف الجوي مثل البراكين والزلازل والانفجارات الشبيهة بما حدث في مرفأ بيروت، يمكن أن تكون دراسة العلاقة بين الانفجارات وما يحدث في الغلاف الجوي للأرض مفيدة في تتبع حدوث تجارب نووية في بعض الأماكن.

  • الملاحظات الفضائية:

دراسة التفاعلات بين الموجات الناتجة عن الانفجارات والغلاف الجوي للأرض، يعزز فهم ظواهر الطقس الفضائي، واضطرابات غلاف الأيونوسفير وتأثيرها على الاتصالات عبر الأقمار الصناعية وأنظمة الملاحة الفضائية.

  • نمذجة الغلاف الجوي:

فدراسة التفاعل بين الانفجارات والغلاف الجوي للأرض يوفر نظرة ثاقبة لديناميات الغلاف الجوي، بما في ذلك نقل الطاقة الصوتية، وتشتت الملوثات، والتذبذبات الجوية، وتساهم هذه المعرفة في نمذجة الغلاف الجوي، وتحسين فهمنا للعمليات الجوية والتأثيرات البيئية للانفجارات.

شاركها.
Exit mobile version