تحمِل جهود باحث أميركي شهير آمالا في إعادة الخشب لعالم البناء، بعد أن خفت نجمه لصالح الخرسانة والصلب.

وكانت الأخشاب هي المادة الأساسية للبناء مدة طويلة جدا، فوفقا للبقايا المكتشفة مؤخرا لهيكل خشبي عمره نصف مليون عام في أفريقيا، فقد كان الخشب مادة أساسية في البناء في عصر الإنسان البدائي.

ومنذ تلك البدايات المبكرة، كان الخشب هو المفضل في مواد البناء لوفرته وقابليته للتشغيل. ومع ذلك، وفي السنوات الـ150 الماضية مع ازدهار المدن وناطحات السحاب، طغت المواد الأحدث مثل الخرسانة والصلب، حيث يمكن لهذه المواد أن تتحمل وزنا أكبر، مما يسمح ببناء مبان أكبر، كما أنها ليست عرضة للحرائق والزلازل والأضرار الناتجة عن الرطوبة.

ولكن إنتاجها يكلف أكثر، وهي غير متجددة، وتتسبب ببصمة كربونية ثقيلة، فإنتاج الصلب والخرسانة يمثل أكثر من 10% من الانبعاثات العالمية.

لكن أستاذ الهندسة في جامعة يوتا الأميركية كريس بانتيليدز، تمكن من تطويع الخشب ليقوم بنفس وظائف الصلب، بما قد يعيده من جديد لعالم البناء، كما نجح في إنتاج “دعامة الإبزيم المقيدة”، باستخدام كتلة من الخشب المركب.

ما هي “دعامة الإبزيم المقيدة”؟

ودعامة الإبزيم المقيدة، التي تعرف اختصارا بـ”آر بي بي”، هي نوع من العناصر الهيكلية المستخدمة في المباني لمقاومة القوى الجانبية، مثل تلك الناتجة عن الزلازل أو الرياح، وصُممت لامتصاص وتبديد الطاقة مع منع الانبعاج، وهو تشوه جانبي مفاجئ لا يمكن السيطرة عليه ويمكن أن يضر باستقرار المبنى أثناء الأحداث الزلزالية.

وتحتوي “دعامة الإبزيم المقيدة” على قلب فولاذي محاط بنظام تقييد يمنع الالتواء. ويوفر القلب الفولاذي القوة والليونة، بينما نظام التقييد -الذي يتكون عادة من ألواح فولاذية ومواد عالية القوة- يحصر القلب لمنع الحركة الجانبية، ويسمح هذا المزيج بالتشوه تحت الحمل دون أن يفقد المبنى قدرته على مقاومة القوى الجانبية، وبالتالي تعزيز الأداء الزلزالي الإجمالي.

وغالبا ما تُركب تلك الدعامات قطريا بين المكونات الهيكلية -مثل الكمرات والأعمدة- لتوفير الاستقرار الجانبي وتقليل استجابة المبنى للقوى الزلزالية.

إطار من الخشب المركب يتعرض لاهتزاز يعادل زلزال بقوة 7 درجات (جامعة يوتا)

ما الذي فعله بانتيليدز؟

ما فعله أستاذ الهندسة في جامعة يوتا الأميركية كريس بانتيليدز، أنه نجح في تطوير دعامة باستخدام “الأخشاب المركبة”، وهي عبارة عن تصفيح قطع خشبية أصغر لتشكيل عناصر هيكلية أكبر، وذلك على عكس الخشب التقليدي الذي يُنشر عادة من جذوع الأشجار.

ومرت عملية توظيف “الأخشاب المركبة” في إنشاء الدعامات بعدة خطوات وتقنيات تحدثت عنها بالتفصيل دراسة نشرتها دورية “جورنال أوف ستركشر إنجنيرنغ”، وكانت على النحو الآتي:

  • وضع التصور: وضع بانتيليدز وفريقه البحثي تصورا لفكرة تصميم “دعامة الإبزيم المقيدة التقليدية” القائمة على الفولاذ باستخدام الأخشاب المركبة عوضا عن ذلك.
  • اختيار المواد: اختار الفريق بعد ذلك مواد خشبية مناسبة لتطوير الدعامة، وتضمن ذلك اختيار النوع المناسب من كتلة الأخشاب، مع الأخذ في الاعتبار عوامل مثل القوة والمتانة والتوافق مع مواصفات التصميم المطلوبة.
  • التصميم والتصنيع: صُممت الدعامة لتلبية متطلبات مقاومة الزلازل مع استخدام الأخشاب المركبة كمادة أولية، وذلك باستخدام مبادئ الهندسة الإنشائية والنمذجة الحاسوبية والمحاكاة لتحسين التصميم من أجل الأداء والكفاءة، وبمجرد الانتهاء من التصميم صُنعت مكونات الدعامة باستخدام مواد خشبية مناسبة.
  • الاختبار: خضعت الدعامة الجديدة لاختبارات صارمة لتقييم أدائها في ظل الظروف الزلزالية، وتضمن الاختبار محاكاة لقوى الزلازل المطبقة على الدعامات التقليدية داخل بيئة معملية خاضعة للرقابة.

دعامات خشبية تقاوم الزلازل

وإذا كان الفولاذ بفضل قدرته على الانحناء وعدم الانكسار تحت الضغط؛ هو الحل الأمثل للمباني الشاهقة، خاصة في المناطق المعرضة لخطر الزلازل أو الأعاصير، فالحفاظ على السلامة الهيكلية للمبنى يعتمد على الفهم العميق لمثل هذه الخصائص، وهو الفهم الذي لم نكن نملكه مع الأخشاب ذات الكتلة الأكبر، وهذه هي النقطة المميزة لدراسة بانتيليدز، كما يوضح بيان صحفي أصدرته جامعة يوتا الأميركية.

وبسبب تركيباتها المتنوعة، فإن كتلة الخشب بعيدة كل البعد عن كونها مقاسا واحدا يناسب كل المباني، فنوع الخشب المستخدم وحجم وشكل جزيئات الخشب وكيفية التصاقها ببعضها البعض، أو حتى ما إذا كانت الطبقات الفردية مكدسة بالتوازي أو متعامدة مع بعضها البعض، كل ذلك سيؤثر بشكل كبير على كيفية تفاعل المنتج النهائي تحت الضغط.

ومنذ أن بدأ بانتيليدز أول مرة في دراسة كتلة الأخشاب، كان يستكشف الأخطاء ويجرب “وصفات” مختلفة، وتوصل في النهاية إلى وصفة لتحويل خشب التنوب الداكن إلى رقائق، ثم تصفيح تلك الطبقات معا بألواح خشبية باستخدام غراء قوي للغاية، وبعد ذلك ثُبّت الخشب الرقائقي الناتج بشكل آمن على قطع أخرى من الخشب باستخدام وصلات مصنوعة من مسامير وألواح فولاذية.

وباستخدام هذه الصيغة قام بانتيليدز وفريقه بتجربة فاعلية الدعامات الخشبية في مقاومة الضغوط التي تسببها الزلازل.

كيف تصمد الأخشاب أمام الزلازل؟

وفي الهندسة المعمارية التقليدية تمتص الدعامات غير الخشبية القوة الزلزالية بعيدا عن إطار المبنى، وتعيد توجيهها إلى قلب فولاذي داخل الدعامة، والتي عادة ما تكون مغطاة بأنبوب فولاذي مملوء بالخرسانة.

وبدلاً من تعريض السلامة الهيكلية للمبنى بأكمله للخطر، فإن الدعامات فقط هي التي ستتعرض لأضرار جسيمة وتحتاج إلى الاستبدال.

وركز بانتيليدز على تطوير الدعامات الخشبية، بحيث لا تزال تستخدم شريطا يشبه القلب الفولاذي مصنوعا من الأخشاب المركبة ومصمما خصيصا للإطارات الخشبية الضخمة.

وفي أحد مختبرات الجامعة اختُبرت هذه الدعامة الخشبية باستخدام جهاز عملاق يحاكي تأثير النشاط الزلزالي، فخضعت لاختبارات وقوع زلزال بقوة 7 درجات، وأظهرت نتائج مماثة للدعامة التقليدية.

خطوة على طريق طويل

رغم النتائج الإيجابية التي رصدها بانتيليدز وفريقه البحثي، فإنها تظل خطوة على طريق طويل، يتضمن المزيد من الخطوات وصولا إلى اعتماد عودة الخشب إلى عالم البناء، كما يوضح أستاذ الهندسة الإنشائية بجامعة المنوفية المصرية خالد عبد الباري.

وفي حديث هاتفي مع “الجزيرة نت” يذكرعبد الباري بعض تلك الخطوات ومنها:

  • أولا: مواصلة التأكد من السلامة الهيكلية للمباني القائمة على “الأخشاب المركبة”، لا سيما بمقارنتها مع المواد التقليدية مثل الفولاذ والخرسانة، ويتضمن ذلك فهم كيفية أداء تلك الأخشاب في ظل الضغوط المختلفة مثل النشاط الزلزالي.
  • ثانيا: تحسين تركيبة كتلة الأخشاب، بما في ذلك نوع الخشب المستخدم، وحجم وشكل جزيئات الخشب، وتقنيات الربط المستخدمة، ويتضمن هذا التحسين التأكد من أن “الأخشاب المركبة” ليست فقط سليمة من الناحية الهيكلية، ولكنها أيضا فعالة من حيث التكلفة ومستدامة بيئيا.
  • ثالثا: مواصلة العمل مع الهيئات التنظيمية لضمان تحديث قوانين البناء لاستيعاب هذا الأسلوب في البناء، ويتضمن ذلك إظهار سلامة وموثوقية المباني القائمة على “الأخشاب المركبة” من خلال الاختبارات والتحليلات الصارمة.
شاركها.
Exit mobile version