كما أن البكتيريا في الجسم البشري تتكيف مع التغيرات البيئية المتمثلة في استخدام المضادات الحيوية، باستخدام إستراتيجيات متعددة تمكنها في النهاية من مقاومة الدواء، فإن بعض البكتيريا الموجودة في مياه الصرف الصحي تفعل الشيء نفسه مع دواء “الميتفورمين” الذي يصلها بكميات كبيرة، إذ إن بعضها يواجه وجوده بتحليله إلى مركبين هما “جوانيليوريا” و”ثنائي ميثيل أمين”.

و”الميتفورمين” دواء شائع على نطاق واسع، ويوصف لمرضى السكري من النوع الثاني، ويبقى في شكله الأصلي عندما يتخلص الجسم منه عبر البول والبراز، ولهذا السبب فإنه مثل العديد من الأدوية الأخرى التي يستهلكها المرضى، يشق طريقه إلى نظام الصرف الصحي.

تحديد البكتيريا .. نقطة البداية

ولا تستطيع أنظمة معالجة مياه الصرف الصحي التخلص من هذا الدواء نهائيا، وبالتالي عندما تُضخ المياه إلى شبكات المياه المحلية مثل الجداول والأنهار والبحيرات والمحيطات، يمكن أن يؤثر “الميتفورمين” سلبا في الحياة المائية، وهذه مشكلة كبيرة.

ويزعم فريق بحثي من علماء الكيمياء الحيوية في جامعة مينيسوتا الأميركية خلال دراسة نشرت في مجلة “بروسيدنجز أوف ذا ناشيونال أكاديمي أوف ساينس”، أنهم تمكنوا من قطع خطوة كبيرة على طريق حل هذه المشكلة عن طريق اكتشاف اثنين من الجينات البكتيرية المسؤولة عن إنتاج البروتينات القادرة على تحطيم “الميتفورمين” في مياه الصرف الصحي.

وبدأت قصة هذا الاكتشاف بملاحظة تم تسجيلها في دراسات سابقة، حيث وجدوا أن مستويات “الميتفورمين” في مياه الصرف الصحي كانت في بعض محطات المعالجة نسبتها أقل مما كانت عليه في الداخل، فقادهم ذلك إلى تحديد البكتيريا المحددة المسؤولة عن تحلل الدواء، ولكن بقي اللغز الذي كانوا بحاجة إلى حله هو معرفة الجينات الموجودة داخل البكتيريا المسؤولة عن هذا الإنجاز.

كيف حُل اللغز؟

ويشرح الباحثون في دراستهم الجديدة خطوات حل هذا اللغز، والتي جاءت على النحو التالي:

  • عزل الجينات المرشحة: قام الباحثون بعزل الجينات التي يُمكن أن تشارك في إنتاج البروتينات القادرة على تحطيم الميتفورمين، واختيرت هذه الجينات بناء على المعرفة السابقة لعملية التمثيل الغذائي البكتيري وانهيار المركبات المماثلة.
  • اختبار الجينات المرشحة: فقد اختبر الفريق هذه الجينات المرشحة لتحديد ما إذا كانت مسؤولة بالفعل عن انهيار “الميتفورمين”، وأجروا تجارب لتقييم نشاط هذه الجينات في سلالات بكتيرية مختلفة.
  • تحديد الجينات المسؤولة: حدد الباحثون من خلال تجاربهم جينين محددين هما “إم إف إم إيه” و”إم إف بي بي” الموجودين في خمسة أنواع مختلفة من البكتيريا، وهذه الجينات تُشفر البروتينات القادرة على تحطيم “الميتفورمين” إلى مركبي “جوانيليوريا” و”ثنائي ميثيل أمين”.
  • فهم الآلية: كشف التحليل الإضافي أن تَحلّل “الميتفورمين” بواسطة هذه البروتينات يتضمن عملية تعتمد على “ربط النيكل”، وتوفر هذه الرؤية لآلية العمل معلومات قيمة لفهم كيفية استقلاب البكتيريا للميتفورمين. ويشير “ربط النيكل” إلى الدور الذي تلعبه أيونات النيكل، فعندما تكون موجودة في البيئة البكتيرية حيث تلعب دورا حاسما في تسهيل النشاط الأنزيمي للبروتينات المشاركة في انهيار “الميتفورمين”، فمن خلال الارتباط بالبروتينات تعمل على تعزيز كفاءتها التحفيزية، مما يسمح بتحلل أكثر فعالية لجزيئات “الميتفورمين”.
  • الآثار التطورية: اكتشف الباحثون أيضا أدلة تشير إلى أن هذه البكتيريا طورت القدرة على استقلاب “الميتفورمين” على وجه التحديد بعد أن بدأ الدواء في الظهور في أنظمة الصرف الصحي، ويسلط هذا التكيف الضوء على الاستجابة التطورية للبكتيريا للتغيرات البيئية الناجمة عن الأنشطة البشرية.
المعالجة الحيوية لمياه الصرف الصحي، قد تكون أحد التطبيقات المحتملة لاكتشاف الجينات المسؤولة عن تحطيم "الميتفورمين"

تطوير إستراتيجيات للتخفيف

تساهم الدراسة -وفقا لما توصلت له من نتائج- في تطوير إستراتيجيات للتخفيف من الأثر البيئي للأدوية في مياه الصرف الصحي، كما يوضح أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة إلمنيا (جنوب مصر) خالد خاطر.

يقول خاطر في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، إن هذه الاستراتجيات يمكن أن تشمل:

  • أولا: إجراء معالجة حيوية تتضمن إدخال بكتيريا محددة لأنظمة معالجة مياه الصرف الصحي، أو تعزيز نمو البكتيريا الموجودة بالفعل لتعزيز تحلل المخلفات الصيدلانية.
  • ثانيا: استكشاف تقنيات الهندسة الوراثية لتعديل السلالات البكتيرية، من أجل زيادة التعبير عن الجينات المسؤولة عن تحلل المركبات المستهدفة أو إدخال مسارات استقلابية جديدة لتحقيق تحلل أكثر كفاءة.
  • ثالثا: تطوير أنظمة للترشيح البيولوجي تتضمن البكتيريا القادرة على استقلاب المستحضرات الصيدلانية، ويمكن دمج هذه الأنظمة في محطات معالجة مياه الصرف الصحي لإزالة المخلفات الصيدلانية قبل تصريف المياه المعالجة في البيئة.

ويضيف خاطر، أنه من أجل تفعيل الفائدة التطبيقية للاكتشاف الجديد يحتاج الباحثون للإجابة على سؤالين، هما :

  • كيف تؤثر العوامل البيئية مثل الرقم الهيدروجيني ودرجة الحرارة وتوافر العناصر الغذائية على نشاط وكفاءة البكتيريا المحللة لـ”الميتفورمين” في أنظمة معالجة مياه الصرف الصحي؟
  • وما هو تنوع وتوزيع البكتيريا التي تمتلك جينات محللة لـ”الميتفورمين” في محطات معالجة مياه الصرف الصحي المختلفة والبيئات المائية، حيث إن فهم مدى انتشار هذه البكتيريا ووفرتها يوفر نظرة ثاقبة لدورها البيئي والتباين المحتمل في قدراتها الأيضية.
شاركها.
Exit mobile version