منذ بداية تصنيع البلاستيك في أوائل القرن العشرين وهيمنته على كثير من الصناعات في نصفه الثاني، أصبح يستخدم على نطاق واسع. ولقدرته الفائقة على التشكل والتكيف، إلى جانب مجموعة واسعة من الخصائص الأخرى، مثل كونه خفيف الوزن ومتينا ومرنا وغير مكلف في الإنتاج، فقد نجح في استخدامات شتى، مما تسبب في حدوث مشكلات بيئية واسعة النطاق بسبب معدل تحلله البطيء في النظم البيئية الطبيعية.
تحلل شديد البطء
التركيب الكيميائي لمعظم أنواع البلاستيك مستقر جدا، مما يجعله مقاوما للكثير من عمليات التحلل الطبيعي، ويعتمد التحلل على الهيكل الكيميائي لمركب البلاستيك، وأهم عمليات التحلل هي الأكسدة الضوئية، بينما يستغرق التحلل البحري وقتًا أطول نتيجة للبيئة المالحة وتأثير التبريد في البحر.
وهذا يساهم في استمرار وجود الحطام البلاستيكي في البيئات البحرية، وقد قدّمت منظمة حماية المحيطات تقديرات لمعدلات تحلل بعض المنتجات البلاستيكية تتراوح بين 50 و600 عام.
عندما تدفع التيارات السطحية التلوث البلاستيكي من السواحل إلى المناطق التي تحبس فيها التيارات الدوارة الأجسام العائمة -والتي تتراكم بمرور الوقت- تتشكل دوامات من بلاستيك المحيطات، ويوجد في العالم ما لا يقل عن 5 دوامات موبوءة بالبلاستيك، أو “بقع القمامة”.
وتحتوي منطقة شمال المحيط الهادي شبه الاستوائية -الواقعة بين كاليفورنيا وهاواي- على أكثر البلاستيك العائم، حيث يقدر بحوالي 79 ألف طن متري من البلاستيك في منطقة تزيد مساحتها على 980 ألف كيلومتر مربع.
مستوطنات جديدة
وقد اكتشف الباحثون سابقا أن النباتات والحيوانات الساحلية قد وجدت طريقة جديدة للبقاء على قيد الحياة في المحيطات المفتوحة، من خلال استعمار مناطق التلوث البلاستيكي، بحسب ما أفاد مقال نشر يوم 2 ديسمبر/كانون الأول 2021 في دورية “نيتشر كوميونيكيشنز” (Nature Communications)، والذي أفاد بأن الأنواع الساحلية تنمو على القمامة التي تمتد لمئات الأميال في البحر في شمال المحيط الهادي شبه الاستوائي، والمعروفة أكثر باسم “رقعة القمامة الكبرى في المحيط الهادي”.
تذكر لينسي هارام، المؤلف الرئيسي للمقال وزميل ما بعد الدكتوراه السابق في مركز سميثسونيان للبحوث البيئية (SERC)، في بيان نشر على موقع المركز، أن “أضرار البلاستيك تتجاوز مجرد الابتلاع والتشابك. إنها تخلق فرصا للجغرافيا الحيوية للأنواع الساحلية لتتوسع بشكل كبير بما يتجاوز ما اعتقدنا سابقا أنه ممكن”، ويطلق المؤلفون على هذه المجتمعات “نيوبلاجيك” (neopelagic)، حيث كلمة “نيو” تعني جديد، وكلمة “بلاجيك” تشير إلى المحيط المفتوح.
وقد بدأ العلماء في الشك أول مرة في أن الأنواع الساحلية يمكن أن تستخدم البلاستيك للبقاء على قيد الحياة في المحيط المفتوح لفترات طويلة بعد التسونامي الياباني عام 2011، عندما اكتشفوا أن ما يقرب من 300 نوع قد طافت على طول الطريق عبر المحيط الهادي على حطام التسونامي على مدى عدة سنوات، ولكن حتى الآن، كانت المشاهدات المؤكدة للأنواع الساحلية على البلاستيك مباشرة في المحيط المفتوح نادرة.
إلا أن المدى الذي وصلت إليه الأنواع الساحلية التي كان يفترض في يوم من الأيام أنها غير قادرة على البقاء على قيد الحياة لفترات طويلة في أعالي البحار -والتي قفزت على متن أكوام طافية من النفايات البلاستيكية- ظل غير معروف إلى حد كبير، فما الأنواع التي وجدت ملجأ في النفايات؟ وما المجتمعات الجديدة التي تتشكل في أعالي البحار خارج حدودها المعتادة؟
أنواع أكثر شيوعا وتنوعا
يشرح المقال الذي نشرته “ساينس ألرت” (Science Alert) في 18 أبريل/نيسان الجاري، أن هارام قد أخذت عينات من الحطام من رقعة النفايات الكبرى في المحيط الهادي والكتلة الدوامة من العوامات البلاستيكية، والدلاء والزجاجات والحبال وشبكات الصيد التي لا تزال تتراكم في شمال المحيط الهادي على بعد آلاف الكيلومترات من أي خط ساحلي، والتي يعتقد -كما تظهر الدراسات الحديثة- أن معظمها قد جاء من 5 دول صناعية تعمل في مجال الصيد.
وبناء عليه، تشير أحدث دراسة لهارام نشرت في 17 أبريل/نيسان الجاري في دورية “نيتشر إيكولوجي آند ايفولوشن” (Nature Ecology & Evolution) إلى أن مجتمعات الأنواع الساحلية التي جرفت على النفايات البلاستيكية كانت أكثر شيوعا وتنوعا مما كان يشتبه فيه العلماء سابقا.
فقد تم العثور على أنواع من اللافقاريات الساحلية مثل القشريات وشقائق النعمان البحرية والطحالب على حوالي 70% من المواد البلاستيكية البالغ عددها 105 التي شملتها الدراسة، كما أن عدد الأنواع الساحلية وثراءها التصنيفي في تلك العناصر يفوق بكثير تنوع الأنواع البحرية التي توجد عادة في المحيط المفتوح.
كما كتب الباحثون في ورقتهم الجديدة “يبدو أن الأنواع الساحلية لا تزال موجودة الآن في المحيط المفتوح كمكون أساسي لمجتمع البحيرات الجديدة الذي يعيشه البحر الشاسع والمتسع من الحطام البلاستيكي”.
ومن اللافت كذلك أن اللافقاريات الساحلية لم تكن على قيد الحياة فحسب، بل كانت على ما يبدو تزدهر في موطنها العائم المكتشف حديثا، فقد تم العثور على هيدرات تشبه السرخس (مرتبطة بقنديل البحر والشعاب المرجانية) تحمل هياكل تكاثرية بين القمامة جنبا إلى جنب مع أمفيبود (نوع من القشريات) حاملة للبيض، وشقائق النعمان البحرية بأحجام مختلفة.
مزيد من البحث
ويبقى التساؤل قائما: كيف تعيش اللافقاريات الساحلية في بيئة تختلف عن بيئتها، فهي بطريقة ما تجد الطعام في جزء من المحيط قد أطلق عليه علماء البحار البعيدة اسم صحراء الطعام.
وقد حذرت هارام وزملاؤها من أن البلاستيك يقوم بالفعل بتحويل النظم البيئية البحرية بطرق مقلقة، وإذا غامرت اللافقاريات الساحلية بالخروج إلى البحر على متن أطواف من الحطام العائم، فقد تبدأ في “تغيير جذري” للمجتمعات المحيطية.
لذا يعتقد الفريق أن المزيد من البحث لفحص المجتمعات التي تتجول على النفايات البلاستيكية العائمة من شأنه أن يساعدنا على الأقل في فهم التغييرات الجارية، وتتوقع هارام وزملاؤها اكتشاف المزيد من الأنواع الساحلية التي تقوم برحلتها الأولى إلى أعالي البحار من خلال دراسات مستقبلية، ويأملون في فهم ما إذا كانت هناك اختلافات بين أنظمة دوران التيارات المحيطية في نصف الكرة الشمالي والجنوبي.