بعد سلسلة من الإجراءات الاحترازية التي قامت بها السلطات الصحية الأردنية للحيلولة دون دخول فيروس حمى غرب النيل إلى أراضيها أعلنت عن تسجيل أول إصابة لطفلة تبلغ من العمر 6 سنوات، وذلك بعد أن رُصد انتشار واسع في عدد المصابين بإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى في أوروبا.

ينتقل فيروس حمى غرب النيل عن طريق لدغة بعوضة، لكن اللافت أن المبيدات الحشرية لم تعد كافية لمواجهتها في ظل توفر الظروف المواتية لتكاثر البعوض والتي تمكنه من نشر ما يحمل من فيروسات، وذلك بسبب التغيرات المناخية وتزايد معدلات أنماط المناخ والطقس المتطرفة، وفق دراسة بحثية نشرتها مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم (بي إن إيه إس).

تغير المناخ وانتشار البعوض

أثر تغير المناخ بشكل كبير على انتشار البعوض في المنطقة العربية، خاصة شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر، وبالذات في أشهر الصيف الحارة يونيو/حزيران ويوليو/تموز وأغسطس/آب، ويعود ذلك وفق الباحث في شأن المناخ والصحة رفيق حمدان في تصريحاته للجزيرة نت إلى 3 عوامل رئيسية:

  • ارتفاع درجة الحرارة، إذ تعمل على تسريع دورات نمو البعوض، مما يؤدي إلى تكاثر أسرع، وتشير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن متوسط درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفع بنحو 1.5 درجة مئوية على مدى القرن الماضي، وقد أدى هذا إلى توسع موطن البعوض.
  • تغير هطول الأمطار المتزايدة والمتغيرة، والتي تؤدي إلى خلق المزيد من مواقع التكاثر، فعلى سبيل المثال شهدت بلاد الشام هطول أمطار أكثر تواترا وكثافة، مما أدى إلى زيادة المياه الراكدة، وهي مثالية لتكاثر البعوض.
  • مستويات الرطوبة المرتفعة التي تدعم بقاء البعوض ونشاطه، خاصة في المناطق الساحلية، مثل منطقتي البحر الأحمر ودلتا النيل.

ويتفق رئيس جمعية التنمية للإنسان والبيئة الأردنية الدكتور أحمد الشريدة في ذلك، مضيفا أن “العلماء لاحظوا خلال الـ20 سنة الماضية انتشارا كثيفا للحشرات بسبب التغيرات المناخية والاحتباس الحراري، مما شكّل بيئة خصبة لانتشار أنواع متعددة من البعوض”.

التغير المناخي وخطر التعرض للأمراض

كشفت نتائج دراسة بحثية حديثة نشرت في دورية “بلوس نيجلكتد تروبيكال ديزيزس” أن ما يقارب مليار شخص قد يواجهون خطر التعرض لمجموعة من الأمراض التي ينقلها البعوض بحلول 2080، وذلك بسبب انتشار تزايد أثر الاحتباس الحراري.

وتقول الدراسة إن الدول الأوروبية -بما في ذلك المملكة المتحدة- ستكون الأكثر تأثرا بدرجات الحرارة الشديدة وانتشار حمى الضنك وزيكا والشيكونغونيا (مرض فيروسي ينقله البعوض).

وحذرت منظمة الصحة العالمية من الانتشار السريع لحمى الضنك، وهو واحد من الأمراض التي يسببها البعوض، والتي لا تزال متوطنة في أكثر من 100 دولة.

ويقول حمدان في تصريحه للجزيرة نت إن للبعوض تأثيرا كبيرا على الصحة العامة، إذ يمكن أن تؤدي هذه الأمراض إلى مشاكل صحية كبيرة، فعلى سبيل المثال في عام 2020 أبلغت مصر عن زيادة في حالات حمى الضنك، مما وضع ضغوطا على أنظمة الرعاية الصحية.

ويفسر الباحث واختصاصي تغير المناخ عبد الله سكر نتائج الدراسة بأن التغير المناخي يساهم في مفاقمة الأمراض التي ينقلها البعوض من خلال آليات عدة مترابطة، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول الأمطار إلى تسريع دورة حياة البعوض، مما يتيح لها التكاثر وزيادة أعدادها بسرعة أكبر.

كما تعزز درجات الحرارة المرتفعة معدل نضج البعوض من يرقات إلى بالغة، مما قد يزيد وتيرة وشدة تفشي الأمراض، وهذه الظروف ملائمة لتكاثر وانتشار مختلف أنواع البعوض، مثل الزاعجة المصرية أو الزاعجة المرقطة بالأبيض المسؤولتين عن نقل أمراض مثل حمى الضنك وفيروس زيكا والشيكونغونيا.

ومع ارتفاع درجات الحرارة عالميا يمكن للبعوض البقاء والتكاثر في مناطق كانت غير ملائمة له سابقا، وهذا التوسع يزيد المناطق المعرضة لخطر الأمراض التي ينقلها البعوض، مثل الملاريا التي شهدت عودة ظهورها في مناطق كانت قد تم القضاء عليها سابقا.

وإلى جانب ذلك، يؤثر التغير المناخي على سلوك البعوض، فعلى سبيل المثال أصبح البعوض أكثر نشاطا خلال النهار بسبب ارتفاع درجات الحرارة، مما يزيد خطر انتقال الأمراض.

وبالإضافة إلى ذلك، أصبح البعوض أكثر مقاومة للمبيدات الحشرية نتيجة للتغيرات في فسيولوجيته وسلوكه.

وتؤدي التغيرات الحالية في المناخ إلى تغييرات في أنماط الزراعة، وبالتالي تغير في النظم البيئية الطبيعية والتنوع البيولوجي، مما قد يؤثر على علاقات الافتراس والفرائس وتوازن الأنواع.

وقد يؤدي هذا إلى زيادة في أعداد البعوض إذا تم تقليل مفترسيها الطبيعيين أو إذا كانت التغيرات البيئية الأخرى تفضل تكاثر وبقاء البعوض.

مع ارتفاع درجات الحرارة عالميًا، يمكن للبعوض البقاء والتكاثر في مناطق كانت غير ملائمة له سابقًا (بيكساباي)

كيف ينتقل المرض للإنسان؟

يقول حمدان في حديثه للجزيرة نت إن “الأمراض تنتقل من البعوض إلى البشر عن طريق اللدغات، فعندما تلدغ البعوضة شخصا مصابا تحصل على العامل الممرض الذي يتكاثر بعد ذلك داخل البعوضة، وعندما تلدغ البعوضة شخصا آخر ينتقل العامل الممرض إلى مجرى دمه”.

ويضيف “يبلغ متوسط عمر البعوض نحو 2-4 أسابيع على الرغم من أن هذا يمكن أن يختلف حسب الأنواع والظروف البيئية وتوافر مصادر الغذاء، أما عن تكاثره فتضع البعوض الإناث البيض في المياه الراكدة، ويفقس هذا البيض إلى يرقات، والتي تتطور إلى عذارى ثم بعوض بالغ، ويمكن أن تستغرق دورة الحياة بأكملها من 8 أيام إلى أسبوعين في ظل الظروف المثلى”.

لكن معظم الأمراض التي ينقلها البعوض في المنطقة العربية مباشرة من إنسان إلى آخر تتطلب ناقلا للبعوض لتتم عملية الانتقال.

ومع ذلك، يمكن أيضا أن تنتقل بعض الفيروسات مثل زيكا عن طريق الاتصال الجنسي أو من الأم إلى الطفل أثناء الحمل أو الولادة أو الرضاعة الطبيعية، وفق حمدان.

ويؤكد حمدان أن “المنطقة العربية تشمل البيئة المثالية لنمو البعوض وتكاثره بسبب درجات الحرارة الدافئة، وبشكل عام يحتاج البعوض ما بين 20 و30 درجة مئوية، ويحتاج للمياه الراكدة التي تعد ضرورية لوضع البيض”.

ويصاب نحو واحد من كل 5 مصابين بالحرارة وأعراض شبيهة بالإنفلونزا، ومنها الصداع وألم العين والإرهاق وآلام العضلات والمفاصل، وربما الطفح الجلدي.

ويصاب نحو واحد من كل 150 مصابا بمرض عصبي قد يسبب تورم وتلف الدماغ والوفاة، ويموت 100 شخص تقريبا شخص بسبب عدوى غرب النيل في الولايات المتحدة سنويا.

قدرة فائقة على التكيف

اتفق الباحثون الذين قابلتهم الجزيرة نت على أن البعوض يمكنه أن يتكيف مع درجات الحرارة بسهولة بالغة، وهو أبرز الكائنات التي أظهرت قدرتها الفائقة على التكيف مع التغيرات في البيئة والمناخ، والمؤشر على ذلك -وفق تصريح الشريدة- أنها لم تعد تستجيب لعمليات المكافحة الكيميائية أو الميكانيكية التي تقوم بها الدول لمحاربتها، وهذا يعني ظهور جينات جديدة قادرة على التأقلم والتكيف.

بدوره، يقول حمدان إن البعوض في المنطقة العربية أظهر قدرة ملحوظة على التكيف مع درجات الحرارة المتغيرة، وذلك يعني أنه قادر على البقاء والازدهار في مناطق جديدة مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، مما يوسع نطاقه ويزيد خطر انتقال الأمراض في المناطق التي لم تتأثر سابقا، ويعود ذلك وفق تصريحه إلى 3 تكيفات:

  • التكيف الجيني، حيث تتطور مجموعات البعوض لتحمّل درجات الحرارة المرتفعة، وأظهرت الدراسات في مصر تغييرات جينية في مجموعات البعوض تمكنها من الازدهار في المناخات الأكثر حرارة.
  • التكيف السلوكي: يضبط البعوض أوقات تكاثره وتغذيته لتجنب الحرارة الشديدة، وغالبا ما يصبح أكثر نشاطا عند الفجر والغسق.
  • التكيف الفسيولوجي: تسمح التغيرات في فسيولوجيا البعوض مثل تطوير الهياكل الخارجية الأكثر سمكا له بالبقاء على قيد الحياة في نطاقات درجات حرارة متنوعة.

ويؤثر الاحتباس الحراري في المنطقة العربية على انتشار البعوض وتكيفه بشكل أسرع من خلال توسيع الموائل، إذ تسمح درجات الحرارة المرتفعة للبعوض بالسكن والتكاثر في المناطق التي كانت شديدة البرودة في السابق، مثل المرتفعات في بلاد الشام، وتعمل درجات الحرارة الأكثر دفئا على إطالة موسم تكاثر البعوض، مما يؤدي إلى زيادة كثافة السكان وزيادة معدلات البقاء على قيد الحياة، فتعمل فصول الشتاء الأكثر اعتدالا والمناخات الأكثر دفئا على تحسين معدلات بقاء البعوض، مما يسمح لمزيد من البعوض بالبقاء على قيد الحياة خلال المواسم.

هل من حل؟

أما عن الحلول فقد أجمع الخبراء الذين قابلناهم أنه نظرا للانتشار المتزايد للأمراض التي ينقلها البعوض بسبب تغير المناخ فإن هناك حاجة ملحة لإنشاء مراكز بحثية مشتركة بين علماء المناخ والأطباء في المنطقة.

ويمكن لهذه المراكز المراقبة والتنبؤ من خلال تتبع التغيرات في أعداد البعوض وتفشي الأمراض، وتقديم التحذيرات المبكرة، ووضع إستراتيجيات فعالة لمكافحة البعوض والوقاية من الأمراض، وتعزيز التعاون بين الخبراء في علم المناخ والصحة العامة، مما يؤدي إلى حلول شاملة.

لكن بعيدا عن الآثار البيئية والصحية فإن تكلفة الرعاية الصحية لعلاج الأمراض التي ينقلها البعوض والخسائر الاقتصادية بسبب المرض والوفاة كبيرة، إذ أفاد البنك الدولي بأن التأثير الاقتصادي لحمى الضنك مثلا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد يصل إلى مليارات الدولارات سنويا بسبب تكاليف الرعاية الصحية وفقدان الإنتاجية.

وإلى جانب ذلك، فإنه على دول العالم الإتفاق على تدابير ملزمة أكثر تحديدا ووضوحا بشأن نفث الغازات الدفيئة -وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون- إلى الغلاف الجوي، حيث تتفق أغلبية الأبحاث في هذا النطاق على أن للبشر دورا في الاحترار العالمي.

شاركها.
Exit mobile version